النكبة والبعد الديمغرافي في الصراع 1
رامز مصطفى
على مدار 69 عاماً من عمر نكبة الشعب الفلسطيني في الخامس عشر من أيار في العام 1948، أخذ الصراع أشكالاً وأبعاداً مختلفة مع الكيان الصهيوني الغاصب، ولعلّ من بين الأسلحة المستخدمة في هذا الصراع الذي يديره الفلسطينيون، سلاح لطالما كان ولا زال قادة الكيان «الإسرائيلي» يخشونه وقد يسلكون كلّ الدروب والطرق من أجل محاصرته، ومن ثم القضاء عليه، وهو سلاح الديمغرافيا التي يحسب لها العدو ألف حساب. ولقد التقى عند مخاطر هذا السلاح الإستراتيجي كلّ غلاة الكيان من ساسة وقادة وزعماء ومفكرين وكتاب وإعلاميين وصحافيين ومتديّنين… فأجمعوا على ضرورة العمل سريعاً لكي يكون الكيان دولة يهودية خالصة لا تنغّصها أية أقليات قومية والمقصود هم الفلسطينيون على أرض فلسطين التاريخية.
منذ أن وقع الاختيار على فلسطين لكي يقام عليها ما يسمّى «وطناً قومياً لليهود» حسب توصيف وعد بلفور العام 1917. حدّد تيودور هرتزل بجلاء في المؤتمر الصهيوني الأول العام 1897 هدف حركته وهو أن تنشئ كيانها على حساب الحقوق الثابتة والتاريخية للشعب الفلسطيني، فحدّد وبكلمات قليلة وبمدلولات كبيرة وخطيرة فكرة «أرض بلا شعب، لشعب بدون أرض»، فقد روّج لهذه الفكرة في المحافل اليهودية ومن ثم الأوروبية، وهو من أجل ذلك عرض على السلطان عبد الحميد صفقة مالية بقوله فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يمكننا أن ننساه، لو يمنحنا السلطان فلسطين فإننا نأخذ على أنفسنا إدارة مالية تركية مقابل ذلك . وهرتزل يدرك جيداً أنّ وطناً لليهود لا يمكن أن يتحقق من دون التخلص من الفلسطينيين وطردهم بل واقتلاعهم نهائياً من أرضهم، ففكرة الترحيل كانت على الدوام حاضرة في البرامج والخطط التي تعمل بموجبها كلّ الحكومات في الكيان وأستطيع الادّعاء والتأكيد أنّ ترحيل الفلسطينيين يمثل نقطة الإلتقاء بين كلّ مكونات هذا الكيان الهجين، لأنّ هذه المكونات تدرك وتستشعر الخطر القادم ولو بعد سنوات ألا وهو العامل الديمغرافي الذي يتهدّد مستقبل بقائه ويطرح تحدّياً جدّياً أمام الصهاينة، فقد احتلّ هذا الخطر الديمغرافي الفلسطيني مكانة بارزة في الخطاب الصهيوني منذ نشأة الحركة الصهيونية كما أسلفت فمقولة «الوطن بلا شعب لشعب بلا وطن» تجسيد واقعي لخطط الحركة الصهيونية لهذا الخطر.
لذلك عملت تلك الحركة على الدعوة من أجل تكاتف اليهود في العمل من أجل الخلاص، والخلاص بمفهومهم يتمّ في «أرض الآباء والأجداد ألاّ وهي أرض إسرائيل خالية وخاوية من البشر وتنتظر اليهود ليعيدوا لها الحياة بواسطة الاستيطان».
وقد كتب حاييم وايزمن ما يعزز فكرة هرتزل قائلاً: «هناك بلد صدف أنّ أسمه فلسطين، بلد بلا شعب، ومن ناحية أخرى يوجد هناك الشعب اليهودي وهو بلا أرض، فأيّ شيء يبدو أكثر ضرورة من إيجاد الجوهرة المناسبة للخاتم المناسب لتوحيد هذا الشعب مع ذلك الوطن .
وقد منح ديفيد بن غوريون فكرة الترحيل دفعة أعمق حين قال «إنّ الترانسفير الإجباري للعرب من الدولة اليهودية المقترحة يمكن له أن يمنحنا شيئاً لم نحصل عليه من قبل، منطقة حرة من العرب»، وأضاف: «علينا أن نطرد العرب ونأخذ أماكنهم، وإن كان علينا استخدام العنف لضمان حقنا فيجب أن نلجأ لتكون لنا قوة».
لذلك حدّد قادة الحركة الصهيونية أنّ صراعهم مع الفلسطينيين هو صراع على الأرض والسكان، وكان ولا يزال هدف الكيان الصهيوني الإستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين واستعمارها بأكبر عدد ممكن من المستوطنين اليهود القادمين من موجات المهاجرين. ولم تتمكن الحركة الصهيونية من إعلان الدولة إلاّ بعد أن اكتمل العدد الذي يؤهّلهم لذلك، ومن هنا بدأ الصراع يظهر على الأرض، وأخذ شكل الصراع الجغرافي الديمغرافي في محاولة ليثبت الصهاينة ما ادّعوه بأنّ فلسطين «أرض بلا شعب، لشعب بلا وطن».
كثيرة هي الدراسات والكتابات والأفكار التي ساقها هؤلاء الصهاينة من أجل خدمة فكرة «الدولة اليهودية النقية العرق»، ولأجل ذلك شُكلت العديد من اللجان في العام 1948 لبحث قضية الترحيل والأكثر نشاطاً في هذا المجال يوسف فايتس مدير دائرة الاستيطان في «الصندوق القومي اليهودي» ورئيس لجنة الترانسفير حين قال: «يجب أن يكون واضحاً لنا أنه لا مكان في هذه البلاد لشعبين معاً». وعشية صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني من العام 1947، كانت خطة دالت لطرد الفلسطينيين وترحليهم قد استكملت وملخصها «الإسراع في طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين»، وشكلت مجمل الرؤية التوسعية للصهيونية من حيث شموليتها في تصفية الوجود الفلسطيني، وهدفت إلى «تنفيذ تطهير عرقي وترحليهم»، وكانت هذه الخطة السبب المركزي في تحويل الفلسطينيين إلى لاجئين وسقوط قراهم ومدنهم بيد الصهاينة في العام 1948.
لقد لجأ الصهاينة إلى عمليات الطرد والترحيل على مرحلتين مفصليتين في العام 1948 والعام 1967 وبنتيجته أصبح خارج حدود الوطن ما يزيد على 750 ألف فلسطيني بالإضافة إلى ما يقارب 250 ألفا فقدوا أملاكهم بحكم قانون جائر اسمه «قانون الحاضر الغائب» للملاك الغائبين، والذي ينصّ على أنّ كلّ لم يتواجد بتاريخ معيّن ضمن حدود دولة «إسرائيل» يفقد أملاكه. إلاّ أنّ ذلك لم يحلّ المشكل والمأزق التاريخي للحركة الصهيونية، فالفلسطينيون يتزايد عددهم ليصبح 1.796.000 أواخر العام 2016، ليمثلوا اليوم 20.8 داخل الكيان بحسب مركز الإحصاء «الإسرائيلي». ومقدّر أن يصل عددهم في العام 2028 إلى 2.600.000 نسمة بناء على معدل نمو وسطي 3 سنوياً. وفي المقابل فقد بلغ عدد اليهود في الكيان 8.630.000 نسمة من نفس العام 2016. وأنّ كلّ 47 عاماً وبناء على تقديرات أجريت في العام 2008 سيصل عدد اليهود في الكيان إلى 5,5 ملايين ومعدل النمو دون الهجرة 1,5 ، أيّ أنّ مجموع اليهود سيصل في العام 2055 إلى 11 مليون، هذا إذا تبيّن لنا أنّ أعداد المهاجرين اليهود في تراجع لأسباب شتى يمثل الجذب الاقتصادي والاجتماعي في العديد من دول العالم وفي مقدّمتها الولايات المتحدة 5,6 ملايين يهودي ، وفرنسا 600 ألف يهودي . وقد خرج رئيس هيئة الأمن القومي الجنرال غيورا بلاند ليعلن أنّ اليهود سيفقدون الأغلبية، وهذا ما ذهب إليه الكاتب شلومو أفنيري ليحذر من أنّ الخطر الديمغرافي والذي قد يؤدّي في المستقبل إلى المطالبة إذا أصبحوا أكثرية بتغيير اسم الدولة من «إسرائيل» إلى فلسطين.