عمر شبلي… سجين الحرّية

د. طوني كرم مطر

«ثنائية السجن والحرية في شعر عمر شبلي»، كتاب للأستاذة فاطمة البزّال، صادرٌ عن دار «المواسم» بطبعته الأولى. وهو دراسة لديوان الشاعر عمر شبلي الموسوم بـ«على أيّ جرح توكأت حتى وصلت؟». اعتمدت فيه الكاتبة المنهج الأسلوبي، لما له من دور في الكشف عن أدبية النصّ وجماليته.

ولعلّ ما يلفت النظر قبل البدء بتصفحّ الكتاب، غلافه الذي يحكي قصّة السجن بما ترمز إليه القضبان المتشابكة، والتي غُيّب قسمٌ منها لتنفتح على أملٍ بالرجاء والخلاص، وذلك بما تمثله الطبيعة من مكان رحبٍ وفسيح وبما يمثله امتداد السماء بلونها الأزرق الذي يناقض برمزيته محدودية السجن وقضبانه.

أما الطائر الأبيض الذي يفرد جناحيه للحرّية فلم يكن إلا ذلك الشاعر الحالم الذي كان يطير برؤاه ليعبر الأسلاك الشائكة إلى ما بعد القضبان لينفتح على حلم جميل يغذّي فيه ما تبقى من عناد يساعده في الصمود والبقاء.

يطالعك عنوان الكتاب «ثنائية السجن والحرّية في شعر عمر شبلي» لتجد نفسك أمام تساؤلات عدّة. فهل سيحكي الكتاب قصة شاعر سجين؟ وعن أيّ سجن وعن أيّ حرية سيكشف هذا الكتاب؟ وهل ستبيّن الدراسة أن الشاعر كان مُغرقاً في ذاتيته أم أنّ شعره كان صدى لقضايا المجتمع والأمة في بحثها عن حرّيتها وخلاصها؟

نظرة متفحصة ترينا أن الكاتبة اختارت العمل على هذا الموضوع لما وجدته في ديوان الشاعر عمر شبلي من وجدانية عالية تعضدها تجربة مرّة مع السجن استمرت زهاء 23 سنة. فما وجدته في هذا الديوان كان «صوغاً فنّياً لتجربة بشرية» فيه الكثير من الصدق والعاطفة ليس على مستوى الذات وأقانيمها فحسب بل على مستوى العمل الجمعيّ والوطن والأمة لتصل إلى المستوى الإنساني. فالكل توّاق إلى الحرية يَنشدُها عند كل بارقة أمل. لذلك نجد جرح الوطن ماثلاً في هذا الديوان وجرح فلسطين نازفاً وجرح العراق عميقاً. ثمّ أنّ دراسة الكاتبة سلطت الضوء على شاعر غزير الانتاج لم يُعطَ حقه من الظهور الإعلامي والانتشار كما حصل للبعض، كما أن اختيار الكاتبة دراسة نتاج شاعر ملتزم بقضايا الوطن والأمة أعطاها أهميتها. فالشعر ليس انسياحاً رومنسياً بقدر ما هو لسان معبّر عن قضايا المجتمع والإنسانية.

توزعت الدراسة في هذا الكتاب على ثلاثة فصول:

ـ إنّ دراسة «ثنائية السجن والحريّة» في معجم الديوان برزت بشكل جليّ وواضح حيث كان حضور كلمتَي «السجن» و«الحرّية» وما يدلّ عليهما طاغياً على قصائد الديوان، وهاتان الكلمتان استدعتا حقلين معجميين متناقضين. كلّ حقلٍ ضمّ في ثناياه الألفاظ التي تنضوي تحت عباءته. فحقل السجن استدعى ألفاظ الظلام والزنزانة والقيد والمعسكر والعميل… يقابله في الجانب الآخر حقل الحرّية وما ينداح تحتها من ألفاظ تُبرزها كالشمس والفجر، والشهداء والحياة والأمل والمرأة.

وتبيّن أن الالفاظ التي تكرّرت بكثرة مثل: القافلة، الشجر، الغصن، الجمل، الحبّ، أهل، الشهداء… هذا التكرار لم يخلّ بالمعنى بل أكده وأدّى دوره في إيصال رسالة الشاعر على أحسن وجه. فحين كرّر لفظة «الغصن»، مرّة كانت تأتي بمعنى الشهداء «ما بال أغصانها حمراء دامية»، هذه الأغصان التي تُثمر حرّية بفعل الشهادة. ومرّة أخرى كانت تأتي بمعنى الحكام العرب الذين جفّ عودهم ويبس «من ألف عام يابس لم ينمُ غصن في الحطب».

ورأت أنه بالترادف اكتسبت بعض الألفاظ دلالات جديدة بخروجها عن النظام اللغوي، بحيث ترادف لفظ «الحرّية» مع «الفجر» و«الوطن» مع «الأرض» و«الحياة» مع «الشهادة» و«الخيل مع الطير».

ورأت أن التضادّ قد أدّى دوراً مهماً في إبراز المعنى وتوضيحه. فالحرّية على الطرف النقيض من السجن، وموت العميل يقابله قيامة الشهيد واليأس يقابله الأمل.

أما الفصل الثاني فقد تناول دراسة بعض الظواهر الصرفية والنحوية في دلالتها على الثنائية المذكورة من دلالة اسم الفاعل واسم المفعول واسم التفضيل إلى الحذف والإثبات والتقديم والتأخير والجمل الإنشائية والخبرية. دراسة هذه الظواهر أرتنا الشاعر مكشوفاً وبلا أغطية وهو ينقل لنا تجربته الذاتية في سجنه تارة وينقل لنا هموم أمته والحالة الصعبة التي وصلت إليها تارة أخرى.

الفصل الثالث خصّصته الكاتبة لدراسة الصورة والرمز. لقد نوّع الشاعر في استخدامه التشابيه تبعاً للصورة التي يريد إيصالها إلى المتلقّي. وكان للاستعارة دور بارز إذ إنها كانت أكثر إيحاءً من التشبيه. ومن خلال الاستعارات المنثورة بكثرة داخل هذه المجموعة رأينا غضب الشاعر وحزنه ورفضه كلّ ما يمكن أن يُقيّد الإنسان ويمنعه من العيش حرّاً كريماً. لقد انتفض الشاعر لكون «الشجر قتيلاً» ولكون «الأرض سليبة» ولكون «النار تعقد مؤتمراً في الحشا». هذه الاستعارات حملت دلالة وجدانيّة لأنها نابعة من تجربته العميقة مع السجن. أما الكنايات التي نُثرت في هذه المجموعة فكلّها كانت ذات دلالات عميقة، تستنفر النقيضين دائماً داخل ثنائية السجن والحرّية.

أما دراستها الرمزَ، فقد أكدت ان الشاعر من خلال استدعائه للشخصيات التراثية لم يكن عبثاً. فـ«زرقاء اليمامة» ترمز إلى حال هذه الأمة التي لا ترى البعيد ولا تأخذ بالنصيحة. و«أوليس» عاد إلى «إيتاكا» بعد أن مرّ بالكثير من الصعوبات، و«أبو رغال» كان رمز الخائن الذي يبيع وطنه ويعيش ذليلاً.

ورأت في نهاية دراستها أنّ شعراً كهذا جمع ما بين الصوغ الفنيّ والتجربة البشريّة يستحقّ أن تُفرد له مساحات لدراسته والغوص في أسراره الخبيئة حيث لا حصر للمواضيع التي يمكن اختيارها من مجموعات الشاعر عمر شبلي وحتّى عناوين دواوينه يمكن أن تشكّل أبحاثاً لا تنتهي دلالاتها لما فيها من غنىً لتنهي دراستها عبر أسئلة تستشرف بها المستقبل وتفنح بها أفقاً جديداً.

شاعر وناقد أدبي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى