الانهيار السعودي لم يعُد بعيداً
د. وفيق إبراهيم
المؤشرات التي تعكس بدء تقهقر آل سعود تتضاعف، بموازاة تصاعد الابتزاز العلني الأميركي لمملكتهم وتراكم إخفاقاتهم العسكرية والسياسية في المنطقة.
هناك حقيقة أساسية تكشف أنّ هذه العائلة تستشعر خطراً وجودياً يستهدفها، ويدفعها إلى إحداث تغيير جذري في سياساتها التاريخية التي كانت لا تتآمر إلا من وراء الكواليس، فتحوّلت إلى إعلان حروب صريحة في الاتجاهات كلّها.
للمزيد من الدلالة على خطورة وضعها الراهن، لا بأس من العودة إلى خطاب الرئيس الأميركي ترامب الذي أمر فيه السعودية بدفع أموال إضافية مقابل الاستمرار في حمايتها. الغريب هنا ليس طلب الدفع، فهذا يحصل منذ 1945، بل بالشكل القسري الذي أطلقه ترامب ليؤكد بموجبه على الدرجة الوضيعة التي وصلت إليها مملكة آل سعود في تراتبيّة القوى المحسوبة على البيت الأبيض، بالإضافة إلى أنّها استهانة أميركية لم تراعِ حتى الحدّ الأدنى من الأخلاق.
والأشدّ إيلاماً هو الصمت السعودي الذي تجاهل هذا الطلب الأميركي، مكتفياً بالصمت وتأدية رقصة «العرضة» للتعويض. أمّا المؤشر الثاني الخطير الذي يؤكّد اهتزاز نقاط القوة في الدور السعودي، هو ما جرى منذ أيام عدّة في مدينة عدن اليمنية التي تحتلّها السعودية بالاشتراك مع دولة الإمارات بمشاركة تحالف دولي كبير، وذلك منذ أكثر من سنتين متواصلتين.
فبعد أن أقال الرئيس المستقيل المقيم في السعودية عبد ربه منصور هادي محافظ عدن عيدروس الزبيدي ووزير الدولة هاني بن بريك، خرج آلاف العدنيين في تظاهرات ضخمة وهم يشتمون السعودية وما أسموه بـ»العميل منصور هادي»، مطالبين بإنهاء احتلالها لليمن.
للتوضيح، فإنّ عدن تقع في جنوب اليمن، حيث توجد القوات السعودية والإماراتية المحتلة، وهؤلاء يزعمون أنّهم يدافعون عن اليمن بوجه «الاجتياح الإيراني». فتبيّن بعد هذه التظاهرات أنّ أهالي الجنوب يرون أنّ السعوديّين هم المحتلون، علماً أنّ ما جرى في عدن يعكس وجود خلاف حادٍّ على النفوذ في اليمن بين السعودية ودولة الإمارات.
وهذه واحدة أخرى من نتائج الغزو السعودي لليمن، تضاف إلى جانب قتل نحو عشرة آلاف مدني وتدمير مظاهر الحضارة والبنى التحتية وسياسة التجويع. واستناداً إلى مؤسسة التقرير العلمي لـ»أزمات الغذاء 2017» الغربية، يوجد ثلاثون مليون جائع عربي، بينهم 14,7 مليون يمني، أي نصف الجياع العرب تقريباً، ومعظم هؤلاء هم من أهالي صنعاء وذمار وشيوة في شمال البلاد المحاصرة من قوات الغزو السعودي. ما يؤكد وجود سياسات تجويع تعتمدها السعودية بعد عجز قواتها عن اقتحام شمال البلاد، وتحوّل اتهاماتها لأنصار الله بتجويع الناس إلى أكاذيب لا يحتاج تفنيدها لكبير جهد. والدليل أنّ اليمن كان متموضعاً في إطار الحدود الدنيا للاكتفاء الذاتي قبل الهجوم السعودي الذي يحاصر الآن المناطق الجائعة.
فكيف تستقيم الاتهامات السعودية للحوثيين وأنصار الرئيس علي عبدالله صالح بتجويع مناطق هم يدافعون عنها ويقيمون فيها، وتمنع الرياض دخول الغذاء إليها؟
لجهة المشهد الثالث للانهيار، فيتعلّق بما ورد في المقابلة الأخيرة التي كان نجمها وليّ وليّ العهد محمد بن سلمان، الذي حاول فيها ارتداء لبوس «عنترة»، فبدا كشيبوب يثير الضحك والاستهزاء فقط. فأين يوجد قائد عسكري يجتاح بلداً، وعندما يتعثّر يقول: «الجيش السعودي يستطيع اجتياح اليمن بساعات عدّة فقط، لكنني لا أريد افتتاح مجالس عزاء في بيت كلّ سعودي».
وكان على محاوره أن يسأله لماذا اقتحمت اليمن إذاً؟ وهل كنتَ تريد مهاجمته بجيوش الآخرين؟ فعجزت عن إقناع بلدانهم بالتورّط؟ وهل أرواح جنودك أغلى من أرواح الجنود الآخرين؟
وكان على المحاور أن يسأله أيضاً عن أشكال الاعتداء الإيراني العسكري على الدول العربية؟ وهل السعودية أكثر عراقية من الحشد الشعبي؟ وهل هم أكثر لبنانية وعروبة من حزب الله؟ وكيف يبرّر وجود عشرات القواعد الأميركية في الخليج قبالة إيران؟ واحتلال تركيا لقسم من العراق وسورية ونصبها قاعدة عسكرية لقواتها في قطر!!
ولماذا يحاول السعوديون بناء تحالف مع العدو الأساسي للعرب، أي «إسرائيل»؟
وبدلاً من أن يجسّد وليّ وليّ العهد شكل أسد قوي، بدا كـ»دجاجة» تمثّل دور ديك، فأضحك القرّاء ومحاوره في آن معاً، خصوصاً عندما تعهّد بالذهاب لمحاربة إيران في إيران، لأنّها تروّج على حدّ زعمه لإيديولوجيا خطيرة جداً، فهل نسي الأمير أنّ «الوهابية» هي المتّهمة اليوم بإنتاج أقسى إرهاب سافك للدماء يجتاح العالم بأسره منذ قرن تقريباً؟ ولولا الإمكانات المالية لبلاده، لكان آل سعود يُحاكَمون بجرائم ضدّ الإنسانية في لاهاي وجنيف.
ولأنّ السعودية سلحفاة تحمي نفسها بصدفتها، فقد اعتادت التدخّل من وراء الكواليس في سورية والعراق ومصر ولبنان ومعظم البلدان، لكنّها بدّلت من هذه السياسات السرّيّة وشنّت أكبر حملة دعم وتمويل علنية للمنظمات الإرهابية، بدأت فيها بالقاعدة في أفغانستان، إلى «داعش» و»النصرة» وجيش الإسلام وعشرات التنظيمات الأخرى في سورية والعراق واليمن ولبنان…
وبعد سنين سبع، تبيّن للسعودية أنّ سياساتها الإرهابية قزّمت دورها في سورية، حيث أصبحت تركيا وكيلاً شبه حصريّ للمعارضات التكفيرية مقابل انحسار قسريّ للسعوديين. ولولا الهجمات التي يشنّها «جيش الإسلام» الموالي للرياض على «أحرار الشام» المؤيّد لتركيا وفيلق الرحمن الموالي للقاعدة في غوطة دمشق، لكان بالإمكان التأكيد أنّ الدور السعودي في سورية عن مجرّد استشارات تافهة مع الأميركيين والروس.
أمّا في العراق، فقد أُصيب الدور السعودي بانتكاسات محوريّة، لأنّه اعتقد أنّ هجومه الدائم على بعض مكوّنات العراق الأساسية يمنحه تأييداً من مكوّنات عراقية أخرى… فاستعدى الشيعة ولم يربح السنّة، بدليل أنّ اللاعبين الأساسيين هناك هم الأميركيون دولياً، وإيران وتركيا إقليمياً. لذلك تبدو السياسات السعودية مسحوقة أمام الدور التركي الذي يمارس بدوره اللعبة الطائفية «الزاعمة لتمثيله السنّة في العالم».
وتتوجّس السعودية خطراً من الإرهاب المنتشر في محافظة الأنبار العراقية المحاذية لحدودها، فهي لا تزال تدعمه، لكنّها تخشى من انهيار مرتقب فنفر عناصره نحو مناطقها، ما يهدّد ملكية آل سعود.
لذلك، هم في حيرة من أمرهم، أيواصلون دعم إرهاب الأنبار أم يتعاونون مع الجيش العراقي والحشد الشعبي للقضاء عليهم؟ هذه واحدة من الإشكاليات الخطيرة التي تضغط على اهتمامات آل سعود، فبالنسبة إليهم فإنّ الحشد الشعبي أكثر خطورة من الإرهاب، لأنّهم يتّهمونه بالولاء لإيران.
وفي محاولة لاحتواء غضب العالم الغربي منهم، يعتمدون السياسات التقليدية… توزيع الرشى والمكرمات وشراء بضائع من بلدانهم لا تحتاجها السعودية بشكل ضاغط.
هل السعودية بحاجة لـ300 طائرة صينية من دون طيار ثمنها يربو على 76 مليار دولار؟
هل تحتاج السعودية إلى أسلحة أميركية وغربية يصل ثمنها إلى 60 مليار دولار سنوياً، تجعل منها البلد الثالث في العالم في شراء الأسلحة؟
ولماذا تسارع الرياض إلى شراء أسلحة أميركية جديدة بنحو 12 مليار دولار بعد مطالبة ترامب لهم بزيادة «أتعاب الدفاع الأميركي عنهم»؟
يتبيّن بالمحصّلة أنّ السعودية في الطريق لبلوغ مرحلة لن يعود باستطاعتها تأمين أموال لتغطية كلفة الحماية العسكرية والسياسية لها، وعندما تفقد دورها الخارجي فإنّ وضعها الداخلي يصبح قابلاً للاهتزاز وبعنف، لأنّ الاستقرار الداخلي عندها وليد عوامل عدّة: النفط والحماية الخارجية، بالإضافة إلى دور التعبئة الدينية المتموضعة حول الحرمين الشريفين والوهابية وموسم الحج… النفط يتراجع.. والحماية الخارجية أصبحت شديدة الكلفة، مع صعود كبير في عدد الدول التي أصبحت معادية للسعودية بسبب حروب محمد بن سلمان الذي استولد أعداء لبلاده، وتثبيت مناصراته بأكلاف كبيرة جاءت على حساب المواطن العادي الذي بدأ يشعر بغائلة الفقر والبطالة وتدنّي الرواتب، كما أنّ الوهابية أصبحت المتهم الأساسي المنتج للتكفير والإرهاب.
أمّا موسم الحج، فإنّ تلاعب السياسات السعودية به لا بدّ أن ينعكس عليها. إنّ اجتماع هذه الأسباب يؤذن ببدء الانهيار الكبير التدريجي في مملكة أدّت أدواراً أساسية كبيرة في انهيار النظام العربي في العالم على ضحالته.
والمرجوّ اليوم أن تنهض مصر في حلف يعاود جمعها بسورية الصامدة في وجه المشروع الغربي مع العراق المتوثّب للخروج من محنته، لكن دون تحقيق هذا الأمر الكثير من التطورات التي تحتاج بدورها إلى المزيد من التحالف مع روسيا وإيران لعرقلة التركيز الأميركي على إسقاط بلاد الشام وكامل المشرق العربي، وإنقاذ مصر ممّا يُحاك لها.