نحو نسبيّة ملغومة تعطي نتائج «الأكثري».. وأكثر
د. وفيق إبراهيم
الانسداد في إمكانية وضع قانون جديد للانتخابات النيابية على القاعدة الطائفية الملتبسة، يُعيد إلى دائرة الضوء فرضية وجود مشروع قانون نسبي «شكلاًً» وشديد الطائفية «مضموناً»، تستطيع بواسطته قوى النظام السياسي استعادة أحجامها عن طريق التلاعب بأحجام الدوائر والتحالفات المسبقة. فما تخسره هنا تستعيده هناك، على قاعدة استئصال أكبر قدر ممكن من قوى طائفية خارجة عن التحالفات الحالية، وشخصيات مستقلة تبحث عن أدوار مستحيلة في هذا الزمن.
الدليل موجود في الاستغناء عن فكرة «مجلس للشيوخ» يحافظ على الخصوصية التاريخية للبلاد، مقابل مجلس نيابي مدني يعكس توق اللبنانيين إلى الاندماج وتحطيم الأسوار الحديدية للطوائف. فـ»دستور الطائف» هو الذي أكّد العلاقة بين إلغاء الطائفية السياسية وبين استحداث مجلس للشيوخ. أي أنّ التأسيس للمجلس مرتبط دستورياً بالإلغاء المسبق للطائفية، وهذا ما لا تريده القوى الأساسية بمختلف مشاربها، لأنّها تفقد بذلك جزءاً كبيراً من هيمنتها على إدارة البلاد، باعتبار أنّ مجلس النوّاب هو المنتج للسلطات التشريعية والتنفيذية وينتخب رئيس الجمهورية أيضاً.
لذلك أسقط أفرقاء الحوار «الطائفيون» فكرة المجلسين، لأنّهم لا يحتملون وجود شركاء دستوريين يتحكّمون بإدارة البلاد من خلال مجلس نوّاب غير طائفي، رغم أنّ هناك اتجاهاً كان يسعى لجعل كلا المجلسين يؤدّي وظائف طائفية حصراً، وذلك بخلق مقاسات دوائر لها خصور راقصات شرقيات تؤدّي حركاتها الإيقاعية إلى النتائج المتوخّاة. هناك إذن انسداد في التوصّل إلى قانون جديد، وهذا يستنزف المهل الدستورية دافعاً البلاد إلى فراغ سياسي خطير في مرحلة يدكّ الإرهاب المشرق العربي بأسره، متوقّفاً عند حدود لبنان ومجتاحاً العالم بكامله. ما يفرض على اللبنانيين ضرورة الإسراع في إنتاج قانون يزيد وحدتهم الوطنية قوّة والتحاماً، لكنّ حركة القوى السياسية لا تعكس هذه الأخطار، فهي في «وادي» مصالحها، والخطر على البلاد في «وادٍ» آخر.
وتتسرّب معلومات من اتجاهات خبيثة من محترفين في الطائفيات، يسألون القوى الأساسية عن الفارق بين «قانون طائفي ملتبس»، وبين «قانون نسبي ملتبس»، طالما أنّ النتيجة واحدة. فالتحشيد الطائفي والتحالفات والابتهالات والسخاء المادي هي وسائل تنتج الوضعيات السابقة المهيمنة، فلماذا التخوّف إذن؟
فالنسبية «الملتبسة» هي فنّ اختيار دوائر مختلفة ومتعددة فيها غالبيات شيعية وسنية ودرزية ومسيحية متنوّعة، تتمكّن فيها القوى الطائفية من حيازة 80 في المئة من المقاعد، فتعوّض ما فقدته في هذه الدائرة ممّا تفقده القوى الطائفية الأخرى في دوائرها الأساسية. وبذلك تتأمّن نتيجتان: استيلاء القوى الكبرى على معظم مقاعد مذاهبها، والحيلولة دون تسرّب شخصيات مستقلة إلى المجلس النيابي تستطيع أن تمارس دور الرقيب على مفاسد نظام الطوائف.
والمعتقد أنّ هناك إمكانية لوصول نحو 15 مرشّحاً مستقلاً إلى أيّ مجلس نيابي جديد، هؤلاء بوسعهم إنجاز تحالف يجعل الفساد مسألة شديدة الصعوبة مع تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي والتشابك بين الإعلام الداخلي والخارجي، والصراع بين المشاريع السياسية الكبرى في «الشرق الأوسط». هذه أمور تجعل من مراقبة الفساد والانحرافات السياسية مسألة سهلة ومحميّة، لأنّ التعرّض لمثيري الحملات أصبح دقيقاً ومكشوفاً.
ماذا عن مستوى الدوائر في النظام «الملتبس»؟ لا يجب البحث عنها قبل تحديد القوى التي يجب أن تستفيد منها، وهي التيار الوطني الحر وحزب القوّات اللبنانية عند المسيحيين، وحزب الله وحركة أمل عند الشيعة، وحزب المستقبل عند السنّة، والحزب التقدمي الاشتراكي عند الدروز. وبعد تحديد المستفيدين، تتحدّد تلقائياً هوية القوى التي لا يجب أن تحظى بعدد وافر من المقاعد، وهي عند المسيحيين أحزاب الكتائب والمردة والوطنيين الأحرار والشخصيات المستقلة أو المحسوبة على جهات غير مسيحية.
لجهة الشيعة، فهناك حظر على أيّة شخصية لا تنتمي إليهما بالانتساب أو لا تواليهما بالسياسة، وهي بالتالي الشخصيات المستقلة والمتحدّرة من أوساط يسارية أو إقطاعية، أو توالي أحزاباً عقائدية عربية.
لجهة السنّة، فهناك حصريّة لحزب المستقبل الذي قد يجد نفسه مرغماً على التعاون مع قوى سنّية أخرى لها استقلاليّتها أو تزكّيها أطراف من السعودية وتركيا، لذلك فإنّ دائرة الممنوعين من حيازة مقاعد لا بدّ أن تتقلّص أو تتمدّد تبعاً للمداخلات العربية والإقليمية والدولية. لذلك لن يكون لخصوم المستقبل من أشرف ريفي وعبد الرحيم مراد وغيرهم، مكانٌ إلا إذا تدخّلت قوى خليجية قد تمارس ضغوطاً نظراً للسياسات الانفتاحية التي تطبّقها الرياض على معظم القوى السنية.
ماذا عن الدروز؟ هناك احتكار جنبلاطي كامل لا تعارضه القوى الطائفية الأخرى، إلى جانب حصّة صغيرة لطلال أرسلان. لكنّ النسبية الملتبسة في دوائر «مدوزنة» لن تمنع بعض الأسماء من غير المنسحقة في قيادات طوائفها من التسلل إلى المجلس النيابي، وبمعدّل قد يصل عشرين في المئة، ولن يتدنّى عن العشرين في المئة. وهي معدّلات تسمح بوصول الميقاتي وأفرام وعبد الرحيم مراد ووهاب وسكاف والجميّل والأسعد من دون نسيان بعض ممثّلي الأحزاب الوطنية والقومية المتحالفة مع حزب الله، هي بدورها من ضرورات المجلس النيابي، لأنها تمثّل قوى لبنانية فاعلة في المجتمع. فبماذا يختلف هذا المجلس المفترض عن المجالس السابقة؟ يختلف فقط بالصراعات داخل الطوائف، لأنّ هناك قوى تريد الإمساك بـ90 في المئة وربما أكثر من مقاعد مذاهبها وطوائفها، كحال التيار الحرّ الذي يريد معظم مقاعد المسيحيين بمشاركة «القوّات»، لأنّه يتحضّر للمعركة المقبلة لرئاسة الجمهورية.
وهناك النائب جنبلاط، الذي يصرّ على التمسّك بموقعه المسيطر على غالبيّة مقاعد الدروز وقسماً لا بأس به من المسيحيين والسنّة.
أمّا الشيعة، فهم القوة اللبنانية الوحيدة التي تستطيع الإمساك بـ95 في المئة تقريباً من المقاعد النيابية المخططة لها، وذلك بالقليل من الجهد والتحشيد. أمّا مشكلتها فهي أنّ «الغلبة» الشيعية في البقاع والجنوب تبعد عنها حاجتها إلى الأطراف الأخرى، وحاجة الأطراف الأخرى إليها. وهذا عامل لا يسهّل إمكان تحالفها مع الآخرين بمنطق الحاجة المتبادلة الودّية عادة إلى التحالفات، فهناك طوائف لبنانية موجودة في المحافظات كلّها من دون استثناء، وحاجاتها إلى بعضها بعضاً كبيرة، وتؤسس لتحالفات سياسية واسعة في إطار نسبيّة ملتبسة.
لذلك، فإنّ العودة إلى مشروع الرئيس ميقاتي مع زيادة دائرة أو نقصان أخرى تبدو مرجّحة، لأنها تسرق من النسبية الاسم فقط مع مضمون شديد المذهبية والطائفية، وتدفع إلى عودة تحالف قوى النظام السياسي على اساس هدنة لأربع سنوات مقبلة، ترتكز على «حقّ» التيار الوطني الحرّ بانتزاع معظم مقاعد المسيحيين مع شريكته «القوات»، والمحافظة على وضعية نسبية لجنبلاط يتخلّى فيها قسم من المقاعد المسيحية والسنّية.
وبناءً عليه، يجري البحث عن دوائر تؤدّي إلى إنتاج الخطة المرسومة. قد يبدو هذا الأمر تفصيلاً نسبيّاً إذا ما جرى ربطه بالتحشّدات الإقليمية الدولية التي يجري العمل عليها بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية، مع انعكاس هذا الأمر على احتمال نشوء تحالف عميق بين حزب المستقبل والتيّار الوطني الحرّ برعاية عربيّة دولية، فهل هذا ممكن؟
أخذاً بعين الاعتبار مدى وصوليّة الأحزاب الطائفية، يجب توقّع معظم الاحتمالات من قيادات ذات أحجام صغيرة لا تزال تفكّر بعقلية الأربعينات من القرن الماضي المليء بالتسويات المذهبية المتموضعة حول الداعم الدولي. فهناك تغيّرات اجتماعية تشجّع على اعتماد نظام نسبي صحيح ينتج مجتمعاً لبنانياً متيناً على أسس العدالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلا فإنّ إعادة اجترار التاريخ غير ممكنة في ظلّ توازنات تشجّع على الحداثة السياسية فقط، وتستبعد أولئك الذين يعرقلون حركة التطوّر ويخشون التغيير الفعلي، لأنّ زمن الطوائف لم يعد موجوداً إلا في المشرق العربي، حيث يحاول أهل الظلام عرقلة قطار التقدّم بواسطة الفتن المذهبية والطائفية والقبلية، فهل ينجحون مجدّداً في لبنان؟
للحديث تتمّة.