تحليل الأطر المكان في رواية «في شواطي الريح والغبار» للدكتور لؤي زيتوني 2
محمد ماجد صوان
نتابع اليوم نشر الجزء الثاني من بحث «السّيمياء سبيلاً لكشف المكان ونقد، تحليل الأطر المكان في رواية «في شواطي الريح والغبار» للدكتور لؤي زيتوني، بعد نشر الجزء الأول منه أمس
الإشارات المكانية وسيميائية الأحداث الروائية والسياسية:
يتحدّث سعد كموني في كتابه «العقل العربي في القرآن»، الصفحة 34: «يمكننا أن نقول بأن المكان هو بعدٌ من أبعاد الإنسان، يأخذ كثيراً من سماته الأساسية منه، … أن الإنسان بعدٌ من أبعاد المكان ويأخذ كثيراً من سماته الأساسية منه»، فالمكان هو جزء من الإنسان والإنسان هو جزء من المكان.
إن الأماكن في رواية «في شواطي الريح والغبار»، تجعل من نفسها سلماً تصعد عليه الأحداث لتتابعها حتى ختامها، إلا أن المكان المضمر جعل من المكان الرئيس مكاناً متخيلاً، تحتاج لأن تعالج علامات الرواية ومؤشراتها لكي تكون قد وضعت قدمك على طريق الصواب.
– المدرسة: وهي المكان الذي تجري فيه أحداث هذه الرواية، داخل صفوفها، في أروقتها، في إطلالتها، والعديد من الملامح والإتجاهات التي تسعى لأن تكون مكاناً أساسياً لسير أحداث ثانوياً من حيث الأسلوب المعتمد في الرواية أي الواقع والواقعية.
تظهر هذه المدرسة التي يعمل فيها الأستاذ «نظام» للتعليم أولاً، وهي نفسها تصبح مكان التقاء «ياسمين»، التي تبدو معجبة بالاستاذ «نظام»، ثم الطلاب والفتيات، وعصابة نواف والوضع المعروف داخل أي مكان واقعي شبيه بالمدرسة من صفوف والأسئلة التي تطرح فيها، الاستطرادات من المعلمين وغيرها…
المكان هنا المدرسة ليس الغاية التي يسعى إليها الكاتب من روايته، وإن كان هذا المكان مهماً في الواقعية، لكن ما أبقى عليه من مؤشرات دالة على المكان الذي تقع فيه المدرسة، هو غاية المكان المضمر الخفي. فالبلد الذي جرت فيه أحداث الرواية، هو الغاية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، الأحداث التي تحمل مؤشرات زمانية تدل على المكان، وما تحمل الأيديولوجيا السياسية والأوضاع في البلاد العربية جعل من المكان الروائي يظهر ويكشف عن نفسه.
يتحدّث الاستاذ نظام، أثناء عودته إلى المنزل، وهو أمر قاطع شروده للمرة الثانية، فيقول: «يا لها من ليلة… حرق الإطارات وحاويات القمامة قد وصل إلى الطريق السريع هذه المرة… إلى متى ستستمر هذه الحال؟». هذا الكلام في الرواية، يجعل من البحث عن المكان أكثر إثارة، لأن مكاناً تحدث فيه حالات لحرق الإطارات وحاويات القمامة، هي علامات تدلّ على أن مظاهرات كانت موجودةً على الطريق السريع، وإن مثل هذا المظهر الأوليّ، جعل من المكان ساحة للرفض والمظاهرات والاحتجاجات، وبناءً على ما قد وصلنا إليه سابقاً يكون المكان المتصف بالانقسام قد بدأ يتبلور بعض الشيء، ولو بشكل خجول.
يعاود الكاتب في نصّه، طرح هذه الصورة أمام المتلقي، وإن بصورة أوضح هذه المرة، تحمل الصفات السياسية بعض الشيء، والإعلامية منها، فيقول في الصفحة 20: «ما الذي جعل حاويات القمامة تنقلب بهذا الشكل وسط الشارع؟ ومَن أضرم النار فيها؟ … الأخبار العالمية آنئذٍ قد امتلأت بشعارات: الشعب يريد إسقاط النظام».
الزمان السياسي… واقعي
هذه المعاودة في السرد واستخدام تعابير تدلّ على الزمان السياسي الذي هو أيضاً زمان واقعي، تجعل من الزمان المقصود، السنوات التي بدأت فيها الثورات في البلاد العربية، وما سُمّي بالربيع العربي.
في الصفحة 21، يبدأ الحوار بين الأساتذة في المدرسة في إطار أسئلة سياسية، فيقول الكاتب على لسان أحد سائليه: «ما رأيك في ما جرى في مصر وتونس؟ هل ستقوم الثورة في ليبيا؟ هل سيحدث الأمر نفسه في اليمن؟».
كل هذه الأسئلة تجعل من الزمان واضحاً أكثر، وهو الزمان الواقع بين انتهاء الاحتجاجات في مصر وتونس، ثم محاولة التنبؤ باحتجاجات شبيهة في كل من ليبيا وتونس. لكن هذا الزمان يُبقي الغلاف على المكان ويجعله غير ظاهر أيضاً.
تبدأ أحداث الرواية بالتحرك أكثر فأكثر، فتتابع بثباتٍ أكثر وضوحاً لحوادث الرفض والمظاهرات، وهذا ما نراه واضحاً في الصفحة 24، من خلال الحوار الذي دار بين الأستاذ نظام وصديقه عيسى، ثم تتابع الأحداث مسيرتها حتى الصفحة 35، التي تُخرج الأحداث على شكل أعمال «شغب»، فيقول: «فمشاهد «الشغب» المتمثلة بالحرائق والعبث بالحاويات كانت بالفعل مقدّمات، لأن أركان الدولة اهتزت تماماً بفعلها…».
فالمظاهرات والرفض، وكذلك الزمان، يجعل من الكشف عن المكان أكثر سهولة ومتعة، وفي الصفحة 35 أيضاً تجعل من الأحداث أكثر وضوحاً، وذلك من خلال «حديث الناس»، فجاء هذا الوضوح على شكل نقاش بين «الناس»، مضمونُ حديثهم عن الذين استفزوا السلطة من خلال بقائهم في الساحة.
إن إبراز الوضع الطائفي في الرواية من دون تكلف أو فرض في المتن الروائي، يجعل من هذه الطائفة أو تلك، تُسهم في إظهار المكان الذي تدور فيه الأحداث الواقعية والروائية على حد سواء، ففي الصفحة 39 و40، يتحدث الأستاذ نظام مع عيسى لإخباره عن «صفية» السكرتيرة، وما قالته للآنسة ليلى أستاذة الدين، وأن الأساتذة اعتبروا كلام صفية، يتَّسم بطابع «العنصرية والطائفية».
لكن حديث عيسى، وهو من ضمن المحسوبين على الطائفة الثانية – فالأولى هي طائفة السلطة – جعل من حديثه مشجعاً لعمل صفية، الذي قد وصفه بـ«شجاعة نادرة»، أما الأستاذ نظام، فاعتبر أن كلامها طائفي، وهذا ليس من «صالحكم» – أي الثورة التي اتُخذ قرارها وإن بقيتم على هذا الجانب الطائفي، ستخرجون من عنوان ثورتكم، وسيؤلب عليكم الطائفة الأخرى والمحيط الطائفي كذلك، فيردّ عيسى بأن لنا في هذا المحيط من هو من «طائفتنا».
في هذا الحديث جانب مهم، يجعل من طابع الثورة يحمل صفة طائفية، أو يُخشى عليها أن تحمل هذه الصفة. فطائفة البلاد في الواقع والتي أثبتناها سابقاً هي طائفة السلطة التي تحكم بلاد الخليج العربي بأسره، والذي تحدث عنه الأستاذ نظام هو محيط منتمٍ إلى هذه الطّائفة بامتياز، وهي طائفة الدولة في مقابل الطائفة الثانية التي تتلوّن بها المعارضة.
تتابع الرواية بشكل لافت الحديث عن البلاد المجاورة، وتحديداً الدولة «الشقيقة»، التي سوف ترسل «قوات» لفرض الأمن، صفحة 41 فهل الدولة الشقيقة هي الجارة الكبرى ذاتها، التي قد سبق وتحدثنا عنها آنفاً؟ لعله كذلك، لكن هذا يبقى ضمن إطارٍ بحاجة إلى إثبات.
يأتي إثبات هذا الأمر في الصفة 61، وعلى لسان ياسمين فتقول: «كم أشعر بالارتياح بعد أن دخلت قوات الدعم إلى البلاد … مع أننا على يقين بأن الشقيقة الكبرى لن تتخلى عنا أبداً»، هذا الإثبات يحيلنا إلى الواقع البحت، فالسعودية تَدخَّلت في تلك البلاد، لتضع حداً للأزمة الموجودة فيها.
وأيضاً الصفحة 77، وفي إطار الحديث عن «الطائفة الأخرى» و«طائفة الموالين»، يذهب بنا الحديث إلى محاولة الكشف عن الطائفة الأخرى، مَن هي؟ كيف يكون لها دعم من «المحيط»؟ هذا ما تؤكده لنا الرواية في الصفحة 85، « … هذا ما أكده تدخل السيد في شؤون بلادنا، فما علاقته بنا؟ وماذا يعرف عنا؟ وما علاقته بالفئة المعارضة غير الانتماء الطائفي الواحد؟». في هذا الحديث، يجعل من الطائفة الثانية الطائفة المُعارضة، بناءً على أن هذا الاسم السيّد منسوب إلى شخصية سياسية معروفة في لبنان، ومعروف انتماؤها الطائفي. وإثباتاً لذلك، تتابع الرواية الحديث عن السيد في الصفحة التي تليها، في أن الكثير من شباننا، كانوا واقفين معه في حربه مع «إسرائيل»، لكن تدخله في بلادنا غير مقبول. هذا ما يثبت بأن المقصود هو ذاك الشخص بانتمائه المعروف، وبمقاومة «إسرائيل» في لبنان.
المكان في إطار الشبهة والالتباس
بعد هذا العرض عن مجريات الرواية وأحداثها ومؤشراتها، وما تركه الكاتب من أثر المكان في الشخصيات والأسماء والسياسة والطائفة و…غيرها، وأثر هذه الأمور في الكشف عن المكان، جعل منه أكثر تبلوراً ووضوحاً، وإن كنا قد وضعنا بعض المسمّيات الواقعية بوصفها مؤشرات الرواية، فذلك ما حافظَ عليه الكاتب، وما حرص على عدم إيضاحه، الأمر الذي يُبقي المكان في إطار الشبهة والالتباس.
إذا قمنا باستذكار بسيط عن ثورات «الربيع العربي» وأين حصلت، وما هي مسميات المناطق التي جرت أحداث تلك الثورات فيها، قد نستطيع أن ندرك المكان في هذه الرواية من خلال بعض المؤشرات التي قمنا بتحليلها سابقاً، وأقصد مثلاً: الدال: ميدان التحرير، المدلول: مظاهرات لإسقاط النظام في مصر، العلامة: الثورة المصرية أو العلامة: ثورة الياسمين، الدال: تونس، المدلول: الثورة التونسية. هذا الأمر يجعل مرجعية المكان المحصور، الذي قامت فيه مظاهرات واحتجاجات مرتبطة كل الارتباط بالمكان العام، فيستحيل أن تقول مثلاً: ميدان التحرير مرتبط بالثورة التونسية، والعكس صحيح.
هذا الأمر ينعكس تماماً من الواقع على الأدب، وتحديداً الرواية التي نتناولها في هذا البحث، فنلاحظ تكرار استخدام اسم «الدوار» في أكثر من موضع، مثلاً: 35، 37، 48، 50، 74، 83.
في الموضع الأول 35 ، ترافق ذكر اسم الدوّار مع كلمة الساحة، كأن هذا المفهوم والمصطلح لا يحمل دلالة مكانية أكثر شمولاً ترتقي، لأن تصبح دالاً على المكان العام، «فالساحة» أو «الدوار» في هذه الصفحة هو مكان للاحتجاجات، كما أنها عصب اقتصادي مهم لا غير.
الموضع الثاني 37 ، تكرّر استخدام كلمة «دوار» في إطار الطلب بإخلائه من المتظاهرين، وفي الموضع الثالث 48 ، تتحدّث ياسمين عن «أزمة الدوار» وفي الصفحة ذاتها ذكر آخر، لكنه مختلف، وهو: «احتلال الدوار»، وهذا التعبير استخدمته ياسمين في الموضع الرابع 50 . كذلك الأمر في الموضع الخامس 74 . وجاء اسم الدوار في إطار الحديث عن «المستشفى والدوار»، وفي الموضع الأخير 83 ، يتكرر أيضاً هذا الاسم.
إن تكرار اسم الدوار وتسخيره في أكثر من موضع، يجعله يكسب صفة الدال التي تشير إلى مدلول يكونان معاً علامة المكان التي نريدها، فكلمة «الدوار» في تكرارها يجعلها دالة كما قلنا، ومدلولها يقوم بناءً على ما قد سبق وبحثنا فيه داخل كل مؤشر، فالدوار ارتبط بالأحداث الجارية في البحرين تحديداً، بوصفه مكاناً للتظاهر مع بداية الثورة البحرينية، وللبقاء فيه بقصد الاعتصامات وغير ذلك… فالدوار هو المؤشر الأهم الذي يثبت صحة ما وصلنا إليها سابقاً، فقد تظافرت كل العلامات السابقة لتجعل من الدوار خصوصاً، يحمل مدلولاً يَفي بغرض الكشف عن المكان، فمثل ارتباط ميدان التحرير بالثورة المصرية، ارتبط الدوار بالثورة البحرينية.
خاتمة
إن تراكم العلامات التي تجعل من نفسها خادمة للعلامة الأكبر، وأقصد المكان، جعل من كُلِ علامة على حدة تحمل تأثير المكان فيها، فالإيحاء الطّائفيّ الذي يشير إلى طائفة للسلطة، وأخرى للثورة، والجارة الكبرى التي توحي إلى السعودية والمحيط الذي وقف بقوات الدعم مع السلطة للقضاء على المعارضة، وغيرها الكثير ما يثبت صحة نسبة الدوّار إلى البحرين نتيجة عدم هبوب أي نسمة من نسائم الربيع العربي على دول الخليج العربي عدا مملكة البحرين.
يبقى أن نشير إلى أنّ هذه القراءة للعلامات السّيميائية داخل رواية «في شواطي الرّيح والغبار» لا يمكن أن يكون عملاً متكاملاً، بل فاتحةً لقراءاتٍ أخرى يمكن أن تجد ما هو أعمق في ما تقدّمه من إشارات وإيحاءات، خصوصاً ما يتعلّق بالأطر النفسيّة والاجتماعيّة التي تستند إليها الرّواية في تطوّر أحداثها، كما في ما يتعلّق بطبيعة الشّخصيّات وصراعاتها.
يبقى أن نشير إلى أنّ الرّواية قد تكون موجّهةً على المستوى الأخلاقيّ والسّياسيّ، إلاّ أنّها كذلك موجّهة على المستوى التّربويّ لما تتمتّع به من إشاراتٍ قيميّة تجعل منها جديرة بالمطالعة والتّعميم.
المصادر والمراجع:
كموني، سعد، العقل العربي في القرآن الكريم.
زيتوني، علي، النص الشعري المقاوم في لبنان.
بارت، رولان، الأسطوريات.
العيد، يمنى، فن الرواية العربية.
زيتوني، لؤي، في شواطي الريح والغبار.