هاني بعيون… خفقان الرسم على صمت الحجر
رنا صادق
إبداع ينساب على ملء الأعين، أصيل الأداء فريد الموهبة، دائم التطوّر منبثق من الواقعية، هذه باختصار حكاية فنان تشكيليّ بدأ الرسم منذ الصغر وجهد على موهبته حتى صار اليوم فناناً لبنانياً عاصر واقعه وتجاربه ووصل إلى العالمية. فنّه تخطّى الأحلام وسبق الخيال، واكب عصره وقدّمه لوحات تحكي كلّ منها قصة، في زمن ومكان معيّنين.
ابن بيروت الفنان التشكيلي والرسام هاني بعيون، لم يتوانَ يوماً عن الإخلاص لقوميته والوفاء لهويته. ففي ظلّ الحروب والفساد يؤمن بالأمل ويدعو إلى السلام، ويطفو على وجه الانسانية، ويرجع إلى قطع المحبة والأخلاق فيه، وهذا ما يظهر في أعماله طفرةً، وهذا بمعنى آخر انعكاس سلامه الداخلي وإيجابيته مع الأحداث.
عاش الفنان والأكاديمي هاني بعيون في بيروت، وكانت نشأته خلال الحرب اللبنانية، التي سمحت له رغم صعوبة ظروفها وآلامها أن يرسم، ما سمح له بتنمية موهبته، على خطى والده الخطاط محمود بعيون، حيث قام الأخير بتوجيه ولده عن كثب.
شارك بعيون أثناء الحرب اللبنانية بمعرض رسومات خاص بأثر الحرب على الفنانين، حينذاك رسم لوحةً لفتاة صغيرة جالسة تحمل لعبتها بيدها، ثوبها ممزّق، علامات الخوف في عينيها إلى جانب سحر جمالهما. رسم بعيون هذه اللوحة بأقلام الرصاص، ويكمن تميّز هذه اللوحة بدقّتها، ما جعل الزوّار يعتقدون أنها صورة فوتوغرافية، لذا حصدت إعجاب الجميع ومنهم الصحافي الراحل غسان التويني الذي ذكّرته اللوحة بابنته المتوفية. باختصار، لا تكفي الأوراق لاختصار تجارب الفنان هاني بعيون، لما لها ـ ككلّ فنان ـ من مرّ وحلو، ونجاحات تارةً وفشل تارةً أخرى، إلى أن وصل الأمر به إلى التوجّه نحو الصفاء والنقاء الروحي الانساني الذي يضفي على رسوماته طعماً فريداً.
وتجدر الإشارة إلى أن بعيون أستاذ أكاديميّ في جامعة بيروت العربية ـ كلّية الإعلام، يدرّس قواعد السيناريو والإخراج في الأفلام الوثائقية، ومختصّ بتعليم الأفلام الوثائقية والدراما، وهو علم تواصل، يعدّ من التواصل عبر الفن، وهنا يلتقي بقوة مع الرسم، ينبعان من القاعدة نفسها. الرسم على الأحجار آخر تطوّرات بعيون مع الفن، وهو ما يميزه عن الآخرين، وما جعل من شخصيته حكاية، يتشوّق الفرد للغوص في مضامينها، وفي تفاصيلها العجيبة، نعرضها في ما يلي.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن بعيون ركّز في رسوماته على رسم الوجوه بطريقة كاريكاتورية مميزة، إذ تظهر أكثر الملامح بروزاً في الوجه لتمييزه عن غيره.
وبالحديث مع بعيون حول بداياته مع الرسم، قال: والدي كان رسّاماً وخطّاطاً معروفاً. لذا تأثرت منذ الصغر بفنّه وأعماله. كان يشجّعني وأخي دائماً على تنمية موهبة الرسم لدينا. بدايةً كانت مع مجلات الكرتون الخاصة بالأطفال التي كنّا نملؤها برسوماتنا، ويقوم والدي بتصحيحها لنا، كما تأثرت كثيراً بلوحاته الخاصة بالانتخابات، كنت أراقبه وأحاول الرسم بعده على الأوراق نفسها، ومن هنا بدأت حكايتي والرسم، توجهّت في طريقي نحوه بشغف، لذا بعد الثانوية ملتُ نحو الدخول في مجال خاصّ بالديكور، وفعلاً دخلت اختصاص هندسة ديكور، وفي السنة الأولى ربحت في مسابقة للطلاب غيّرت مسار حياتي، وشوّقتني للذهاب إلى روما لمتابعة دراستي بنصيحة من أحد الدكاترة آنذاك. وهناك، درست ما يسمّى التواصل عبر الفن، وهو له علاقة بالاتصال مع الجمهور والمشاهدين والتفاعل بينهما، وهو ما نجده في الإعلانات. عند عودتي من إيطاليا شاركت في معارض رسم عدّة، وشاركت في ندوات إلى جانب مختصّين من كافة أنحاء العالم.
إلى ذلك، عام 1999 شارك بعيون إلى جانب الرسام ريتشارد ويليامز بتجربة خاصة تركت بصمة مميزة في حياته الفنية، إذ سافر إلى لندن ودرس على يد المخرج الفنان العالمي ريتشارد ويليامز، هذه التجربة التي كانت فريدة من نوعها بحسب بعيون، إذ درس وتعلّم أساسيات الرسوم المتحركة، ودخل عالم السيناريو والسينما الذي يرتبط طبعاً بالرسم.
أحجارٌ هنا وأحجارٌ هناك، متناثرة حولك على مدّ ناظرك، هكذا زيّن بعيون غرفته الخاصة بالرسم، بعد أن كان الرسم على الأوراق أجمل مواهبه لم يكتفِ بذلك بل أحب أن يطوّرها بما هو خارج عن المألوف، عبر الرسم على الأحجار، لكنه لا ينكر إخلاصه الدائم للورق، إذ إنّه من الفنانين الذين يرهقهم التكرار ويتعبهم المألوف. لذا خطرت له فكرة الرسم على الأحجار، استلهمها وعمل عليها.
إلى ذلك، يقول بعيون إن لكل من هذه الرسوم ذات الطبعة الحجرية ميزة، ولكل رسمة قصة، وكل قصة عبارة عن تجربة أو مشهد صوّرته بانسيابية ودقّة.
ويتابع: الأحجار من الطبيعة، كلّ حجر يحكي قصته، مرّت عليها قرون، الأحجار فريدة بجمالية لا تشبه بعضها، وطبعاً فريدة عن عناصر الطبيعة الأخرى، هذا ما دفعني نحو الرسم عليها، ما استقطب إعجاب الناس وأثار دهشتهم. فالطبيعة نحتت الأحجار ورسمت هندستها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، لذا تستحق هذه المادة الرعاية والاهتمام وأنّ نصنع منها ما هو جميل وخلّاب لإضفاء الحياة عليها.
كما يعتبر أن اللوحة هي عبارة عن عناصر مجتمعة وممزوجة في ما بينها، أي عناصر جمالية اللوحة لا تتجزّأ، تبدأ من الفكرة أي الرسالة، بعدها توزيع الفكرة على المادة التي تُستعمل ورقاً كانت أم حجراً، إلى ما هنالك بطريقة تشدّ المشاهد وتلفت انتباهه، ثم تُختار الألوان للرسمة بحسب العناصر السابقة، كل هذه العناصر إذاً تحكي قصة اللوحة ومضامينها، لذا لا يمكن عزل عنصر من عناصرها، أو إبراز عنصر على حساب الآخر لأن أيّ تقصير بحقّ عنصر ما، يخفّف من وطأة هدف الرسالة اللوحة.
ينتمي بعيون إلى المدرسة الكلاسيكية، لا يتجّه نحو التجريد، في حين يعتبر أن الفن من الواقع وابن الواقع، منبثقاً منه، ومنذ فترة بدأ يُدخل في لوحاته الخط العربي وذلك لإعطاء هذه اللوحات الهوية والانتماء والأصالة العربية. بالتالي الفنّ الذي لا يحاكي الواقع ليس فنّاً، يصبح تجارة بحسب قوله. كما أنه يستوحي أفكار رسوماته من الأحجار نفسها إذ تفرض ما يليق بها من الرسمات عليه، إلى جانب ذلك، ينعكس طابعه الخاص من تراكمات وخبرات ومدارك حياتية لتوّجه هذه الرسوم نحو أسلوبه الخاص، أي أنه غير معزول بتاتاً عن أعماله. وفي الفترة الأخيرة نلاحظ أن بعيون يميل إلى التركيز على النواحي الانسانية في أعماله التي تعكس النقاء الروحي والصفاء الداخلي والصوفية. وللتشديد على هذه الفكرة، يبرز اللون الأزرق بشدّة برسومات بعيون، وهو اللون المفضل لديه من الصغر، إذ إنّ الأزرق لون السماء والبحر، ويدلّ على الصفاء والراحة والنقاء، يأتي بعده في المرتبة الثانية الأخضر الموجود بشدّة في الطبيعة.
وعن سرّ إعجاب الناس بفنّه، أكّد بعيون أن السبب وراء اهتمام الناس برسومه يتمثل بفرادتها، إذ إنّ الرسم على الأحجار فنّ من نوع آخر، وجديد بالنسبة إلى الناس، وكل جديد مبدع يلفت الأنظار بشكل مدهش، من هنا حصدت الرسومات على الأحجار هذا الإعجاب، لأن الناس يحتاجون دائماً إلى ما هو متطوّر ومبدع، خصوصاً متابعي الفنون عن كثب، لا يمكن تقديم ما هو اعتيادي وتقليدي لهم على الدوام، فالموهبة هبة لكن تطويرها إبداع.