«هنا عاش»… مشروع متميّز كي لا «تسيب» ذاكرة!

اعتدال صادق شومان

دائماً ما تتجرّع القرى أو البلدات الريفية الضرر البالغ لتمدّد المدينة، وتكابد بشدّة للسيطرة على زخمها العمراني والصناعي وتهديده المتفاقم والفتّاك، لا بسِماتها الطبيعية وحسب، بل بما يطال سجيّتها وتكوينها التراثي ونسيجها الاجتماعي، رغم ضروريته على مسار تقدّم البلدة اقتصادياً واجتماعياً، خصوصاً تلك البلدات التي تقع على الخطّ الساحلي، التي راجت فيها الحركتان التجارية والصناعية، فإذ تشوبها محاذير متنوّعة في حال لم يَحظَ هذان التآلف والتناغمُ بين القرية والمدينة، بالحماية والاتّقاء اللازم لصون المزاج والنسيج العام التراثي لطابع البلدة، إن في طرازها التقليدي أي هوية أهلها مصدر شرعيتهم التي ترتسم فيها ملامح حياتهم ومناسباتهم وبيوتهم وعاداتهم وأعيادهم ومواسمهم، فضلاً عن تاريخ البلدة المحلي ومراسيمها الثقافية والفكرية، وتحديداً تلك المحفوظة في جوف كتاب، ومداد ورقة، وحقول المعرفة لروّادها المبدعين، خصوصاً الراحلين منهم، والوقوف على نتاجهم قبل نوء وإدبار أثره، فنحفظ الدرب الريفي من رصف شوراع المدينة ونمنع اختلالاً، ليكون تكاملاً لا تفاضلاً أو جفاء بين «بقاع المثوى الأثير»، والعبث المستعظم للمدينة. وكما يقول المثل اللبناني: «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»!

ومن هذه البلدات التي تنوء تحت هذا المنقلب، بلدة كفرشيما العالقة بين مدّ وجزر، لجهة موقعها الجبلي المنساب قريباً من شاطئ البحر، لا يفصلهما سوى كيلومتر واحد، وهي التي وعت مبكراً الخطر المحيق، ونجحت في إدارة التحوّلات بحكمة هي ميراث جينيّ اكتسبته البلدة على ما تفيد نواويسها الحجرية المكتشفة، وخزفياتها الفخارية، وحجارتها الضخمة، قرية عريقة في القدم وقد عرفها المؤرّخون قديماً بـ«قرية الفضّة» أو «ربّة الحكمة» بترجمتها السريانية، ولعل هذا الاسم هو الأقرب إلى قناعة أهلها، ويتلاءم مع تاريخ بلدتهم الزاخر بأسماء كبيرة أوتوا علماً كبيراً. «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً»!

بيوت زاخرة بالإبداع

ما إن تطلّ عليها من شارعها الرئيسيّ «أديب الفتى» في مفترقه المثلّث عند جادة «فيليمون وهبي»، حتى يتبدّى جليّاً الطابع الصناعي للبلدة، يشوّش وداعة كفرشيما بضجيجه، وصخبه المتأتي من حركة تجارية ناشطة، تخدش حالة الهدوء والسكينة، عبر مصانع ومحلات منتشرة على مدخلها، و«عجقة» عمّال وسيارت وشاحنات على اختلاف أحجامها، حتى تظنّ نفسك تدخل «المدينة الصناعية» لا أعتاب قرية تتربّع على كتف تلّ يعاند ليصون المساحات الخضراء المتبقية والطابع الأثري للقرية.

غير أن ليس هذا مقصدنا من زيارة بلدة كفرشيما، لا صناعتها العامرة على أهميتها في تحسين الوضعين الاجتماعي والاقتصادي لأهل البلدة والبلدات المحيطة، بل قصدنا الأسماء العريقة للمبدعين الكفرشيميين الذين أثروا تراثنا كلمة وفنوناً جميلة.

المبدعون الذين ينتسبون في تعريفهم الذاتي إلى بلدتهم كفرشيما، على ما هو شائع في لبنان، أن يدمغ اسم مبدعيه في الأدب والشعر بأسماء قراهم، فلا يذكر اسم أحدهم إلا ربطاً بِاسم قريته. فإن قلنا بشرّي أو وادي قنّوبين، يكون مقصدنا جبران خليل جبران الذي لا يُذكر اسمه إلا مصحوباً ببلدته بشري وواديها. و«فيلسوف الفريكة» هو أمين الريحاني. و«ناسك الشخروب» هو ميخائيل نعيمة، و«ناقد عين كفاع» هو مارون عبود، وأسعد فغالي «شحرور الوادي»، وهذه التقليد المبيّن ينسحب أيضاً على كبار الفنانين من المطربين اللبنانين والملحّنين وأكثرهم شهرة «الصبوحة» رغم أن شهرتها ضربت أطناب الدنيا، ومُنحت ألقاباً كثيرة. إلّا أنّ الأكثر التصاقاً بها، لقبها الذي اشتهرت فيه «شحرورة الوادي»، نسبةً إلى مسقط رأسها وادي شحرور.

وإذا قلنا كفرشيما، اعترى ذاكرتنا القريبة اسم شيخ الملحّنين و«سبع الأغنية» فيليمون بن سعيد وهبي، الذي أعطى السيدة فيروز أجمل الألحان. مَن منّا ينسى ذاك اللحن الرائع «أنا خوفي من عتم الليل»، ودوّخنا الدوران مع «يا دارة دوري فينا»، وكم حلّقنا معه في «سطح الجيران»، وانتظرنا «مرسال المراسيل» و«فايق يا هوى» و«صيّف يا صيف»، و«من عزّ النوم بتسرقني» و«يا كرم العلالي» و«يا ريت منن» و«إسوارة العروس» و«طلعلي البكي» و«بليل وشتي»، و«جايبلي سلام» و«عَ الطاحونة ». كما غنّت له الصبوحة «دخل عيونك حاكينا» و«يا أمي دولبني الهوى» و«عَ البساطة». وكم تعنّ على البال هذه الايام أغنية «عَ الضيعة يمّا عَ الضيعة». ولعلّ أجمل رثاء له يوم مماته قالته فيروز: «نحن سوف نشتاق لك، والقادمون بعدنا سوف يحبّونك».

ولا يقلّ عن وهبي قيمة فنّية، الموسيقار ملحم بركات، الراحل عنا في الأمس القريب، والذي زفّته كفرشيما على وقع أغنياته ومنها، «ومشيت بطريقي»، «موعدنا أرضك يا بلدنا» كما أوصى قبل رحيله. وأيضا الموسيقار حليم الرومي والد الفنانة ماجدة الرومي، فلسطينيّ المولد والمقيم في كفرشيما. وعصام رجّي الذي أبكر في الترجّل «من فوق الخيل»، والفنانة التي اختارت الاعتزال باكراً ماري سليمان، صاحبة صوت الحماسة المتكسّرة.

هم عدا ذلك «جيرة الخير»، تجاوروا وعاشوا هنا في الأحياء القديمة في كفرشيما. جيران وأهل يجمعهم «كار» الفنّ الجميل والجيرة الطيبة، يذكرهم أهلها ويشتاقون لهم، تحفظ أسماءهم الأدراج العتيقة، وتردّد أغانيهم مع صدى أجراس كنائسها السبع.

أهداف

بيد أن كفرشيما، عريقة بأسماء كبار ممن آثروا الحركة الأديبة والصحافية، الذين كادت أن تتحوّل أسماؤهم رسماً منسيّاً، مع تقدّم الزمن وغياب مؤلفاتهم عن رفوف المكتبات، حتى لا نقول اندثارها. لو لم يتوفّر لبلدة كفرشيما المعين الواعي المتمثل بهئية بلدية شابة على رأسها «محاميها» وسيم رجي، يعاونه فريق إداريّ، يتوزّع في مهام إدارية وميدانية وثقافية.

التقينا أعضاء هذا الفريق تحت قوس البلدية القديم، الذي يعود زمانه إلى عام 1928، والموشّى بأبيات شعر من نظم ميشال كرم مطلعها:

«نزلت في القلب من هذا البلد

مثل شمس نزلت برج الأسد».

وانخرطنا داخل مكاتبها مع عجقة زوّار يتابعون أو يلاحقون معاملاتهم الإدارية، يستقبلهم نائب الرئيس أندريه المر والمسؤول في اللجنة الثقافية أنطوان سليمان الذي اصطحبنا في جولة على أرجاء البلدة، بسيارة البلدية، يقودها «المساعد» نضال كرم الذي استوقفني اسمه، وعندما سألته عنه، فهم القصد من سؤالي فضحكت عيناه وأجاب: «ما بحكي بالسياسة». المهم أنه سائق «قبضاي» تشهد له المنعرجات والمنحدرات الضيقة و«الطلعات الواقفة» في الدروب «الجوّانية» من البلدة، بين البيوت الحجرية بنسقها التقليدي المتراصّة في ظل «العُربيش» من الزهور، ووميض «لوحاتها الذهبية» معلّقة على مداخل بيوت مبدعي البلدة.

وكان قد وشى لنا عن هذا النشاط البلدي ومشروعه، «عاش هنا»، الصديق المشترك لنا وللبلدية أمير الهليل، وهو من الأشخاص الذين يستهويهم التراث، ويغريهم إلقاء الضوء عليه وتوثيقه وصونه من الإهمال. وله في ذلك جولات وصولات.

مشروع «عاش هنا» التراثي الذي شدّ رحالنا إلى كفرشيما ما إن علمنا به، تستهدف منه البلدية كما أسهب في الشرح لنا طوني سليمان: إعادة أحياء ذكرى المبدعين والفنانين وأعلام الصحافة، خصوصاً القدامى منهم. وذلك من خلال إشارات إلى أمكنة منازلهم، بهدف إعادة الرونق والإشعاع إلى تلك الأسماء، وقد أحصتهم البلدية بتسعين اسماً.

وأضاف: مشروعنا، «عاش هنا»، يهدف إلى حفظ إرث الأجداد. ولأننا بتنا على مشارف فقدان أثر الجدود، وضعنا على خطة نشاطنا الثقافي إنشاء مكتبة أدبية تضمّ أعمال هؤلاء الكبار. ونعمل على جمع ما نصل إليه من مقتنيات شخصية، ومدوّنات أو أي أثر لهم، من دون أن ننسى الجيل الفنّي المعاصر، إذ تمّ التعاون مع مركز «فينيكس للدراسات اللبنانية»، الذي تكفّل بحفظ كلّ تراث هؤلاء الفنانين وفق معايير حديثة ومتطوّرة.

تكريم واحتفاء

أما في الأصل… فـ«عاش هنا» لوحة رمزية تحمل اسم الفنان وتاريخَي ميلاده ووفاته على المنزل الذي عاش فيه. وهذا المشروع في الأصل أحد المحاور القيّمة التي ترعاها منظّمة «يونيسكو»، وهي ظاهرة غربية بِامتياز، حيث تكريم الأدباء وصون مقتنياتهم ومنازلهم حتى الأماكن التي مرّوا بها، بمثابة سلوك اجتماعيّ، للتعبير عن أهمية الشخصيات الأدبية والفكرية في تلك البلاد. وعلى اعتبارها جزءاً من «جماليات المكان»، تلك مجتمعات أدركت مبكراً أهمية التكريم لمبدعيها، ووظّفت كلّ إمكانياتها المادية والبشرية لإنجاح هذه الظاهرة الرائعة.

بخلاف تجربتنا الهشّة والجافة في هذا المضمار، التي لا تتخطّى في أقصاها الاحتفالات الخطابية، حتى أنّ معظم منازل الأدباء والفنّانين مصائرها قيد المجهول، بل إن بعضها تهدّم و«على عينك يا دولة»، وقلة هم من نالوا حظوة العناية، وبقيت أسماء كبيرة من عالم الفن «مكتومة القيد» والحضور اللائق بها، سواء للمولودين أو الذين سكنوا في لبنان، وتركوا أثرهم في الوسط الثقافي العاصمة بيروت التي كانت مقصد كثيرين من المبدعين ومقرّهم، وهم يستحقون ويليق بهم التكريم والاحتفاء بمرورهم، بلمسة وفاء من المجتمع نواتها التقدير والاحترام والفخر بإبداعاتهم وإنجازاتهم الرائعة. على الأقل تمثّلاً بالجاليات اللبنانية في المغترب على الأخص البرزايل.

وإذا استثنينا قلة من الأدباء ارتبطت آدابهم بذاكرتنا زمن المقاعد الدراسية، من جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومارون عبود والياس أبو شبكة وتوفيق يوسف عواد. حتى غالبية المشاريع الثقافية من متاحف أو صيانة منازل هؤلاء النخبة، كانت بمبادرة من عائلاتهم في الأصل، قبل أن تحظى باهتمام الدولة والجهات الثقافية.

من هنا، تأتي أهمية الدور الذي تقوم به بلدية كفرشيما بصفتها مؤسّسة شبه حكومية، إذ أخذت على عاتقها نفض غبار الزمن عن كبار منها «بأقلّ كلفة، وهي البلدة الزاخرة بعدد من المبدعين في مجالات الفكر والأدب والفنّ والموسيقى والفنّ التشكيلي. الذين غادروا مرابع الطفولة كتّاباً، وشعراء، وموسيقيين. إلى حيث «انزووا» في العالم فأثروا الحركة الثقافية والفنية وملؤوا خزيننا المعرفي بسبائك عطاءاتهم. تلك هي ثقافة التكريم التي نحتاجها، كمجتمع حضاريّ يتطلع إلى الارتقاء والتميّز بما هو تشريف للمجتمع. لا بل يحرض على التفوّق والتميّز والإنجاز، ويؤكد على حيويته وديناميكيته وتطوّره، والمسألة برأينا لا تحتاج إلى اعتمادات مادية عملاقة، إنّما تحتاج إلى عقلية تسعى للبناء، والرغبة في التأسيس لثقافة بديلة بعيداً عن ثقافة «التتفيه» والإثارة السائدة.

تاريخ كفرشيما الذي جمعه «الكفرشيمي» نقولا نجيب الفتى بخطّ اليد، كان المنهل الأساس لذاكرة البلدة. وترجمته العملية كانت مسحاً ميدانياً لأمكنة رحل عنها أصحابها، وبقيت جدرانها حافظة أسرارهم، وشاهدة على ولادة جنان أفكارهم، وشخصوهم تهمس لنا عن روائع أعمالهم في التكوين في هذه الزاوية من الريف، كونها صفحات مضيئة سطّرتها وتسطّرها قائمة مبدعين، بعضهم لامسوا الشهرة، وآخرون لم يكونوا محظوظين بالقدر الكافي، وآخرون أيضاً عاشوا مغمورين ولم نتعرّف غلى عطاءاتهم. في انتظار بلدية كفرشيما لأن توفّق في عزمها على كشف ما خفي من الطيّات، لتخرجها من كنف السهو إلى عصبة «عاش هنا»!

هنا عاشوا… هنا كانوا جيراناً

«هنا عاش» الشاعر ناصيف اليازجي حورانيّ الأصل وصاحب المؤلفات المتعدّدة، التي شملت الصرف والنحو والبيان واللغة والمنطق والطبّ والتاريخ، كما ترك ديواناً شعرياً متنوّع الموضوعات، ومراسلات شعرية ونثرية. عرف من أبنائه ابراهيم اليازجي الذي أنشأ في مصر مجلّة «البيان»، وبرزت أيضاً في الأدب ابنته الشيخة وردة ناصيف اليازجي.

«هنا عاش» الأخوان سليم وبشارة تقلا مؤسّسا جريدة الأهرام عام 1875، أشهر جريدة مصرية لتاريخه . سليم المدفون تحت سنديانة الكنيسة. وخليل نصر مؤسّس جريدة «الأردن» وصاحب المطبعة الرشيدية. فارس نصر شقيق مؤسّس «الإقدام» في فلسطين، المحرّضة على الاحتلالين البريطاني واليهودي. ومن الجيل الثاني الرسام الكاريكاتوري بيار صادق.

«هنا عاش» الشاعر ميشال قهوجي مؤسّس فرقة «زغلول كفرشيما» سنة قبل أن يؤسّس مع أخيه ابراهيم مجلة «الأدب الشعبي». و«هنا عاش» أيضاً الأبناء الستة لعائلة الشميل الذين امتهنوا دراسة الطبّ، وفي طليعتهم الدكتور شبلي الشميل. وأيضا إدوار أبو واكد عالم الفيزياء الذي شغل منصباً هامّاً في وكالة «ناسا». وثمّة أسماء كثيرة تزدهر بها الذاكرة. ومن الذين تجلّوا في الشعر أمثال سليم نهرا وسليم سليم، والياس فرحات، والأخوين الياس وميشال قهوجي، ووديع سليمان، وطانيوس الرجي، وشكر الله قشوع وروبير الصفدي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى