المعشوقة الحلم وثنائية الأرض والأنثى في قصيدة «يطير الحمام… يحطّ الحمام»

محمد رستم

عند حافة العمر وقبيل الفجر بهمستين إلّا رعشة، تبدّت حورية ببهائها الساحر قالت: «بكبرياء صفني». قلت: «دعيني أهمس».

منذ البدء أشفق لحال زورقي المتواضع وهو يصارع أمواج هذا اليمّ المتلاطم الإبداع لا استصغاراً لقلمي بل إدراكاً حقيقياً لمكانة الراحل الكبير محمود درويش السامق في جماليات البوح، وأوضح أن حروفي هذه إنما هي قراءة عاشقة لروعة البهاء الذي تتلبسينه. وإذ أتحدث عن محمود درويش أجدُني أقول كلاماً أليفاً، وأستعير هنا قول أيقونة فلسطين الشاعر خالد أبو خالد في قصيدته «أسميك بحراً وعن القدس» يقول: وإن قلت

إني أحبك

قلت كلاماً أليفاً

وقلت كلاماً سخيفاً…

من العنونة الاولى نبدأ، والعنونة هي العتبة الأولى للفعل الشعري وصِلتها رحميّة بالنص… «يطير الحمام… يحطّ الحمام . اعتمد الشاعر الفعل المضارع «يطير، يحط» لما فيه من دلالة حيّة على الحركة وما في مضمراته من دلالات تبرز حيوية الحالة واستمرارها في الزمن. وتتوسع هذه الدلالة عند إسناد الفعل إلى «الحمام» هذا الكائن الذي لطالما ظلّ رمزاً للسلام والوداعة وبذلك تستبطن العنونة كثافة تعبيرية تغذيها فضاءات المخيلة.

وفي جعلها لازمة يكرّرها في نهاية كل مقطع تجسيد لرغبة الشاعر الدفينة في التحليق عالياً فوق الواقع فوق العوائق «يطير الحمام» لكنه لا يلبث أن يجد نفسه مكبلاً بقيود الأرض «فيحطّ الحمام» والحقول الدلالية الطافحة في القصيدة من مثل حقل الأنثى المعشوقة، الوطن حقل الذات الفاعلة، حقل العلاقة المنكسرة، تبرز البؤرة الدلالية المؤسسة على العشق والحرص على الحبيبة والتفاؤل.. فتبدو القصيدة دائرة متكاملة الإحاطة، تبدأ بفعل الأمر «أعدّي» في قوله:

أعدي لي الأرض

كي أستريح.

بما في هذا الفعل من إلحاح تفرضه الحالة الجسدية والنفسية التي لم يفتأ الشاعر يصرح بها، فهو في غاية التعب والإجهاد من شدة تعلقه بها ومع كل مافي خافقه من عذابات فهو يرى في صباحاتها ما يسرّي عنه، ولشدة هيامه بها يصل مرحلة التخاطر الروحاني «أطير بخصرك قبل وصولي إليك».. وبعشقه هذا يطرز على شرشف الضوء نبض القلب وحرارة الآهات وبعد أن يفرد لها بساط ودّه يختم كل مقطع بلازمته «يطير الحمام… يحطّ الحمام». فهل الحمام هنا رسول عشق للحبيبة التي تمتد بسهوبها على مرمى البصر؟ أم هو رسول للأنثى بكل سحرها؟ أم لا هذا ولا ذاك بل هو عائلة الشاعر بل شعبه الذي يضرب في رابعة الضياع تائهاً في بلاد المنافي تطيّره في كل مرة عواصف الدهر وتكالب ليالي الظلام عليه ليحطّ في منفى جديد وعندما يطير الحمام ويحطّ فهذا يعني أن خطباً داهماً وراء ذلك.

وهو إذ يبدأ قصيدته بفعل الأمر «أعدّي» بما في صيغة هذا الدّال من قسوة فهو طلبيّ جافّ ما يبدو مجافياً للرقّة المطلوبة في مخاطبة الحبيبة وهذا يؤكد ما ذهب إليه الشاعر توفيق زياد من أن محمود درويش في حبّه لا يعرف الذل والتزلف وهو ليس عاشقاً مريضاً ولاً عاشقاً من أصحاب الدموع.

ولا يتباطأ الشاعر كثيراً حتى يقدّم أوراق اعتماده للحبيبة فهو متيّم بها حتى التعب، ويرى صباحاتها فاكهة للأغاني وبالتالي فإن ما صرّح به من فعل الأمر إنما غايته إظهار مدى ما يلاقيه من عنت المكابدة من الحب والحياة، وإن خرج الكلام إلى حيدة الطلب ويظهر التودّد لها من خلال حرصه على سلامتها وراحتها «وحين ينام حبيبي أصحو لكي أحرس الحلم مما يراه». فهو يريد للحلم الجميل أن يستمر دون منغصات.. ثم لا يلبث أن يصرخ في حالة من التلذذ بتعذيبها له في سياق من المازوشيّة العشقيّة «وكم مرّة تستطيعين أن تقتليني،لأصرخ إنّي أحبّك؟» لذا يسحره أن ترخي ضفائرها عليه ليحل عليه السلام، «ونم يا حبيبي عليك ضفائر شعري.. عليك السلام». بل ينتشي وهي تعلن استسلامها له مسلوبة الإرادة «إلى أين تأخذني يا حبيبي من والديّ ومن شجري من سريري الصغير ومن ضجري…»، «تشربني ثم توقدني ثم تتركني في طريق الهواء إليك حرام… حرام…» ولأن سطوة حبه لها أفقدها الإرادة فباتت تابعة لمشيئته صارت تحس بالألم والضيق لشدة وقع الحب فتصرخ: «ليتني لا أحبّك… ليتني لا أحبّ». وأمست تخشى أن تكفّ يداه عن ملامستها بل تخاف أن يحول الحرس بينهما عند ذاك ستبكي عليه كثيراً كيف لا وهو سماء أمنياتها وجسمها وطنه ومكان إقامته.. «ويجتثّني من خطاك الحرس حبيبي سأبكي عليك..عليك.. لأنّك سطح سمائي وجسمي أرضك في الأرض جسمي مقام». وتأتي عبارة «حكّ دمي كي تنام الفرس» كلوحة متجذّرة في الريف وكتعبير عن قمة التوق.

وأما من ناحيته فهو يرى في حبها نقطة ضعف «لأنّي أحبّك خاصرتي نازفة» وهو كشاعر متجذّر الوعي يدرك حقيقة الدور المناط بالحرف فهو حمام ينقل رسائل العشق «أناديك قبل الكلام».. وشاعرنا قبل كل شيء ينتسب لزيتون الجليل وبرتقال يافا وبرقوق صفد وهو كبيارات فلسطين حميم دافئ الخصب لذا نجد حروفه مغمّسة برائحة الريف وكأنّه يريد أن يقول.. إن الصفاء الحقيقي هو في الطبيعة على سجيتها لذا لا يجد راحته إلّا في أحضانها «أعدّي لي الأرض كي أستريح» صورة مستوحاة من صميم الحياة الريفية هو يريد من حبيبته أن تعدّ له الأرض وتخلّصها من عوالقها وأدرانها و من غاصبيها.

ولهذا فقد حشد عدداً من الإشارات الريفية لرسم لوحته فاكهة، الحمام، البراري، النحلة، الوردة،حنطة، حقل، الفرس… إلخ .

ومع أن الموضوع عشق وغزل إن كان للأنثى أو الوطن أو الحلم، أو الجمال الخالص فإنه يبقى حالة جماليّة فيها سمو الروح وقد عجنه الشاعر بروعة الطبيعة وجاء مملّحاً بعطر الريف. ولعلّ الشاعر هنا تقصّد أن يبرئ ساحته من أي سلوك غير مقطّر فمعروف عن الريفي طيب الطوية وصفاء الروح وعمق المشاعر على بساطتها حيث تخلو من دهاء المدينة.

إنّ من يتأمل هذه الترنيمة لا يخامره شك في أنّها قصيدة عشق ذاتيّة إلّا أن التعمق بأدب شاعرنا يضع المتلقي في دوامة الحيرة بل يقذف به إلى مفارق الدروب وبخاصّة في قصيدته هذه إذ تعمّد الشاعر أن تكون إشكاليّة..

«حتى وإن كتبت القصيدة لمن أصبحت في ما بعد زوجته الثالثة» تتداعى الاسئلة هل الحبّ هنا حقيقيّ أم فنيّ؟ وهل قصد الشاعر أنثى بعينها أم هو الحلم؟ أم أن الحبيبة كانت العنوان الذي أراد من خلاله الدخول إلى عالمه الخاص /العام عالم المأساة الفلسطينية ؟ هذه المأساة التي تنبعث نتوءاً حاداً يبعث على الرعب

أم لعلّ الدرويش الذي يرى بعيني زرقاء اليمامة اختار الإبحار في عالم الجمال الخالص.. هناك.. هناك حيث يندحر القبح بكل أشكاله بما فيه الاحتلال وتسود القيم العليا.. هناك لا غير يكون للشعر معنى.. حيث يحلق الشاعر باللّحظة الوجوديّة إلى أبعد مدى ليجعل من هذه الأهزوجة درة في القاموس الجمالي الدرويشي.. لذا نؤكّد بإن الحبيبة هنا إنما هي مطلق الجمال وبهذا يكون الدرويش قد نقل موضوع النص الى رحاب الفضاء الكوني الإنساني، لقد لعب الدرويش على حبل المماهاة بين الأنثى والأرض والجمال، فغاص عميقاً في تفاصيل عشقه الأنثوي حتى بدا الأمر إشكاليّاً ما جعل القصيدة مثار جدل ولغط وبالغ البعض إلى اعتبار أنّ الدرويش قد طلّق وإلى الأبد مشروعه الوطني.. وتبدو قدرة الشاعر المذهلة في هذه المماهاة بحيث يتوه المتلقي فلا يدري متى يكون الخطاب للحبيبة ومتى يكون للأرض أو الرمز الجمالي وشاعرنا عاشق للأنثى بدلالاتها المتوهجة أماً، أختاً، حبيبة، أرضاً، حلماً، جمالاً مطلقاً لذا صدق القول فيه: عشق الدرويش الأرض فأرضعته لبان ضوئها.

والدرويش إذ يعشق الأنثى فإنه يختلف عن الآخرين لأنه يتوحد وإيّاها في جسد واحد أنا وحبيبي صوتان في شفة واحدة لقد حكمت ثنائية الأرض، الأنثى الكون الإبداعي للراحل، وبإحالة القصيدة إلى موضوعة الوطن نلمس الكثير من الإيحاءات التي تشي بأن الراحل الكبير كفلسطيني حقيقي صادق مع نفسه ما كان له أن يخرج من جلده. فالفلسطيني حين يعشق ويتزوج وينجب فهو يفعل ذلك كي تستطيع فلسطين أن تأخذ على رأي الأديب الشهيد غسان كنفاني وعلى لسان بطلته أم سعد إذ تقول نحن نلد وفلسطين تأخذ وعندما يبثّ الشاعر ألمه وانكساراته فذلك كي يوقد الشعلة في شرايين الأجيال، فجرح الأرض ستظل أخاديده المترعة قيحاً وصديداً تئن وستبقى حوافّه تنضّ في قلب الشاعر ألماً.. كيف تشرّدني الأرض في الأرض كيف ينام المنام ؟؟ ..

لقد عبر الشاعر صحراء الحياة وهو يرتل الآه بمعمودية الألم على مذبح الحبيبة الغالية فلسطين يتقاذف روحه اغتراب مركّب مناف، تشرد، واقع مضادّ قهريّ، يتضايف إلى ذلك كله الاغتراب الخاصّ بالشعراء

وفي قول الشاعر: أموت لكي يجلس فوق يديك الكلام يتبدى العشق الدرويشي الخاصّ الذي لا يكون لأيّ أنثى إلّا إذا كانت رمزاً بحجم وطن بل إلّا إذا كانت هي الوطن ذاته لذا ليس من ذاتيّة خاصّة له وأنّى لهذا الشاعر المرهف الحسّ من ذاتية بعيدة عن جوهر وجوده الفلسطيني وقد لقب بمجنون التراب عاشق من فلسطين لذا نسمعه يقول: أنت بداية روحي ونسأل لمن تشير إصبع الخطاب هنا؟ ونؤكد حتى وإن أشارت إلى أنثى في الظاهر فإنّما هي في المضمر الأرض، الوطن.

إن عشق الدرويش لأرضه جعل منه شاعراً عنيداً حدّ المناكفة يفتش عن مفازات الخلاص، فمضى يمسح غيوم الليل عن وجه القمر.

وفي قوله: أنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ هذا الانزياح يشي بصورة الموج الذي يتوق لأن يتشبث بالبر، أليس هو حال الفلسطيني الذي يجهد للتشبّث بالوطن كلّما عصفت به رياح الاغتراب؟ وكم يخاف الشاعر من مراوحة قضيته في مكانها آه من خطوة واقفة ولا يفوته أن يذكّر بالماضي المشرق للأمة مشبهاً الحبيبة بعواصم الدنيا في السالف من الأيام لأدرك أنّك بابل، مصر وشام وكذا رأيت على الجسر أندلس الحبّ .

لقد استثمر الشاعر كلّ تقنيات الحداثة الشعرية فاعتمد الثنائيات الضديّة التي تزيد المدلولات متانة يطير/ يحطّ، أوّل البحر/ آخر البحر، يجرحني/ يشفى، البرّ/ البحر تعالي/ غيبي، ينام/ أصحو، أستريح/ التعب، نصعد/ أهبط… إلخ لقد أحالته أزمته الوطنية إلى كائن شديد الحساسية. فأسبغ هذه الحساسية المفرطة على محبوبته تقول أوّل البحر يجرحني التذكير ببداية التهجير.. آخر البحر يجرحني نهاية الرحلة وبدء اللجوء..

لذا لا تعود الروح إلّا برؤية الوطن أراك فأنجو من الموت والحبيبة الوطن مرفأ روحه. وحروفه هذه إنما هي ترجمة لانزياحات قهريّة تحمل في رحمها معادلاتها المتحدّية للواقع كإبداع يخلق حوافز الصلابة في مواجهة احتمالات الهشاشة..

فيبدو الدرويش طائراً حالماً تأبط في رحلته وطناً وبات يغرد ألحاناً متوهجة بأكاليل الألم فتسيل خوابيه حبراً نازفاً من مرايا الروح شكوى وأنيناً أموت لكي يجلس فوق يديك الكلام أيّ تحليق وايّ روعة في هذه اللوحة؟ إنه يدفع روحه كي يبقى صوته مدويّاً في سهوب الوطن ويختم الشاعر قصيدته بمشهد تمثيلي حزين يصور انكسار الحلم رأيت على الجسر.. أندلس الحب فالجسر يشكل همزة وصل بين عالمين بين ضفتين. الحقيقة والحلم رأى الحلم الذي كان الأندلس الجنة التي خسرها العرب وهي ليست لهم فهل يتتابع الانكسار فنخسر فلسطين التي ليست لأحد سوانا وعلى جسر الأحزان نام القمر وذبلت الوردة وانكسر الخاتم رمز الرابط الأسرويّ وطار الحمام معلناً نهاية حلم سعيد لم يتحقق أعادت له قلبه.. ونام القمر على خاتم ينكسر وطار الحمام وحط على الجسر والعاشقين ظلام .

لقد جاءت القصيدة حوارية في فضاء مسرحي لينداح البوح عزفاً منفرداً على أوتار العشق قراراً وجواباً ولتردد الجوقة في جو اوركسترالي يطير الحمام يحط الحمام وليكتمل التناغم بين لحني الوجود ذكراً وأنثى وفي القلب أسى وفي العين دمعة وخوف على فلسطين.

يحق لنا أن نقول: إن الدرويش لا يكتب شعراً، هو يوثّق نبضاً، نحسّ حرارة أنفاسه وزفرات الحسرة في قوله يطير الحمام… يحطّ الحمام .

هي ملحمة تجهش بأناغيم العشق لأرضه النازفة حنيناً ونحسّ النغمة الحزينة المنكسرة تتبدى في الإيقاع اللحني العالي الأسى من خلال تتالي الحروف ح، م، م الحاء بما فيها من حنو ودفء، والألف بما تعطي من مد الحالة والسكون، والميم الصوت الأنفي المضخم مع الدمدمة.. حيث يفضح الصوت المشاعر.

لقد تمثل الدرويش روح المعاصرة والحداثة بل كان أحد أعمدتها على صعيد الضاد.. من حيث قدرته على التقاط الجوهري في الشعر وبثّه بطاقة خلّاقة أبدعت أكواناً جماليّة وإبداعيّة في حيّز من أصالة التجربة وعمق الرؤيا وفرادة صوتيّة، وفق ديناميّة ساحرة وبناء متجانس في حلّة من الانسيابيّة والتلقائيّة المميزتين

نستطيع القول: إنّ القصيدة جاءت معادلاً موضوعيّاً وفنيّاً جمالياً لمأسة الشاعر وإن تمظهرت بلبوس العشاق.

أهمس أخيراً، عندما نقول… محمود درويش… عند هذا… لا حاجة للغة بعد.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى