«صيف الغمام العظيم»… سريالية حتّى الأعماق

د. يوسف فرج عاد

«صيف الغمام العظيم» لمؤلّفه صلاح ستيتيّة، ومترجمه الناقد والشاعر النائب الدكتور مروان فارس، من يقرأ هذا الكتاب يدرك أنّه يصعب عليه فهم معظمه، ذلك أنّ نصّه يغوص في الرمزيّة والسرياليّة حتّى الأعماق، لكن، قد يتمكّن المرء من مقاربة بعض الأفكار المطروحة من خلال عناوين متعدّدة مستلّة من الطبيعة، يشارك بها الإنسان، ويمتزج فيها، ويغوص في كنهها، وفي أعماق أعماقها، متناولاً الحياة بما فيها المرأة والرجل، والطبيعة، والسماء، والنجوم، والأرض، والماء، والثلج، والغابات… وما تضمّ من حبٍّ وغرام، وهيام، وورود، وياسمين، وزهر، وشحارير، ويمام، ودوريّ… ما يعني الحياة بكلّ ما فيها.

إنّ الأسماء الواردة واضحة، غير أنّ المضمون صعب الفهم، لأنّ صلاح ستيتيّة في نصّه عالي النبرة، ويفوق فهمنا بما يتضمّن من معانٍ خارقة في أبعادها.

يطرح صلاح ستيتيّة في كتابه موضوعاً بموضوعات متعدّدة، فيعود إلى الأصول ينهل منها، مركّزاً على الطبيعة، وعلى النقاء، وهو متسامٍ أبداً، متطلّع إلى الفوق، ليس أمامه أحد، ولم يسبقه أحد، هو النجم، يقول: «مربوطاً بنجوميّة النجمة» ص 21 .

أضف إلى أنّ صلاح ستيتيّة مؤمن، من خلال تعابير دينيّة واردة في كلامه: «الفتى في داخله المسيح» ص 20 .

إنّ الشاعر معتمد على الأنا، واعتماده على أناه بالغ مبلغاً قصيّاً، ولعلّه متفائل، ومتشاوف في آن، ذلك أنّه يعتبر وضعه مختلفاً عن الآخرين. يقول: «أنا عندي، وعلى أرضي»، «أنا عندي، على كوكبي» ص21 .

يبرز ذلك في كوكبه الخاصّ، في هذه «الياء» الصارخة بـ«الأنا»، مشيراً إلى محدوديّة معظم الناس، ذلك أنّ معظمهم بعيدٌ عن معرفة الحقائق، أو عن كشفها. يقول: «رجال هنا، نساء هنا»، «أكياس من أحلام» ص 21 .

فهذا التكديس في الفكر يكشف لك عبر لغة سهلة، تمكّن العامّة من فهم بعضها، وذلك بارز في قوله: «شعب يدور بدواليب تدور» ص21 . غير أنّ الكلام السالف فيه دلالة على بساطة الشعب، وعلى عدم تطلّعه إلى الفوق: «أكياس أحلام، شعب يدور» ص21 . ويرى في مكان آخر أنّ «المسيح. كلّ أحد هو مسيح» ص21 . ونتساءل: هل مسيحه مسيح عذاب؟ أو مسح إيمان، أو مسيح تضحية؟

يبدو أنّ الشاعر معذّب كما المسيح، أو أنّه يتقمّص العذاب، وهذا ما حمله على القول: إنّ الشعب، كلّ الشعب معذّب. غير أنّه ليس قادراً أن يكون كما المسيح: ذلك أنّ المسيح ضحّى من أجل الكلّ، ليخلّص الكلّ، ويفتدي الكلّ، بينما الشاعر: «يدير ظهره للجميع» ص 25 ، وما إدارة الظهر، في عُرفنا، إلّا دلالة على اللامبالاة الصاعدة من إنسان، والخارجة منه، فكيف بشاعر عميق الإحساس، ومدرك أبعادَ الوجود والكون، ويقرأ الممحوّ، ويدرك اللامقروء. يقول:

«بيني وبينها هنالك الوردة النقيّة

بين انفراجات الورود عن الأفكار

هذا الجسرُ أمسكه، أمسكُ به، وأتمسّك». ص 25 .

وأقول: هل هذا الشاعر متشائمٌ! لكن، لعلّه يمزج التشاؤم بالفرح، والطبيعة، والشباب، والكهولة. ولعلّ هذا المزج هو نتاج واقع لامسه الشاعر، أو عايشه. يقول:

«هناك مبيع للياسمين

لماذا نمزج بين هذا الولدِ والتاريخ؟

وجهه الطريُّ وقد افترسه العدم» ص 30 .

بين عناوين الشاعر الكثيرة، لفتني عنوان، وشدّ انتباهي، وهو الخوف. وبعرفنا: الشعراء لا يخافون، فهل يخاف الشاعر ص12 ؟ وممّ يخاف؟ ولماذا؟ وقد تتعجّب من مصادر خوفه، لكن، لماذا يطرحها هكذا؟!

وهل يطرحها ليثير انتباهنا؟ وقد يكون ذلك، لكن، لماذا يخاف من الفكر تحديداً؟! وهل الفكر مخيف؟ إنّ كلامه مَثار للعجب، والتساؤل، يبدو ذلك في قوله:

«أخاف. هل أخاف حقّاً

أخاف… أخاف من الحياة

أخاف من الأصدقاء

أخاف من الفكر». ص31 .

أمّا الحبّ فهو عظيم عند الشاعر، بارز في أناه، أناه المسيطرة على كتابه «صيف الغمام العظيم» ص 69 ، ولعلّ في حبّه غرابة، أو لعلّ حبّه حبّ مثاليّ! يقول:

«أحبّ منك المرأة الهاربة

وأحبُّ من العصفورة ريشةً هاربة» ص69 .

ونتساءل: هل امتلأ الشاعر بالحبّ حتّى راح يطلب الهروب منه، ذلك أنّه بحاجة إلى قوىً عاتية لتهدئته؟ يقول: «إنّ انحناءاتِ أحشائكِ تهدّئها البحار»، ص69 .

يؤكّد كلامنا ما يقوله عن الحبّ بصريح العبارة، ذلك أنّه راح يتحدّث عن الحبّ حديثاً عاديّاً، خالياً من المعاناة، وكأنّ الحبّ لا يعنيه، هنا، أو هو مجرّد كلام. يؤكّد ذلك قوله: «في بلاد حيث تكلّمنا عن الحبّ» ص 69 .

أمّا صمت الشاعر، فهو صمت مختلف عن السكوت، وهل أهمّ من السماع إلى الصمت، كما يطرحه؟ وما الفرق بين الصمت والسكوت. وتراه كيف يعبّر عن الصمت والسكوت، بهذه الصورة الجذّابة: «استمع إلى الصمت فيصمت»، ص 71 . ونتساءل: ما هي الحال التي يمرّ بها الشاعر حتّى راح يستمع إلى الصمت؟ وكم هو رهيب في هذا الكلام، وفي تطلّعه إلى المطلق والمعمّى؟ فهل للصمت صوت لنستمع إليه؟ ويأتيك الجواب عندما يصمت السكوت، فهل للسكوت صوت أيضاً؟

نحن في عصر ستيتيّة، وهو عصر مختلف عن سائر عصورنا، فقد حلّق فيه الشاعر عبر لغّة المفكّر الدكتور مروان فارس إلى الفوق، بهذه الحبكة اللغويّة الأخّاذة، والسهلة، والبسيطة، حيث أبرزت لنا عَمْلقة الفكر، وطارت به، وحلّقت إلى الأجواء العليا، فرفعتنا معها عبر أثيريّة خياليّة نادرة، خارقة، خلّاقة.

لقد عرف الشاعر كيف يمرّر آراءه في صور شعريّة، في بساتين مليئة بالمنوّعات، بالأسرار، بالحبّ، بالعشق، بالخوف وبالينابيع.

وفي الخلاصة: أفكار متعدّدة، متنوّعة، تملأ هذا الكتاب، وتأخذنا عبر مسارات نَحار في تفسير بعضها، وإن كان معجم صلاح ستيتيّة هو معجم الطبيعة الغارقة بالفتيات والفتيان والطيور، غير أنّه معجم الحياة التي تعجّ بالحركة. نستطيع أن نقول: إنّ صلاح ستيتيّة أغرقنا بفيض من الأفكار والآراء المتعدّدة والمختلفة. وقد تلقّفناها بأسلوب مشرق هو أسلوب، الدكتور مروان فارس، السهل الممتنع، الواضح، المفهوم، لغة البساطة، الناقلة الآراء بلا صناعة أو تكلّف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى