صيرورة العالم بين ماضٍ وحاضر ومستقبل 4

جورج كعدي

في القرن الفائت قتلت الحربان العالميّتان ملايين البشر، وأحدثت قنبلتا هيروشيما وناكازاكي الموت الكبير. هنا لا تُطرح مشكلة العنف فحسب، إنّما مشكلة العنف وقد أضحى مجنوناً. ومشكلة العنف المجنون غير منفصلة عن طبيعة الإنسان العاقل/ المجنون باللاتينيّة: homo sapiens / d mens . عنف ينتشر بمذابح هائلة «داعشية» اليوم مثلاً وإساءات مؤلمة وأساليب تعذيب غير معقولة وتتجاوز كلّ تصوّر واعتبار. كما يزداد التعصّب الدينيّ، والدعوات التبشيريّة لنقل «الجهاديّة» أيضاً ، والرؤى «القياميّة» التي تضاعف تدفّق العنف المجنون. فعوض أن يقلّص القرنان، الفائت والراهن، ذلك العنف دشّنا عصراً جديداً من العنف المجنون والموت الهائل.

اقترن في زمننا الراهن عنف المقاومة / التحرّر بعنف الاحتلال العسكريّ والهيمنة الاستعماريّة «إسرائيل» والولايات المتحدة نموذجاهما على التوالي والعنف «الجهاديّ» الدينيّ الذي يحلّل لنفسه ولغايته أفظع أشكال العنف. ودوّامة العنف هذه لا تطول المجتمعات الشموليّة والديكتاتوريّات تركيا والسعوديّة نموذجان ساطعان والهيمنات الاستعماريّة فحسب، إنّما كذلك المجتمعات ذات النظام السياسيّ التعدّديّ. تلك الدوّامة تولّد حلقة من المعتقدات والمعتقدات المضادّة وتلك المضادّة للمضادّة، ويسير هذا العنف نحو القتل الهائل للمجموعات، وقد تقود سهولة صنع السلاح النوويّ المصغّر العنف الجنونيّ الإرهابيّ إلى الموت الهائل.

يسأل المفكر الفرنسيّ إدغار موران: هل من إمكان لوقف دوامة العنف؟ ويرى أنّ تجربة العنف وقد أصبح جنونيّاً هي تجربة كل شخص وتجربة الجميع، معتبراً «أنّ النضال ضدّ العنف الجنونيّ سوف يقوم به أوّلاً أولئك الذين مارسوا العنف الحربيّ إلى حدّ التقزّز وطبّقوا العنف الثوريّ إلى حدّ العبث والعنف الإرهابيّ إلى حدّ الاشمئزاز». نظرية قد تبدو مثيرة، لكنني لست بالضرورة مؤيّداً لها إذ أضعها في خانة التفاؤل المفرط والمثاليّة غير الواقعيّة، وإن استند موران إلى مثلين سينمائيّين أميركيّين، مميّزين فعلاً في الفن والخطاب السينمائيّين، وكلاهما حول تجربة حرب فييتنام: فيلم «الرؤيا الآن» لفرنسِسْ فورد كوبولا، و»صائد الإيل» لمايكل شيمينو، اللذان ينطويان على وعي جنون القتل ورفض المشاركة من بَعْد في لعبة الموت.

يمضي موران في نظرته الطوباوية المتفائلة معتبراً أنّ «انتفاضة الإنسانيّة، إذا حدثت، فإنّها تمرّ بالضرورة عبر الوعي الفرديّ وتنتشر بذبذبة جماعية. عندئذ يمكن أن تولد شروط سياسة ما بعد العنف التي بمعرفتها كيفيّة تقليص دور العنف السياسيّ والحدّ منه سوف تعرف كيف تحارب قوى القمع والموت. أقول ما بعد العنف ـ يضيف موران ـ كي أقول إنّ الخلاص سيأتي، إذا أتى، لا من إلغاء العنف، إنّما من خفض العنف الجنونيّ»، مردفاً في مقطع بليغ: «علينا مقاومة العدم ومقاومة قوى التقهقر والموت الهائلة. وفي الفرضيّات كلّها، يجب المقاومة. فالحدّ من الموت مقاومة. النضال ضدّ الوحشيّة مقاومة. المستقبل لم يعد ذاك التقدّم اللامع إلى الأمام، أو بالأحرى، ينبغي القول إن هذا التقدّم اللامع لتهديدات العبوديّة والخراب يجب أن يُقاوم أيضاً. علينا، بشكل أوسع ومنذ اليوم وبلا توقّف، مقاومة الكذب والخطأ والاستسلام والإيديولوجيا والتكنوقراطيّة والبيروقراطيّة والهيمنة والاستغلال والقسوة. وأكثر من ذلك، علينا أن نهيّئ أنفسنا لأشكال جديدة من القمع، ولأنماط جديدة من المقاومة».

يقول الفيلسوف ياسبرز: «إذا أراد الإنسان أن يعيش، عليه أن يتغيّر». ينبغي إنقاذ المغامرة الإنسانيّة، فهي ضروريّة لإنقاذ الحياة. ويجب إنقاذ الحضارة من الوحشيّة القديمة والجديدة. إنّ كنوز العالم القديم مهدّدة بالفناء خلال سقوطه، وبذور العالم الجديد مهدّدة بالفناء بسبب الجمود. كل فرد يفعل، من دون وعي، في الصيرورة وينفعل بها. وعدم وجود المنقذ التاريخيّ يعيد للجميع ولكلّ فرد ذي «إرادة طيّبة» دوره ورسالته. كلٌّ منّا موجود في صيرورة العالم، والصيرورة هذه تتضمّن الماضي والحاضر والمستقبل، وكلّ إنسان يعيش حياته الخاصة، وحياة أقربائه، وحياة مجتمعه، وحياة أمّته، وحياة الإنسانيّة، وحياة الوجود نفسه. كلّ إنسان يعيش كي يحافظ على حياة الماضي، وكي يحيا الراهن، وكي يهب الحياة للمستقبل. ينبغي أن يكون هناك فرح ومحبّة في الحاضر للاستثمار في المستقبل. ينبغي معرفة كيف نتمتّع بالحاضر لنحبّ المستقبل، فالمستقبل هو نفسه جزء من الصيرورة وهو كذلك سوف ينقضي.

تخيّل المؤرّخ والباحث جول ميشليه Michelet أنّ على الحيتان كي تتناسل أن تنطلق نحو الفضاء بشكل عموديّ وأن تنقذف، الواحد نحو الآخر، بحيث يلج العضو الجنسيّ الذكريّ، في لمحة وبضربة حظّ، العضو الجنسيّ لدى الأنثى ويقذف فيه منيه. والفعل السياسيّ على صورة هذه الأسطورة، بحسب مواطنه إدغار موران، يستلزم حماسة ومحاولات وأخطاء بلا انقطاع، إلى أن تتمّ يوماً، وبضربة حظّ، عملية «الإخصاب».

إنّ بَذر الحياة بالنسبة إلينا يعني بذل الجهد من غير حساب وإنتاج بذور من دون حساب. لكنّ عملية البَذر يمكن أن تتقاطع مع التّحابّ، أي مع الحبّ الذي يغيّر شكل كائنين ويجد غايته في نشوة اتحادهما.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى