مكابح أميركية للتفرّد السعودي في اليمن!

د. وفيق إبراهيم

الصراع على النفوذ في اليمن بين السعودية ودولة الإمارات يتصاعد، وتتهاوى معه تدريجياً طموحات آل سعود الذين كانوا يتوهّمون بقدرتهم على احتلال اليمن مجدّداً، وتحويله حديقة خلفية لهم كما كان عليه في السنوات الأربعين الماضية.

لكنّ دولة الإمارات العربية، حليفتهم في مجلس التعاون الخليجي والتحالف العربي الذي يهاجم اليمن منذ سنتين وجارتهم في شبه جزيرة العرب، فاجأتهم بدعم سياسيين من جنوب اليمن أعلنوا منذ أيام عدّة عن تأسيس «مجلس انتقالي جنوبي» لإدارة الجنوب. وهو إعلان صريح بانفصال جنوب اليمن عن شماله من جهة، والجهر بتأييده للإمارات وليس السعودية من جهة ثانية، وسحب تأييد اليمن الجنوبي للرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي الموالي للرياض من جهة ثالثة.

هناك إذن نقاط لا بدّ من ذكرها للإحاطة بما يجري، وأوّلها أنّ التحالف السعودي الإماراتي هاجم اليمن منذ سنتين بقوات بريّة كبيرة بمساعدة أميركية وأوروبية إلى جانب فرق سودانية وبحرانية، وقوى عسكرية مستقلّة من بلدان إسلامية وأفريقية، بالإضافة إلى خدمات البحريّتين المصرية و»الإسرائيلية».

على المستوى اليمني، أيّد الإخوان المسلمون فيه حزب الإصلاح التحالف السعودي، إلى جانب «القاعدة» وأحزاب الجنوب الانفصالية وسياسيين مستقلّين من الجنوب وزعماء قبائل لا يزالون يتلقّون مكرمات ورُشىً من السعودية منذ نصف قرن تقريباً.

بدا أنّ هناك تسابقاً بين الرياض والإمارات على توزيع أموال على القوى النافذة لكسب التأييد الأكبر من ولاء اليمنيين، واعتقد المراقبون أنّ الخلاف بين البلدين هو على الأولويات فقط… السعودية تريد استئصال الحوثيين من منطقة صعدة، عرين الحوثيين والمجاورة لأراضيهم، على أن يلي ذلك تلبية مصالحها في محافظة حضرموت لجهة إلحاقها بالسعودية وبناء قناة من الخليج إلى البحر الأحمر. وهنا، يجب التنبّه إلى أنّ الاهتمامات الأميركية لا تحظى بانتباه سعودي كافٍ، وكذلك مصالح الإمارات التي بدأت منذ عام تقريباً بشراء عقارات في الجزر السياحية اليمنية ومدينة عدن.

أمّا السياسة الأميركية، فهي تعمل على مستويات متمازجة عدّة، الجيوبوليتيك والاستراتيجية والاقتصاد، وهذا يكشف أنّ اليمن جزء من الجيوبوليتيك الأميركي لامتلاكه نقطة استراتيجية هامّة تتوسّط خط الملاحة البحرية الممتدّ من شطّ العرب في العراق إلى مضيق هرمز بين إيران والإمارات وآسيا، ويربط البحر الأحمر بقناة السويس والبحر المتوسط، ويمرّ من هذه النقاط الاستراتيجية اليمنية عشرون في المئة من تجارة العالم.

لليمن أيضاً أهمية أخرى، فهو رأس جزيرة العرب وعديد سكّانه أكثر من عدد سكان السعودية والإمارات وقطر والكويت مجتمعة.. ولديه إمكانات اقتصادية غير مكتشفة حتى الآن، لكنّها مرصودة من قِبل الأميركيين. لذلك، فالأولويات الأميركية تبدأ من الجيوبوليتيك والاستراتيجية، لتُختَم بالاقتصاد وليس العكس.

ما يميط اللثام عن مشروع أميركي لفصل مناطق صعدة في إطار سياسي مستقل، مقابل تقسيم ما تبقّى من اليمن إلى أربع دويلات، اثنتان منها على الأقلّ تشكّل أقاليم بحرية مستقلّة يجب أن تحتوي على قواعد أميركية مباشرة.

لجهة الاقتصاد، فإنّ الشركات الأميركية متأهبة لإدارته بما يؤدي إلى ازدهار الأميركيين بالطبع. وبذلك يبقى عشرون في المئة من تجارة العالم تحت رعاية العين الأميركية الساهرة على مصالح الإمبراطورية الاقتصادية الأميركية بالطبع.

يتّضح هنا حجم التناقض بين الإمارات والسعودية والولايات المتحدة هو على الشكل المستقبلي لليمن، مقابل اتفاق عميق على تدمير قواه السياسية الحيّة. ويتبيّن أكثر، أنّ المصالح المشتركة بين واشنطن والإمارات تكاد تكون واحدة، لأنّ لا حدود مشتركة بين أبو ظبي وصنعاء، ما يجعل المصالح السياسية متدنّية مقابل ارتفاع أسهم المصالح الاقتصادية، أي عكس ما تريده الرياض من ارتفاع حاجتها إلى نفوذ سياسي يذهب في اتجاه «قولبة» اليمن على وتيرة حاجات الاستقرار السعودي المرتكز على الانصياع لوليّ أمر واحد هو الملك السعودي، ومنع اليمن من استكمال استقلاله والتحوّل كياناً مؤثّراً في الجوار.

وكانت الإمارات سخّرت قوتها العسكرية الحديثة في الهجوم على اليمن، إلى جانب السعوديين منذ 2015، واعتمدت أسلوباً إضافياً لتأمين ولاء السياسيين والقبائل يتعلّق بتوزيع أموال بكميات كبيرة، واشترت جزراً ومواقع بحرية تمتدّ على طول سواحل عدن لأهداف متعدّدة: مواقع عسكرية وأسس لمشاريع سياحية كبيرة واقتصادية ترتبط بالاستيراد والتصدير واستثمار النفط اليمني المتوقّع اكتشافه في الجوف وحضرموت ومناطق أخرى. وبهذه الطريقة يكون للإمارات وجود عند تقاطع المحيط الهندي مع البحر الأحمر والخليج مع الهندي والأحمر وصولاً إلى المتوسط.

هناك أسباب إضافية أيضاً، لماذا لا تستطيع الإمارات أن تكون الوكيل التجاري شبه الحصري لخمسة وعشرين مليون يمني تشتري لهم وتبيع عنهم؟

ألم يقل الخبير الأكاديمي الأميركي جون لستر إنّ الإمارات هي «أسبارطة العرب»! أي بلد صغير كان معسكراً في قلب اليونان القديمة!

من جهة ثانية، مَن يصدّق أنّ الإمارات اشترت أراضٍي في جيبوتي لبناء قاعدة عسكرية عليها؟ ألديها أحلام إمبراطوريات وهي البلد الصغير المرتبط حيوياً بالنفط وليس لديها بديلٌ منه؟!

ولماذا هذا الطموح؟ أللسيطرة على البحر الأحمر ومنع «إسرائيل» من الإبحار فيه؟ أو لمضايقة إيران؟ بالنسبة للتساؤل الأول، فالاحتمال مستحيل لأنّ الإمارات وإسرائيل في قلب المركب الأميركي وترتبطان بتحالفات غير معلنة، بدا منها حتى الآن مناورات عسكرية علنيّة جرت في وقت سابق ولم يعترض عليها أحد من الفلسطينيين والعرب.

أمّا لجهة إيران، فلا تستطيع الإمارات اللعب معها، لأنهما شبه متقابلتين عند مضيق هرمز، وأي تهديد ينسحب أيضاً على هذه المنطقة البحرية.

لقد استفزّت المطامع الإماراتية بسواحل اليمن العدوانية السعودية ونهمها إلى السيطرة على كامل اليمن، حتى أنّ الرياض اضطرت إلى استعمال حزب الإصلاح اليمني الإخواني إخوان مسلمون ومنظمة «القاعدة» الإرهابية للحدّ من النفوذ الإماراتي في منطقة عدن، والدليل أنّ عناصر القاعدة يتصادمون من وقت إلى آخر مع الجنود الإماراتيين، وكذلك ميليشيا «الإخوانجية» التي اشتبكت عشرات المرات مع الإماراتيين. هؤلاء لم يصطدموا مرة واحدة مع السعوديين، ومعظم قواعدهم موجودة إلى جانب القوات السعودية وتتلقّى الأوامر من مخابراتها.

هذا ليس اتهاماً من باب الدعاية السياسية، فالقاعدة والإخوان باعتراف الإعلام العالمي يتواجدان داخل القواعد السعودية في اليمن. والدليل أنّ معظم التفجيرات والاشتباكات التي تحدث في منطقة عدن هي بين الجيش الإماراتي ومنظّمتي الإخوان والقاعدة الإرهابيّتين. وهو صراع بالتالي على النفوذ السياسي بين السعودية والإمارات.

وللمزيد من الاستقراء العلمي لهذا الصراع، فإن هناك ضرورة للتفتيش عن أسباب أخرى لهذا الموقف الإماراتي المعادي لأقرب حليف هو السعودية… أتستطيع الإمارات فعلاً منافسة السعودية الأكبر منها سكاناً وثروة ودوراً ونفطاً ومكانة؟ لا سيّما أنّ بين البلدين جواراً جغرافياً!

وهنا يجب التفتيش عن الداعم الدولي للإمارات، الذي يبدو أنّه مستاء من السعودية لمِ عجزت عن تنفيذ المتفق عليه، وهو إسقاط الحوثيين لتفكيك اليمن على الطريقة الأميركية، وذلك بعد سنتين من هجمات ضارية براً وبحراً وجواً، أدّت إلى قتل عشرات آلاف المدنيين ودمّرت البنية التحتية بكاملها، ومراكز الحضارة ودفعت اليمنيين إلى حافة الجوع 15 مليون يمني ؟، ولم يتمّ تنفيذ أي شيء من المشروع المطلوب.. وما نجحت به الرياض هو «استقدام» القاعدة إلى اليمن، والاستعانة بالإخوان المسلمين الذين يُفترض أنّهم أعداؤها وأصبحوا بين ليلة وضحاها من أعزّ أصدقائها.

السياسة الأميركية لا تهتمّ فقط بإبادة الحوثيين، ولا تنفّذ سياسات طائفية كالسعوديين. هي معادية لكلّ يمني معادٍ لمشروعها في الشمال والجنوب، والوقت الممنوح للسعودية في «مجزرتها» اليمنية جرى استنفاده بالكامل.

لذلك، وضمن إطار العجز السعودي وتدحرج الدور الروسي وتنبّه الصين إلى أنّ هناك شعوباً أخرى تستطيع شراء السلع الصينية، وصمود الدولة السورية وعودة العراق إلى الانتصارات.. كلّ هذه المؤشرات تفرض على واشنطن تحريك الإماراتيين للبدء بتنفيذ خطة تقسيم اليمن، وكان الإعلان عن المجلس الانتقالي من قِبل الزبيدي وبن بريك وسط رفض من جماعات السعودية في اليمن.. ووسط تأكيد أنّ هناك أكثر من مجلس انتقالي يجري التحضير للإعلان عن تأسيس في أكثر من منطقة من اليمن في حضرموت وشبوه والجوف، توصّلاً إلى تنفيذ المشروع وهو يمن متفسّخ بخمسة كانتونات مترابطة كونفدرالياً أو منفصلة بشكل كامل.

هذا هو الحديث الأميركي الإماراتي.. لكن حديث أنصار الله والمؤتمر الشعبي يختلف، ولا يطلق مواقفه إلا من فوّهات البنادق والمدافع وكوكبة من الأبطال يرسمون حدود اليمن السعيد بدمائهم، مصرّين على وحدة بلادهم ورفضهم للاحتلال السعودي الإماراتي المختبئ وراء الرعاية الأميركية.. هؤلاء الذين صمدوا سنتين لن يتركوا المحتلّ يرحل إلا قتيلاً أو أسيراً مستسلماً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى