كي تكتمل الصورة… بما نرغب
د. زهير فياض
يُقفل الشهر المنصرم على مشهدية لافتة فيها العديد من المفارقات والوقائع والأحداث والسياقات التي تدعو للتأمّل واستخلاص العبر والدروس، وربما تصلحُ لرسم صورة نمطية للواقع الذي نحياه والمستقبل المأمول الذي نسعى لتشكيل ملامحه بما يليق بتضحيات شعبنا وآماله وطموحاته في بناء مجتمع العدالة والحرية والمساواة والمواطنة ورفض كلّ أشكال الهيمنة الداخلية والخارجية وتحقيق الاستقرار المعطوف على التنمية والازدهار والسلام الداخلي لمجتمعٍ يعاني نقص المناعة «المكتسبة» منذ عقود، إذا لم نقل منذ قرون كنتيجة حتميّة لغياب الوعي المنشود وتلاشي البنى الاجتماعية والإنسانية والشعبية القادرة على تحصين وحدته ومنعته الداخلية في وجه هذا الكمّ الهائل من تحدّيات وأخطار وهجمات واستهدافات عميقة واسعة تطال الأصل والفروع قبل أيّ شيء آخر.
ثمّة لوحة مشهدية تُرسم الآن في بلادنا، وثمة كمّ هائل من ألوان وزركشات وأشكال تساهم في تشكّلها، وفي ترسيخ ملامحها في الذاكرة الجمعية التي نريدها ذاكرة حقيقية «شفّافة» صادقة وأمينة على تاريخها لتشكل لاحقاً الأساس للوعي المجتمعي المقبل بما يتناسق ويتلاءم ويتناغم مع مخزون هذه الذاكرة وأدوات هذا الوعي المتشكّل من رحمها ومن قلب معاناة إنساننا.
ليس أمراً سهلاً ممتنعاً، الجزم في مآل تطورات الأحداث، ولكن – وهذه نقطة محورية – نحن قادمون على مرحلة مفصلية وجوهرية وحاسمة في المعطى اللبناني والقومي وحتى الإقليمي والدولي وانعكاساتها ستكون بلا ريب – شاملة المنطقة بكاملها والعالم.
في لبنان، سياسة حرق المهل مستمرة في موضوع الانتخابات النيابية، ومسارات النقاش حول قانون الانتخاب العتيد، كلّ هذا يؤشّر الى هشاشة هذه الطبقة السياسية وهزالها في مقاربة «قوانين الانتخاب» في هذه اللحظة الحرجة من لحظات الصراع المشتعل من سورية الشام إلى العراق والتي يتسابق فيها الميدان مع السياسة في رسم الصورة المستقبلية لما يُراد له أن يتشكل على أنقاض «سايكس بيكو» الجغرافيا، باتجاه خرائط جيو – سياسية و«سوسيولوجية» أكثر دهاءً وخطراً وكارثية، حيث إنه بات واجباً التقاط الفرصة «التاريخية»، وتثمير ما تبقى من وعي وطني وقومي باتجاه إنقاذ الوضع، من خلال التركيز على البعد المدني للتشريعات والقوانين بما فيها «الانتخابية» حتى نستطيع أن نحقق إنجازات نراكم عليها في بناء الدولة المدنية الوطنية العادلة والتي ستشكل بلا ريب القاعدة للتوسّع والإشعاع والتوهّج باتجاه كامل المحيط القومي والبيئة الطبيعية، وبالتالي المساهمة الفعّالة في وأد كلّ مشاريع التقسيم والفدرلة القائمة على قواعد الانشطارات الداخلية الجزئية طائفية ومذهبية ، على اعتبار أنّ الخرائط «المستقبلية» لهذه المنطقة ستشمل بطبيعة «الواقع والتأثير» لبنان، فالتأثير متبادل سواء في السلب والإيجاب، لذا يكتسب النقاش حول «قانون الانتخاب» بعداً استراتيجياً غير مسبوق في تداعياته الجوهرية على البنية السياسية والاجتماعية لدول «الهلال الخصيب» كلها، والذهاب بأيّ اتجاه يشكل «مسؤولية تاريخية»، لا بدّ، لا بل من الواجب على القوى الحية في لبنان الارتقاء الى مستواها والإجابة على تحدّياتها بما يعزّز شبكة الأمان الوطني والقومي ويساهم في تحصين الوحدة الداخلية وبالتالي إعادة الاعتبار الى الهوية الوطنية والقومية الجامعة للمواطنين على قاعدة وحدة الحياة والمصير سواء في لبنان أو في كامل محيطنا وبيئتنا.
وكلّ ذلك، يأتي تزامناً مع دخول الأزمة السورية مساحةً مفصلية مع الإنجازات الميدانية التي حققها تحالف الجيش السوري وقوى المقاومة في أكثر من منطقة من حلب الى دمشق الى حمص الى السويداء ودرعا والقنيطرة وغيرها من مناطق الاشتباك في السنوات والأشهر الماضية. ولعلّ تفاهمات «أستانة» وحوارات «جنيف» وإن كانت تبني على الوقائع «الميدانية» إلا أنّ مضامين هذه التفاهمات حول ما سُمّي «مناطق التوتر» قد تكون لها محاذير وانعكاسات سيئة للغاية إذا ما تمّ استكمالها بمتابعة خلق وقائع ميدانية جديدة تلغي مفاعيلها السياسية المحتملة باتجاه تعزيز وحدة الدولة السورية وتمتين أواصر الوحدة السياسية بما يُضعف كلّ أطروحات التقسيم والشطب والفصل ويقضي – ولو على مراحل – على واقع «المناطق العازلة» وكلّ «الغيتوات» التقسيمية المشبوهة.
كلّ هذه الوقائع تتزامن مع زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المنطقة من البوابة السعودية، حيث عقدت القمة الأميركية الإسلامية الخليجية بكلّ فظاظتها ووقاحتها وإظهارها عري هذا التحالف «المشؤوم» في أهدافه القريبة والبعيدة وفي الخطر الذي يمثله على قضايانا المصيرية من فلسطين إلى لبنان إلى الشام والعراق والأردن، باتجاه تصفية المسألة الفلسطينية وإعادة ترتيب المنطقة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأميركية والغرب، وبما يعزز وضعية الكيان الاستيطاني الغاصب على أرض فلسطين التاريخية، وبما يُدخلنا في خرائط تقسيمية لن تكون أبداً عنوان استقرار ورخاء وازدهار، بل على العكس هي الممرّ لحروب استنزافية داخلية طائفية ومذهبية لألف عام من الآن.
هذه المشهدية ليست قدراً، هي احتمالية الحدوث وما يمنع حدوثها هو تنكّب القوى الحية لمسؤولياتها التاريخية في الصمود والمزيد من المقاومة وعدم المراهنة على سراب الوعود «الدولية» ونسج أعمق وأصلب التحالفات مع كلّ القوى المناهضة لمشاريع السيطرة والتوسّع والغلبة والهيمنة العسكرية والاقتصادية لأميركا والغرب و«إسرائيل» على مساحة الكوكب بأسره.
نحنُ على قاب قوسين من تلمّس الطريق للخروج من هذا النفق المظلم…
فهل نكون على مستوى التحدّي والأمل؟
عميد في الحزب السوري القومي الاجتماعي