الغطاء السعودي للنفوذ الأميركي سبب بلاء العالم الإسلامي!!
د. وفيق إبراهيم
الاعتقاد الشائع بأنّ النفوذ الأميركي يوفّر مظلّة حماية لآل سعود لا يجافي الحقيقة، لكنّه لا يُغطي أبعاد العلاقة الكاملة بين الطرفين. فهناك نسبة عالية منها تؤدّي فيها السعودية دور «مزيل» العقبات المتنوّعة أمام الهيمنة الأميركية على معظم العالم الإسلامي، خصوصاً بلدان «الشرق الأوسط». وانطلاقاً من أنّ «الشرق الأوسط» هو «قلب العالم» ومنطقة «النفط والغاز»، والجهة الأكثر استهلاكاً للسلع و«الأسلحة الأميركية»، فكان لها النصيب الأوفر من الإحاطة الأميركية حتى الخنق. وهذا ما يفسّر ثلاث زيارات متتالية بين الطرفين حدثت في أقلّ من شهرين الأولى إلى واشنطن، حيث تعهّد وليّ وليّ العهد محمد بن سلمان بالتصدّي «للإرهاب الإيراني» كما قال، على أنغام توقيعه لصفقات بـ200 مليار دولار متعهّداً بدفع 300 مليار دولار أكلاف «مناطق آمنة» مزعومة في سورية، وربما العراق. فيما هدّد وزير الخارجية الأميركي تيلرسون في الزيارة الثانية إلى الرياض إيران بأنّها ستلقى تأديباً كبيراً لرعايتها الإرهاب.
أمّا وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، فاتّهم من الرياض أيضاً، وأمام المسؤولين السعوديين، طهران بأنّها تطلق من أعالي صعدة اليمنية صواريخ على المناطق السعودية المقابلة، وتجب إزالة هذا الخطر، حسب زعمه.
فما هو سرّ هذا التناغم الأميركي السعودي في استعداء إيران؟ ولمصلحة مَن؟
بداية، يجب تأكيد أنّ أهمية «الشرق الأوسط» الاقتصادية والاستراتيجية، جعلته جزءاً أساسياً من الجيوبوليتيك الأميركي، حتى بدا وكأنّ واشنطن نقلت حدودها مع المحيط الأطلسي إلى بحار المتوسط والأحمر ومياه الخليج مع قواعدها في بلدان المنطقة بالمئات.. هناك عشر قواعد منها منتشرة في العراق فقط.
إيران إذن هي مضمون المحادثات في الزيارات الثلاث، فهل تشكّل إيران خطراً على السعودية؟ الواضح أنّ الرياض تختلق ذرائع لمعاداة طهران من دون أسباب وجيهة، فلم يسبق للإيرانيين أن هاجموا السعودية منذ نجاح ثورتهم الإسلامية في 1979، لا بل صمتوا عن الدعم السعودي لصدام حسين الذي هاجمهم بضراوة في 1980.
وسكتوا عن الاستهداف السعودي لحلفائهم في المشرق العربي وآسيا الوسطى، ولم يردّوا على محاولات تنظيم معارضات مسلحة من البلوش وعرب الأحواز بواسطة المخابرات السعودية، لأنهم على علم بأنّ هذا العداء السعودي لهم ليس له أسباب سعودية، فالذي يُمسك بالعالم الإسلامي في باكستان وأندونيسيا وأفغانستان وتركيا وجمهوريات آسيا الوسطى والشرق الأوسط هي السياسة الأميركية فقط. أمّا السعوديون وأمثالهم، فهم الأدوات التي تروّج لها وتمدّ السبل أمامها. وإلا كيف نفسّر عدم وقوع مجرّد اشتباك عابر بين البحريتين الإيرانية والسعودية في مياه الخليج! وهل كانت الرياض تمسك بالعراق قبل الاجتياح الأميركي؟ أو بمصر قبل السادات؟ حتى أنّها لم يسبق لها أن تحكّمت بسياسة لبنان، البلد الصغير، إلا بالتسوية مع السوريين!
أمّا حكايات سيطرتها على الخليج، فلا ترقى حتى إلى مستوى الدعاية، لأنّ واشنطن تمتلك قواعد عسكرية مباشرة لها في الكويت وقطر والبحرين، ناهيك عن دولة الإمارات، يا طويل العمر!
وبالاستنتاج، يتبيّن أنّ باكستان التي أنتجت قنبلة نووية بعقول علمائها والأموال السعودية، لم تكن لتفعل ذلك من دون المظلة الأميركية.
ويبدو أنّ الاهتمام الأميركي بالصواريخ اليمنية التي تطلق باتجاه الأراضي السعودية، ذريعة أميركية لإضفاء الطابع الإيراني على العداء مع الرياض، وذلك لاستثارة الدور السعودي المناهض لإيران لأسباب يعتقد السعوديون أنها خاصة بهم. وقد ينتظرون طويلاً قبل أن يعرفوا أنّهم مجرّد أدوات تستعملها واشنطن للقضاء على مركز الخطر الذي يتهدّد نفوذها في الشرق الأوسط. فالمخابرات الأميركية تعرف أنّ اليمن محاصر براً وبحراً وجواً، ما يؤكّد على أنّ هذه الصواريخ موجودة في اليمن قبل ثلاثة أعوام على الأقلّ. فهل نسي الأميركيون أنّ السعودية هي التي تجتاح اليمن وتقتل أهله وتدمّر بنيانه منذ عامين متواصلين في أعنف هجوم بربري خدمة للسياسات الأميركية؟
وهناك أهميات استراتيجية للسعودية يستنزفها الأميركيون أولها الثروة النفطية التي تموّل السياسات الأميركية العدوانية في العالم والشرق الأوسط، وتضخّ قسماً للشركات الأميركية والغربية ثمناً لأدوارها في استخراج النفط وبيع السلع والسلاح. وبعد أن يأخذ آل سعود عمولتهم، يدفعون ما يشبه الرّشى لمعظم بلدان العالم الإسلامي كوسيلة لضبطها.. إنّما في سبيل مَن؟ هل هناك استراتيجية سعودية للسيطرة على العالم؟ أمّ أنّ هناك سلعاً تريد السعودية تسويقها؟ فهي بالمحصلة لمصلحة النفوذ الأميركي وبشكل كامل..
الأهمية الثانية للسعودية هي في الحرمين الشريفين اللذين يمدّانها بنفوذ قوي عند المسلمين في العالم، فتحظى بمكانة تسمح لها باختراق مجمل أنواع الأنظمة في العالم الإسلامي وتطويعها في إطار السياسات الأميركية.
وينطبق الأمر على شعيرة الحج المقدسة عند المسلمين، فتزيد السعودية من أعداد المسموح لهم في بلدان مطواعة لها، وتقلّصها في دول غير صديقة للسياسة الأميركية. وللرياض أيضاً تأثير كبير على المسلمين بواسطة آلاف المراكز والمساجد الوهابية التابعة لها في مختلف بلدان العالم الإسلامي والغربي، بما يؤدّي إلى نقل المراكز إلى مئات ملايين المسلمين في مختلف أصقاع الأرض، وبدليل أنّ فرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، اعترفت بدور هذه المراكز في إنتاج مسألتين: التحشيد المذهبي والعداء لإيران، ولاحقاً الإرهاب الذي يعمّ العالم.
ويمسك آل سعود اليوم برابطة العالم الإسلامي التي تروّج في الظاهر لسياساتهم، وسرعان ما يظهر أنها سياسات أميركية معاددية لأعداء واشنطن. فهل هي مصادفة أن تعتبر واشنطن إيران العدو الأساسي لها، وتوافقها الرياض على ذلك؟! إلا أنّ الخبث الأميركي يذهب في اتجاه اختراع خطر إيراني على السعودية لتحريك العالم الإسلامي، وهنا تظهر رابطة العالم الإسلامي، المنفذ الأول لسياسات الاستعداء الأميركية إلى جانب جامعة الدول العربية التي تؤدّي اللعبة الأميركية نفسها بعباءات سعودية وقطرية مذهّبة.
السعودية إذن تعادي مَن يعادي السياسة الأميركية، لأّنها تحتمي بها في الإطار الاستراتيجي، ولأنّ إيران واحدة من هذه الدول فتتعرّض لاستهدافات سعودية قاسية تركّز على التباين المذهبي والقومي. وتؤدّي السعودية دوراً إضافياً في تعميم السياسات «القدرية»، والانصياع لوليّ الأمر، وهذا واضح في الوضع المتخلف للدولة السعودية على المستوى الاقتصادي والعلمي والسياسي، وبالمقارنة مع إيران التي لا تزال محاصَرة حتى اليوم، يتبيّن أنّ طهران تنتج قسماً لا بأس به مما تستهلكه وصولاً إلى صناعة السلاح بمختلف أنواعه.
أما السعودية، فتكتفي بتعميم سياسات البلادة بحجة أنّه «لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، وتتجاهل أنّ الإسلام يدعو إلى العلم «اقرأ بِاسم ربّك»، والعمل «فقل اعملوا فسيرى الله عملكم». ولا تزال السعودية حتى اليوم دولة ريعية تشكّل مبيعات النفط فيها نحو تسعين في المئة من موازناتها، ما يعني أنّ استمرارها كياناً سياسياً مرتبط بنفاد نفطها، يا طويل العمر.
لكنّ الأكثر خطورة، فهو تعميمها للنظرية القدرية، اعتقاداً بأنها تطيل عمر دولتها، وينسحب هذا الأمر على العالم الإسلامي، أيّ الدول الأكثر فقراً وتخلّفاً في العالم. وهنا ينكشف الدور الأميركي في تجميد حركة مليار وأربعمئة مليون مسلم في دول ريعية متخلفة تعتبر المدى الأساسي لبيع السلع الغربية، ويجري هذا التجميد من خلال الدور السعودي المروّج للسياسات الديكتاتورية بإطاعة السلطان حتى ولو كان جائراً. ففيما تشهد إيران انتخابات دورية على مستوى انتخاب رئيس الجمهورية والمجلس النيابي ومجمع تشخيص مصلحة النظام، حيث تشيد المؤسسات الدولية المعنية بنزاهتها، لم يسمع معظم بلدان العالم الإسلامي بمفهوم الانتخابات ودور المواطن في اختيار قياداته.
ولأنّ إيران تلعب في ملعب تعتبره واشنطن مسرحها الجيوبوليتيكي في الشرق الأوسط، فقد استنهضت ضدّها السعودية التي حرّكت بدورها أدواتها في الدول الإسلامية لمحاصرة طهران وإسقاط نظامها السياسي.
هذا هو السبب الأساسي للعداء السعودي الإيراني الوهمي، وهذه هي أسباب الصراع الإيراني الأميركي في منطقة تشكّل المدماك الأساسي للعظمة الاقتصادية الأميركية.
فهل يستيقظ المسلمون على هذه المكيدة الأميركية التي تستنزف إمكاناتهم وتحول دون تطوّرهم؟
الأمل معقود في انتصارات سورية على المحور المعادي لها، ما ينتج محوراً عالمياً بوسعه استنهاض العالم الإسلامي ولجم العدوانية الأميركية. ويبدو أنّ هذا الأمر لم يعد بعيداً، لكن دونه هبات ساخنة لن تنتهي إلا بانهيار الأحادية الأميركية التي اعتادت منذ 1995 على شنق المتهم قبل محاكمته.