النسبية هي… الإنقاذ!

د. وفيق إبراهيم

يمكن وصف معظم مشاريع قوانين الانتخابات المطروحة حالياً بأنّها تعبّر عن مصالح واضعيها أكثر ممّا تجسّد اهتمامات اللبنانيين. أمّا التناقض بينها فسببه الاختلاف في عدد المنتمين إلى الطوائف والمذاهب والقدرات على التحشيد وتأمين الولاءات. فهذا يريد الاستئثار بالمقاعد النيابية المخصّصة للمذهب الذي ينتمي إليه، وذاك يريد الأمر نفسه مع إحساسه بفائض قوة يبيح له وضع اليد على قسم من المقاعد النيابية للمذاهب الأخرى.

هذا ما يجري في لبنان اليوم من صراعات سياسية يزيد عمرها عن 8 سنوات، ولم تتمكّن القوى الأساسية في صياغة قانون انتخاب جديد يعيد إنتاج السلطات التشريعية والتنفيذية. وهذا ما أجاز لهذه القوى السياسية الاستيلاء على السلطة بفنون التمديد التقني تارة، والضروري تارةً أخرى… والتحايلي في كلّ وقت وإلا فكيف تستبيح طبقة سياسية البلاد من دون حسيب أو رقيب منذ 1992، فتسيطر على الحجر والبشر من دون تحمّل أيّة مسؤوليات تترتب عادة على هذه السلطات؟!

فالأمن سائب، والدفاع عن البلاد تحت رحمة الفتنة السنّية الشيعية التي أدّت دورها في حماية الإرهاب في بلدة عرسال وجرودها ومناطق أخرى، والنفايات مادة من مواد الابتزاز الاقتصادي، وتحوّلت إلى معضلة لا حلّ لها، كذلك الكهرباء الموجودة في كلّ مكان بشكل سهل ورخيص، ويستأجر لبنان باخرتين تنتجان له الكهرباء من مولّداتها قرب شواطئه بأسعار من تأليف جماعات السلطة وتلحينها. والمياه العذبة يشتريها المواطن مرتين واحدة من الدولة لا تصل إلى المنازل إلا بشكل متقطّع وغير صالحة للاستخدام الآدمي، والثانية من شركات المياه الخاصة المملوكة من المحيطين بالسياسيين.

لا يوجد شيء في لبنان إلا وأفسدته هذه الطبقة السياسية، من الهواء إلى العلم والأمن والطعام والدفاع عن البلد والعلاقات بين الطوائف، وحوّلت الدين من عبادة الله إلى أداة للتحشيد والإقناع بمواهب السياسيين. لذلك، لا يجوز اتّهام المشروع التأهيلي الخاص بالوزير جبران باسيل بالعنصري بمفرده.

فالمشروع يتعامل على أساس أنّ هناك نظاماً طائفياً، ولأنّه كذلك فلماذا يحق للقوى الإسلامية سحب نوّاب مسيحيين إلى دوائر نفوذها بتقسيم مشبوه للدوائر، ولا يحقّ لهؤلاء باسترجاعهم.

والطريف، أنّ مشاريع تطرحها قوى إسلامية تطرح نظريات في «الاندماج الوطني»، لا تستوي حتى على قوس قزح. فتتلاعب بالدوائر الانتخابية لإيلاء أهميات إضافية «للصوت الإسلامي» الأكثر عدداً من الصوت المسيحي، وتأتي النتيجة أنّ طائفة يبلغ عدد نوّابها في المجلس النيابي ثمانية فقط، يحظى زعيمها بجبهة من ثلاثة عشر نائباً… ويمسك حزب المستقبل بأعداد من النوّاب تزيد على مقاعد النوّاب المخصصة لطائفته بأكثر من أحد عشر نائباً، وكذلك بالنسبة للمذاهب الإسلامية الأخرى التي تسيطر على عدد محدود من النوّاب المسيحيين.

لذلك، واستناداً إلى المنطق، كان على رافضي مشروع باسيل أن يتقدّموا بطروحات أكثر تقدّماً، أو أن يلتزموا بحيثيات النظام الطائفي وميثاقيّته. ولكّل من الطرحَين خصائصه الأول يقضي بتقديم مشاريع متطوّرة تؤدّي فعلاً إلى اندماج فعلي للبنانيّين على أساس من المساواة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية. هكذا تأسّست الدول الغربية بعد سلسلة الحروب الطائفية وعلى المستويين الداخلي والخارجي، منذ القرن 17 وحتى أواخر القرن 18، التي أدّت إلى هذه الأنواع من المساواة، وتكفّلت في أقلّ من نصف قرن بإنتاج أوروبا الحديثة وأميركا المتقدّمة، حيث لم يعدْ للدّين أيّ دور في السياسة، حاصراً حركته في إطار العبادات.

أمّا الحلّ الثاني، فيجب أن يذهب نحو اعتبار اللبنانيين طوائف تتعامل مع بعضها بشكل «فدرالي»، كما لا تجوز محاولة تهشيم وسائل حمايتها المذهبية إلا لمصلحة مشروع وطني فقط، ليس ملتبساً ولا موارباً.

هذان هما الحلان اللذان يستطيعان التفلّت من حدّة الصراعات السياسية المندلعة، علماً أنّ العامل الخارجي هو الذي كان يُنهي الصراعات الداخلية بانحيازه إلى فريق من أطرافها، مع إصراره على الحفاظ على «طائفية لبنان» لمنعه من التطوّر إلى دولة معاصرة تقطع مع القرون الوسطى.

الفرنسيون حسموا تقطيع الدوائر قبل رحيلهم عن لبنان لمصلحة الهيمنة المسيحية، وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى 1992 مع تشكيل دستور الطائف. هذا الدستور الذي سمح لـ«الحريرية» السياسية بتقسيم الدوائر لمصلحتها، مضيفاً مقاعد للعلويّين في طرابلس وعكّار لا يمكن أن ينجح أحد عليها إلا بواسطة الحريريين. وكذلك فعلوا مع الموارنة في طرابلس، وأضافوا أصواتاً من مناطق إلى مناطق أخرى كزحلة والدائرة الأولى في بيروت والكورة. فتمكّنوا من الاستحصال على غالبية وازنة في المجلس النيابي تضمّ خليطاً من السنّة والمسيحيين وبعض الشيعة.

يتبيّن أنّ هناك خللاً خطيراً حدث من استعمال النفوذ السوري في لبنان لخدمة الحريرية السياسية والوزير وليد جنبلاط. والمطلوب اليوم تصحيح هذا الخلل إمّا بالذهاب إلى مزيد من الالتزام بالقواعد الميثاقية للنظام الطائفي، أو «بتغريبة» لبنانية فعلية ترحل نحو الحداثة، وبالتالي إلى المزيد من متانة الدولة.

أما الطرف الذي قدّم مقاربة فعلية في هذا الإطار فهو حزب الله، الذي تقدّم بمبدأ النسبية الكاملة لانتخابات لبنانية تُجرى في دائرة واحدة على خلق مبدأ الحاجة المتبادلة بين اللبنانيين من الشمال إلى الجبل فالجنوب والبقاع والعاصمة. وللنجاح، يحتاج الجميع إلى أصوات الطرف الآخر من البلاد، ما يؤدّي على المدى المتوسّط إلى بدء الاندماج الفعلي بين اللبنانيين وخلق الظروف الموضوعية لبناء أحزاب وطنية فعلية تعمل على مستوى لبنان بدوائره كاملة.

هذا أمر لم يعرفه لبنان منذ تأسيسه في 1920، فأحزابه مناطقية وطائفية ومذهبية وعائلية، باستثناء قلّة منها تجد نفسها محاصرة اليوم بالمنطق الطائفي. ومن الطبيعي أن ترفض قوى النظام الطائفي نسبية حزب الله، لأنّها تعرف أنّ الالتزام بهذا المبدأ يؤدّي إلى الإطاحة بها في أقلّ من عقدين من الزمن، وهي لا تريد ذلك.

لكنّ هناك قسماً من القوى السياسية يؤيّد طرح حزب الله، على أن يتقاطع تطبيقه مع المناصفة الطائفية ولدورة انتخابية واحدة على الأقلّ، مع نسف كامل للنظام التعليمي الرسمي المسيطر عليه في المناطق كلّها من القوى الطائفية واستبداله بنظام تعليمي علماني مراقب، يسهم في إنتاج «لبناني» يحمل صفة «مواطن»، وليس بالضرورة أن يكون معادياً للدين.. أن يكون فقط غير قابل للاحتشاد تحت تأثير التطرّف المذهبي.

هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمنع استعمال «الكثرة العددية» لتأمين سيطرة مذاهب وطوائف على أخرى، فينتظم التعامل مع اللبنانيين على قواعد لا تُعيد إنتاج القرون الوسطى بعباءات الزعماء ولغتهم الديكتاتورية.

ولا يبدو أنّ الأمور ذاهبة نحو هذه الوجهة، فموعد الخامس عشر من أيار، الذي يعيد الحق للمجلس النيابي بالانعقاد لم يعُد بعيداً، ولا يبدو أنّ الخلافات بين التأهيلي والنسبي على دوائر محدودة أو المشترك أو الأكثري في طريقها إلى الاضمحلال.

هناك صراع على التمديد للمجلس النيابي، مع تسرّب معلومات عن إمكانية العودة إلى قانون الستين، لأنّ القوى السياسية في لبنان أثبتت أنّها بحاجة إلى دور خارجي يفرض عليها الاتفاق بالإرغام والقسر.

فهل ينجو لبنان؟

المعتقد أنّ القوى الدولية والإقليمية لن تسمح بوصول الوضع اللبناني إلى الانفجار، ما يفرض عليها إيجاد تسوية تعيد إنتاج الوضع على ما كان عليه بانتظار ظروف مؤاتية لإنتاج قوانين أخرى قد لا تكون أفضل من سابقاتها. ويمكن للرئيس عون إحداث صدمة بإعلان تبنّيه النظام النسبي المتدحرج، فهو «بيّ» الكلّ، كما يقول أنصاره في التيّار الوطني الحرّ، والأمل معقود على جرأته في تحدّي جشع الطوائف والطائفيين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى