ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

من مآثر رفقائنا في الشام

عرضنا في عدد من الحلقات بعنوان «من مآثرنا»، لكيفية تعاطي القوميين الاجتماعيين في الشام على إثر حادث اغتيال العقيد عدنان المالكي، وفيها الكثير من وقفات التحدّي والصمود رغم ما تعرّضوا له من تعذيب في المعتقلات والسجون.

في مذكّراته «جنوح الأشرعة»، يروي الرفيق جهاد جديد ما حصل معه ومع عائلته، في اليوم التالي لاغتيال المالكي السبت 23 نيسان 1955 يقول في الصفحات 231، 232، 233، و234:

«صباح يوم السبت في الثالث والعشرين من نيسان عام 1955 وقبل التوجّه إلى الثانوية، عرّجت على مكتبة عريف في شارع هنانو في اللاذقية. كانت الصحف المعلّقة في الواجهة، وعلى جانبيها، تحمل عنواناً رئيساً مكتوباً بالأحمر الفاقع: اغتيال العقيد عدنان المالكي. ومنذ ذلك اليوم سارعت بعض الصحف المتآمرة إلى اتهام الحزب السوري القومي الاجتماعي.

توقفتُ قليلاً، طغى عليّ الارتباك والقلق… صدمني هذا الخبر الصاعق، ابتعدت قليلاً عن المكتبة ولم أعد أرى أو اسمع ما حولي. ليس اسم عدنان المالكي جديداً عليّ، فقد سمعت به منذ فترة قصيرة، حين رُوّجت إشاعات مبكّرة تزعم أنه على خلاف حاد مع القوميّين، وتعتبر أن المالكي هو المسؤول عن تهميش موقع غسان جديد في الجيش ثمّ عن استبعاده وتسريحه.

قلّبت الأمر كثيراً على وجوهه المحتملة كلّها، وخرجتُ بنتيجة مقنعة ومؤكدة، استقرّت في وجداني وأعادت إليّ توازني. لا يمكن أن يُقدِم حزبنا على هذا الاغتيال الظالم المجافي لعقيدته والمضرّ بمصلحته. وغسان جديد ذلك القائد القومي الاجتماعي المؤمن بحقّ الاختلاف، يحاور خصومه ويقاوم ما يراه انحرافاً، ويواجه بتحدّ وجرأة من يتربّص به شرّاً. إنه الفارس الذي لا يطعن أحداً في ظهره.

وهكذا، عدت إلى المكتبة، لم أجد جريدة البناء. فاشتريت الرأي العام ومضيت نحو المدرسة. ظلّت صورة المالكي التي تتصدّر الصفحة الأولى مرتسمة على شاشة ذهني: وسامته، ابتسامته، نظرته الرانية إلى الأعلى. حاولتُ استبعادها، واستحضرت إلى حين صوَر سعاده، عصام المحايري، غسان جديد، وغيرهم من الذين يجسّدون مبادئي وقناعاتي. للحقيقة لم أستطع إزاحة تلك الصورة.

دخلت باحة المدرسة، وتوجهّت إلى ملتقانا في الزاوية، كان رفيقي وصديقي حسن خير بك ينتظرني. لم يستقبلني، كعادته، بجملة مازحة أو نظرة ضاحكة. تصافحنا وابتعدنا قليلاً عن زملائنا، ثمّ دار بيننا حديث مُغلّف بالضيق والتوجّس. سألته عن قيس فاضل ومحمد عبد الوهاب وأنور جديد 1 ورئيف كوسا وتوفيق جنيكة وغيرهم، فأخبرني أنهم جميعاً لم يحضروا.

قُرع الجرس، ودخلنا قاعة الدرس، توجّهت إلى مقعدي مع الرفيق جميل محمد. وقبل أن يستقرّ الطلاب في مقاعدهم سمعنا صوت الأستاذ زهير يعلن: نهار أمس ارتكب السوريّون القوميون أكبر جريمة… اغتالوا العقيد عدنان المالكي في الملعب البلدي في دمشق. حاصرتنا الأعناق والوجوه، وهاجمتنا النظرات المستغربة والمستنكرة والحاقدة. صارت كلّها تصوّب علينا سهام الاتّهام. حاولت أن أثبّت بصري باتّجاه الأستاذ متفادياً نظرات الظنّ الآثم، ومحافظاً على قدرٍ كافٍ من الثقة التي تدفع الشماتة. بعد قليل خيّل إليّ أن الأستاذ، الذي يحدجني، يستهدفني وهو يلحّ ويُسرف بنبرات خطابه المحرّض، وضربات يده المتتابعة بغضبٍ أحمق على الطاولة. لم يُتح لي أن أهمس لجميل ولو بكلمة واحدة. وقد كان هو الآخر يعاني ما أعاني 2 .

حين قرع جرس الاستراحة كان الأستاذ مسترسلاً في سرد تاريخ الإجرام السياسي، وحين بدأ الطلاب يتحرّكون أشار إليهم أن ينصتوا، وأكمل: لا ينبغي لهذه الجريمة أن تمرّ من دون عقاب، القوميون كلّهم مدانون. ثمّ استرسل في اتّهاماته الجائرة مركّزاً على وجوهنا نحن القوميين الذين يعرفنا ويتابع نشاطنا. وقبل أن يكمل الجملة الأخيرة وقف الرفيق إبراهيم ملّوك 3 ، ومشى باتجاهه، فأدركني خوف مباغت وأسرعت لأمسك بإبراهيم وهو يصرخ: من أخبر هذا المحقّق بأننا القاتلون؟ وبعد جهد استطعت أن أقنعه فخرجنا وهو يقول: أما رأيته يصوّب علينا؟ هل يعقل أن ينتقم مدرّس ذو رسالة، كما يدّعي، من طلابه اليافعين؟

كنا ثلاثة: جميل وابراهيم وراوي هذه الوقائع، خرجنا من القاعة محزونين وغاضبين، ولمسنا فور خروجنا أنّ الطلاب في الساحة مشغولون في هذا الموضوع، وسمعنا عبارات السخط والشتيمة، وأدركنا بالفطرة والملاحظة، أنّ الانتقام قد تقرّر وعُمّم، وأنّ تبعاته سوف تلاحقنا وتؤذينا. ابتعدنا عن طلاب صفنا. حتى لا نثير الانتباه. ثمّ اقتربنا من معبر الهروب إلى خارج المدرسة، وبعد أن قرع جرس الدخول، راقبنا ما حولنا، ومن حولنا، وبقوّة استثنائية تسلّقنا السور وقفزنا إلى الشارع.

توجّهنا إلى منزل كمال خير بك 4 القريب جدّاً من الثانوية، استقبلنا بلهفةِ الأخ الأكبر، وأدخلنا غرفة وجدنا فيها عدداً من الرفقاء يناقشون هذا الأمر الطارئ. كان الحوار بيننا هادئاً وحذراً ومتقطّعاً، وبدا لأكثرنا أننا متورّطون، لأنّ الخلافات التي استفحلت، والإشاعات التي راجت كانت كلّها تهيّئ الجميع وتحضّرهم لقبول الاتّهام. وهذا بالضبط ما أشار إليه كمال، وهو يدفع عن قيادة الحزب هذه الفرية المعدّة والمركّبة تركيباً مشبوهاً، ومحكماً في الوقت نفسه.

تداولنا في تلك الجلسة شؤوننا المدرسية، لأننا وجدنا أنفسنا مهدّدين باعتداءات لا نستطيع الردّ عليها، وخرجنا برأي يدعو إلى التريّث أسبوعاً قبل استئناف الدوام. نذهب إلى منازلنا ثمّ نرجع السبت المقبل إلى صفوفنا، ومعنا الوثائق الكفيلة بتبرير الغياب. وخلال هذا الأسبوع يستطلع بعضنا المكان، ويتسقّط الأخبار، وسوف تكون الأمور أهدأ وأكثر طمأنينة.

وصلتُ إلى القرية مساءً. كان منزلنا يغصّ بالأقارب والأصدقاء وبعض أهل الرفقاء، أطلّت صورة سعاده التي تتصدر واجهة الغرفة، منحتني ابتسامته المشرقة، التفاؤل والطمأنينة، وغمرتني نظراته بالاعتزاز والقوة.

استقبلتني والدتي بلهفة غامرة، احتضنت صغيرها اللائذ بحضنها ثم غمرته بجرعات من الحنان والكبرياء. قرأت في عينيها أسئلة متعدّدة، وهموماً تأبى أن تبوح بها. وحين دخل والدي من الغرفة الثانية، أحسست أنه يغالب حزناً ويقاوم دمعاً، وتوهّمت أنه، بعد السلام الحارّ، قد يذكّرني بتلك النصائح التي كان يردّدها، ويلحّ عليها، ويدعونا من خلالها إلى الحيطة والابتعاد عن مقاومة الدولة. لكنّني للمرّة الأولى، سمعته يخاطبني، ويخاطب الزائرين، بلغة جديدة تدعو إلى ممارسة الحياة الحرّة الأبية، وتدعو إلى المواقف النابعة من كرامة الإنسان والأمّة.

ولم ينس والدي أن يجزم بنبرة قاطعة أن القوميين مؤمنون بأمّتهم، وأنهم صادقون في دعوتهم، وأنهم أبرياء من التهم التي يروّجها خصومهم. وازدادت هذه النبرة قوة ورصانة حين بدأ يعدّد المزايا النبيلة للضابط غسان جديد، فأسهب مشيداً بأصالته ووسامته وقوة إرادته، وأشاد أيضاً ببراعته وشجاعته أثناء قيادته أحد أفواج جيش الإنقاذ الذي استبسل في مقاومة الصهاينة عام 1948، ثمّ أنهى كلامه بتكذيب الجريدة التي أرادت أن تشوّه صورة الحزب وسمعته.

بعد أن انفضّ الساهرون، عدا ثلاثة رفقاء، جمعنا والدي وأوصانا بالصبر والتكتّم، لأن رجال الأمن سوف ينشطون، ولأن المخبرين والمأجورين والحاقدين سوف يفترون ويتاجرون. ثم طلب إلينا أن نجمع المطبوعات الحزبية كلّها، من كتب ومجلات وجرائد ووثائق ونشرات وصور وغيرها، وباشرنا جميعاً العمل على إخفائها. وضعناها في أكياس طحين، ثمّ في أكياس خيش، وحملناها على الدواب إلى مخبأ سرّي آمن. وحين أنجزنا هذه المهمة، علّق والدي آسفاً ومازحاً: أتمنّى أن تستعيدوا هذه الثروة في وقت قريب.

عدنا إلى المنزل قبل انبلاج الفجر، استقبلتنا صورة جديدة للزعيم وضعتها والدتي بإتقان في صدر الغرفة محل الصورة التي حملها والدي إلى المخبأ. رأيت والدي يبتسم وفي نظراته فخر وفرح وكثير من اعتزاز».

وتابع في الصفحتين 235 و236، فيروي التالي:

«قاسية كانت تلك الأيام الطويلة التي تلت اغتيال المالكي. تبادل أفراد أسرتنا عبارات التشجيع المخمّر بالحزن، كلّ منّا يشجّع الآخر.

ليلة أمس سمعتُ صوت أمّي الهامس. كانت تعاتب أختي الصغرى وتلومها لأنها تبكي. وفي الصباح همس والدي في أذني: لا ضرورة للعودة إلى الثانوية مطلع الأسبوع المقبل. السنة الدراسيّة توشك أن تنصرم. ولم يبق للامتحان إلا اسابيع محدودة.

كنت واثقاً أنّ أخي عبد الكريم قد زجّ في سجن المزّة الذي كثر الحديث عنه، وكنت قلقاً في شأن أخي منير الذي لم يأتِ من حلب الصاخبة والناقمة. وبالفطرة أحسست أننا ضحايا مؤامرة كبرى. نعم مؤامرة. منذ ذلك الوقت بدأت هذه المفردة الجديدة ترد كثيراً في أحاديث الرفقاء ناشئين وناضجين. وفي الفترة ذاتها كثر الحديث عن ظاهرة الاعتقالات السياسية التي لم تكن قد استفحلت بين العامة. بعد أيام تأكدنا أنّ المكتب الثاني قد اعتقل كافة القوميين الاجتماعيين الذين كانوا تلامذة غسان جديد في كلّية ضباط الاحتياط، وكان منهم أخي عبد الكريم وأدونيس وبشير الجزائري وأحمد شميّس والياس عبيد وآخرون. قيل لنا حينذاك: إن الزيارات مستحيلة. ثم بدأت الأخبار تتسرّب عن ألوان التعذيب الموروثة والمستحدثة. لأنّ المرحلة السياسية الواعدة تستدعي أساليب تناسب كتل الحقد والكيد، وتستجيب لرغبة مُبيّتة في استئصال الحزب. وكانت أخبار الصمود الأبيّ تتوالى فتجدّد ثقة القوميين برفقائهم وبأنفسهم. وتعيد لأسَر المعتقلين مناعة الصبر ومقوّمات الزهو والفخر.

كم شعرنا بالسعادة حين وصلتنا باقاتٌ من شعر أدونيس كتبها في إحدى زنزانات المزّة 1955. قرأنا في تلك القصائد المهرّبة، مقادير الأحقاد والشرور المضمرة والمترجمة، وقرأنا آيات الإباء القومي متجليّة في وقفات العزّ العامرة بالصمود والمغفرة. وإنني أورد الآن مقاطع قصيرة من قصيدة عمودية اخترتها من مجموعة كان الرفيق أحمد شميّس قد نقلها عن أوراق أدونيس ورتّبها في دفتر خاص، لأنه أرادها أن تكون صرخة حماسيّة معبّرة عن الاحتقان والغضب، ومعبّرة عن الاعتداد بقيم الإباء والسموّ والتضحية:

وراء شعبي نفاياتُ مروّعة

تخطّفوا الحقد والتخريب، واقتسموا

ماذا؟ أنثأر منهم للذي صنعوا

ولفّقوا وادّعوا؟ ماذا؟ أننتقم؟

عفو الحقيقة فينا، فهي ما خُلقت

إلا لتفتح أبواب الضحى لهم

لأننا ثورةٌ كالحتم صاعدة

لأننا الزهر والينبوع والقسم

نساق للذبح أفواجاً مكبّلة

وبالعلوّ على الأحقاد نُتّهم

ما همّنا، وأصيل الشعب يحضننا

كأننا في ثنايا نفسه حرم

يا فاتحين دروب الشمس، كلّ غدٍ

لكم صلاةٌ، وعينا شاعرٍ، وفمُ.

قبيل عودتي إلى اللاذقية، زارنا بعضٌ من أهل خطيبة أخي عبد الكريم ليعربوا عن مشاعر متعاطفة ومواسية. فاجأت أكبرهم المرحوم محمد خير بك صورةٌ زاهية للزعيم، تطلّ بابتسامة مشرقة من أعلى المكتبة. تمنّى الصديق البعثيّ المحب أن نخفي الصورة، حتى لا تكون سبباً في المساءلة والإساءة. أجابت والدتي بتوتّرٍ عالٍ: هذه الصورة ستبقى في محلّها. هذا الزعيم الذي يحبّه أولادي. استشهد من أجل وطنه. لا نستطيع أن نخفيها. هو في قلوبنا وعيوننا.

كان موقفها درساً في مبادئ المحبّة والاعتداد، فأربكت الأهل، وأحرجت الضيوف الأعزّاء، وجعلتني أشعر بغصّة حرّى فأوشك دمع الفرح والكبرياء أن يسيل».

هوامش:

1 أور جديد: تولّى لاحقاً مسؤوليات محلية ومركزية. مُنح رتبة الأمانة. محامٍ معروف.

2 تلك الحالة نتج عن اغتيال العقيد عدنان المالكي، واستمرت لسنوات ثم انتهت مع بدايات السبعينات، وحلّت مكانها علاقة صداقة متينة، فيها الكثير من الثقة والتعاون.

3 ابراهيم ملوك: أورد المؤلف التفسير التالي في الصفحة 232: عرفته في الثالث الإعدادي، في ثانوية الشيخ سليمان الأحمد في كلماخو. عرفت أنه قد ورث عن أبيه مسؤوليات أسرة كبيرة، فصار وهو فتى، ربّ البيت وصاحب الكلمة بين أهله الأقربين يحاسب ويعاقب ويحسم. كان ابراهيم عريض المنكبين، عبل الساعدين، راجح الكفّين. له جبهة عريضة ووجه طافح وعينان واسعتان فصيحتان. يتحدّث بلهجة صارمة وصوت مدوّ، وحين يتجهّم أو يغضب يخشى مَن حوله أن يلوم أو يعنّف أو يعاقب. كان ابراهيم ذا قلب رحب صاف. تستقر في وجدانه قناعات حاسمة. لا يداور فيها ولا يناور، لذلك كان طوال عمره القصير، مخلصاً لمبادئه، بارّاً بأسرته، وظلّ حريصاً على تمتين العلاقات مع الذين يصطفيهم من رفقائه وأصدقائه وظلّ وفياً لهم. لكنه، وهو الصادق في حبّه وفي ولائه، لا يستطيع أن يكتم غيظه، أو يكبح غضبه. أحببناه رفيقاً ملتزماً مخلصاً. وأحببنا حبّه الذي قد يتجاوز الحدود، وأحببنا غضبه الذي قد يهدم الحدود.

4 كمال خير بك: الشاعر، الأمين الشهيد لاحقاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى