كيف كانوا يعيشون في نهاية القرن التاسع عشر؟
د. محمد محمد الخطّابي
من الكتب الطريفة الحافلة بعدد من المعلومات والمفاجآت حول نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرينk كتاب للباحث الروماني أوجين ويبر بوخاريست 1925 ـ لوس أنجلوس 2007 المعروف بدراساته في التاريخ الفرنسي على وجه الخصوص، كتب أنّ شارل بيغوي في نهاية هذا القرن المنصرم يقول: إنّ العالم قد تغيّر في السنوات الثلاثين الأخيرة أكثر من الفترة الزمانية الممتدّة من ولادة المسيح حتى ذلك الوقت. هذا الحكم قد يبدو مبالغاً فيه. إلاّ أنّ أوجين ويبر يبرّر ذلك بكلّ بساطة عندما يذكر أنه في الحقبتين أو الحقبات الثلاث الموالية لنهاية القرن، كان صاحب هذا القول شاهداً على كثير من وسائل الحياة والأنشطة والتقنيات التي تُميّز بشكل واضح مظاهر حياتنا الآن، أو عالمنا المعاصر. ففيه ظهرت السينما والسيّارة، وأمكن استغلال وقت الفراغ بشكل جيّد، الحركة، الأخبار، الرياضة، كلّ ذلك كانت له جذور ودور في المرحلة السابقة، ولكنه ظلّ محصوراً داخل قطاع خاص مصغّر للشعب وقد تحوّل في الوقت الراهن إلى ملك للغالبية الساحقة من الجماهير.
إنّ مؤلّف هذا الكتاب لا يولي كبير أهمّية للسياسة، بل إنه يمرّ بها مرور الكرام، يفوق قولاً ما خصّه عن ظهور الدرّاجات وانتشارها، في حين أنه يقوم بشيء غير مألوف لدى المتخصّصين في هذا المجال وهو محاولة التعريف بروح العصر. ذلك أنه من دون ذلك سيصعب عليه تفسير طرائق الحياة، وهكذا على سبيل المثال، فإنّ رياضة الجماهير كان أصلها من فرنسا، وأنّ الواعز الذي أدّى إلى ظهورها يرجع للإرادة الوطنية في تجديد الإيمان في العرق أو الجنس أو العنصر الفرنسي إزاء الخطر الألماني الداهم. بل إنّ هناك علامات ومميّزات أخرى متعدّدة لنهاية هذا القرن. فالتوهّم بالانحطاط يولّد الشعور بالنهضة، وزوال كلّ ما كان يبدو إيجابياً حتى ذلك التاريخ وبداية تخطّي أو تجاوز كلّ ما لم يكن ممكناً تخطّيه أو تجاوزه من قبل.
وأهمّ ما في هذا الكتاب في الواقع فصلان إثنان وهما: كيف كانوا يعيشون؟ والحبّ والكراهية. إذ إنّ المؤلف يعالج في هذين الفصلين الطريفين أصول طرائق الحياة التي تبدو لنا اليوم عادية في حين أنها بالقياس إلى تاريخ البشرية حديثة العهد بنا جدّاً. فعلى سبيل المثال في أواخر القرن التاسع عشر فقط بدأت تظهر الإنارة في شوارع المدن، وطفقت العناية والاهتمام بالصحّة العمومية، والطبّ والتطبيب، ومع بداية القرن العشرين فقط، بدأ ينتشر النقل العمومي داخل المدن.
ويلقي الكتاب الضوء على عدد من العادات والتقاليد، والممارسات الاجتماعية التي تبدو لنا وكأنّها غارقة في القدم، في حين أنه لم يمرّ عليها في الواقع سوى قرن واحد.
لم يخلُ الكتاب من الإشارة إلى التغيير الهائل الذي عرفته المرأة في هذا الأوان، حيث كانت القوانين الغربية في ذلك الوقت تعتبر المرأة مخلوقاً ناقصاً. وفي هذه الفترة مثلاً تمّت الموافقة للمرّة الأولى على أن تكون المرأة صالحة لأداء الشهادة في المحاكم. ولا بدّ أنّ القارئ يعرف جيّداً أنّ تاريخه لم يضع المرأة في هذا الموضع من السخرية والازدراء والتهكّم.
ويخبرنا الكتاب كذلك أنه في هذه الفترة أيضاً أمكن للمرأة للمرّة الأولى أن تفتح حساباً مصرفياً خاصّاً بها، وأن تحصل على رسائل جامعية عليا مثل الدكتوراه. وفي عام 1900 فقط سُمح للمرأة للمرّة الأولى كذلك في فرنسا الالتحاق بكلّية الحقوق كباقي زملائها الرجال، ويقول الكاتب: إنّه مع التغيير الذي طرأ على وضعية المرأة، ومع الاعتبار الجديد الذي أصبح يمنح لها، وقع أو طرأ تغيير كبير على الموضة أي طرائق ومبتكرات ومستجدّات وتفنّن لبس المرأة وتطريتها . حيث أصبح رداء المرأة بسيطاً يخلو من التعقيدات والبهرجة المتوارثة التي كان يفرضها عليها العصر وتقيّدها بها التقاليد.
يتعرّض المؤلف في كتابه إلى الجانب الثقافي في هذا العصر. ولا تنحصر معالجته هذا الجانب في نطاق ضيّق أو لدى صفوة معيّنة من المفكّرين أو الفنّانين. بل إنه يتناول هذا الموضوع في مجاله الواسع، ويتغلغل في الأوساط الثقافية العامّة أو ما يسمّى اليوم بالثقافة الشعبية، ويوجّه نظرنا إلى بعض التعابير الفنيّة، والموجات الجديدة التي ظهرت وميّزت ذلك العصر مثل حديثه عن التأثّرية أو الانطباعية بمعناها الاجتماعي، وكذا حديثه عن المسرح، والسينما اللذين حقّقا نجاحاً سريعاً، ولقيا إقبالاً واسعاً، وانتشاراً كبيراً من طرف مختلف طبقات الناس.
لا بل أنّ السينما ذاتها في هذه الفترة كانت قد حقّقت تقدّماً ملموساً، خصوصاً في ما يتعلّق بالحركة والإثارة. ويشير المؤلف إلى أنّ نهاية القرن شهدت كذلك ظاهرة اجتماعية تتمثّل في السياحة، ففي عام 1900 على سبيل المثال ظهرت للمرّة الأولى الكتيّبات، أو المطبوعات، أو الكتالوغات السياحية مثل دليل ميشلين، وبدأ تنظيم الرحلات السياحية المنظّمة البعيدة والقريبة. ويصف المؤلف الدرّاجة أنها كانت الملكة الصغيرة في نهاية القرن، بل لقد بلغ الأمر بالكاتب الفرنسي الكبير إميل زولا بأن كتب في إحدى رواياته أنّ مداومة ركوب الدراجات كانت بمثابة ترويض دائم للإرادة!
وفي عام 1903، بُدِئ للمرّة الأولى تنظيم سباق السيّارات، وظهرت بالتالي ما يسمّى اليوم بالجولة أو طواف فرنسا للدرّاجات Le tour de France . وفي تلك التواريخ وُضع قانون للسّباق، ومُنع التباري في الشوارع العامّة كعلامة على بدء انتشار السيارات، والمواصلات، واتّقاءً للحوادث.
كما أنّ الرياضات عرفت تقدّماً هائلاً، وتنظيمات مُحكمة، وبدأت تنتشر بشكل واسع بين الجماهير وتستقطب اهتمامهم. وكانت الرياضات المستوردة أو القادمة من إنكلترا هي التي كانت تجد قبولاً واستحساناً لدى الناس. وتتبّع هذه الظواهر الحياتية العامّة بالنسبة إلى المؤلف هي الأهمّ في نظره من رصد الأحداث السياسية في ذلك الوقت. ويلاحظ المؤلف أنّ الرياضات انتشرت أو انحسرت بسبب الإقبال الجماهيري عليها أو عدمه، أو بحسب الأوساط التي تُجرى فيها هذه الرياضات. فملاحظات الجمهور، وتشجيعاته كان لها تأثير واضح وحاسم على مستقبل هذه الأنواع من الرياضات، فرياضة أو لعبة كرة القدم مثلاً انفلتت من القيد أو الشرط الاجتماعي الذي حصر لعبة الرّكبي، أو الكرة المستطيلة داخل مؤسسات مدرسية خاصة التي غالباً ما تؤمّها الطبقات الراقية، بل أصبحت كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية وانتشاراً في العالم حتى لقّبت بمعشوقة الجماهير أو معشوقة الملايين.
إنّه في الوقت الذي استقبلنا فيه قرناً جديداً آخر، وودّعنا القرنين المنصرمين التاسع عشر والعشرين فإنّ قراءة هذا الكتاب يطرح تساؤلاً مهمّاً وهو: إلى أيّ حدّ تبدو لنا حياتنا اليومية في شكلها العادي أو المألوف اليوم بالنسبة إلى ما كانت عليه، بالقياس إلي ما نتوق ونرنو إليه؟
كاتب ودبلوماسيّ مغربيّ