عبد الحافظ شمص… سهل وممتنع
د. طوني كرم مطر
إن عبد الحافظ شمص شاعر ذو أجنحة غير متكسرة، يطير بوساطتها إلى السماء السابعة، يجول ويصول في السماوات السبع ليعود إلينا بقصيدة هي هدية السماوات إلى الأرضيين. كيف لا، والشاعر شريك الله في الخلق والإبداع.
الشاعر شمص أبعاده الثقافية بعيدة المدى، متعدّدة الاتجاهات لأنه مثقفٌ كبير، ويبحث دائماً عن المعرفة بأمهات الكتب والمراجع والمصادر. كل قصيدة من قصائده كلوحةٍ زيتية تفنّن في رسمها بالكلمات العذبة في قالب موسيقيّ متناغم، وفق الأوزان الخليلية التقليدية. ولكن جديده هو في الموضوعات المطروحة، والعبارات المستخدمة لإيصال الفكرة حيث لا نجد عبارة ثقيلة على السمع ولا كلمة نابية أو مبتذلة، أو ركيكة.
قصائدهُ مزيجٌ من معانٍ ذات مقاصد نبيلة ضمخَّها صوراً صوتية وإيقاعات، وإيحاءات تجذب القارئ ليستولد إيحاءات، ويمضي العقل مع قصائده ليسبح في فضاء الوحي، الوحي وهو للأنبياء وللرسل وللشعراء المميزين الذين حباهم الله هذه الخاصية وهذه المقدرة الخارقة.
يقول في مطلع قصيدة «العيد في لبنان»:
العيد أقبل والبلاد بأسرها
تحيا بظلّ القهر والأوزار
فالفقر في كلّ البيوت، يذلّها
ويزيد في الإفقار والإضرار
الليل أخذم والنهار قد انطوى
والشعب ينتظر الضحى بقرار
فإذا القرار ضريبة ومصيبة
تفري ظهور الناس بالأسعار!
تتّسم هذه القصيدة بالطابعين الاجتماعي والسياسي، إذ لا يمكن أن نفصل بينهما، وهنا يتأكد لي التزام الشاعر شمص بقضايا الوطن وقضايا الناس، والشاعر هو الذي يشعر بشعور الناس، كل الناس، فليس بالضرورة أن يكون فقيراً كي يشعر بفقرهم الفقر في كل البيوت ـ القرار ضريبة ومصيبة ـ عثرة الأيام والأدهار ـ الأشرار والفجّار ـ قسّموا البلاد ـ حطّموا أسوارها ـ ظلموا البلاد ـ سيّبوا أموالها ـ توارثوا عقليّة السمسار ـ الطائفية مسرب الإعصار ـ انفصمت عرى الأخيار ـ يسيء للدنيا وللأحرار ـ تفري ظهور الناس بالأسعار . هذه الجمل الموجودة داخل القصيدة هي التي تشكّل الحقل المعجميّ لما هو الوضع عليه. فهذا الشعب لا تستقيم أوضاعه إلا إذا ثارت الأقلام على الظلم والحكّام الفاسدين كما ثار شاعرنا في قصيدته.
أما الحقل المعجمي المتمثل بالدعوة إلى المحبة والأمل في إصلاح الأمور في لبنان فنجدهُ في العبارات التالية، حتى الأمل جاء عنده ببيت شعري بصيغة السؤال متى، والجواب عند الله «ومتى يكون العيد فرحة مؤمن ومتى يحين أوان قطف الثمار؟».
ويدعوهم الكفار إلى التوبة: «ثوبوا وتوبوا توبة استغفار».
والأمل تجسّد في هذه الأبيات الشعرية:
ويعود للوطن المفدّى وجهه
ويغيب عنّا وجه كلّ دمار
وستحفظ الأجيال حصن نقائها
بكرامةٍ وحضارة ووقار
لبنان يُبنى بالمحبة والنهى
بالعلم يُحكم موطن الأقمار
يبقى ويرقى بارتقاء بنيّه
لا بالضغينة، خلّة الأشرار
لن ينهض الإنسان في لبناننا
بالطائفية، مسرب الإعصار.
اتّسمت هذه القصيدة بنبرة حماسية وبتوتر انفعالي إذ إن كلماته تنفجر من صدره لتتحول إلى براكين نار في وجه الحكام الظالمين والتجار الجشعين وأهل التسلط والفساد والغرور.
وبالطبع، فإن الشاعر شمص لا يعيش في غربة عن الناس، إنه شاعر يعايش الناس في معاناتهم اليومية وفي فقرهم ووجعهم ومرضهم ومآسيهم، لقد بدأ حياته الصحافية منذ أن كان ابن 17 سنة. وما زال الحسُّ الصحافيّ مجبولاً بدمه وبخاطره، بعقله ووجدانه، وهذا ما يتجلى بوضوح في معظم قصائده الوطنية والغزلية والأدبية والنقدية قصائد تعبر عن هموم الإنسان في لبنان.
الشاعر شمص هو من الناس ولهم، لم يتركهم في أحلك الظروف، فهو للمظلوم ناظر، وللفقير معين وللمحزون مواسٍ وللمريض زائر وللجائع مُطعم.
شخصيته شخصية الشاعر المثقّف الذي يرى في نفسه صاحب رسالة، لهذا جعل من قصائده جسراً لعبور الأجيال من التخلف والحرمان إلى التقدم والحرية من الكبت والخوف إلى المجاهرة بحقيقة الأمور.
لقد وعى الشاعر شمص دوره كمصلحٍ اجتماعي، وكإنسانٍ شفافٍ واضحٍ صريحٍ وصادق، وعى أنه في مجتمع مقهورٍ مظلومٍ مغلوبٍ على أمره.
هذا الالتزام بقضايا الناس صاغها أشعاراً رقيقة ناعمة حساسة بسيطة منسابة، فأبدع من دون تصنع، وتأنّق وزخرف من دون تكلّف ونحت كلماته من صخرٍ، صخره همسات، وحروفه أنغام، تفعيلاته الرقراقة تتميز بطراوة وسلاسة، وما أعطي له من قوة السبك وقوة الجرس الموسيقي ومتانة اللغة لم يُعطَ لغيره، وهو الذي احترف التأليف والتلحين، كأنّي به يحوّل الصخر الأصمّ إلى غمامة تسبح في الفضاء، وهذه الغمامة ككون مرّة مخبأ للعاشقين في قصائده الغزلية ومصدراً للمطر الذي هو علامة خير على الناس العطاش.
أسلوب الشاعر شمص سهل ممتنع، والوقوع في باب دراسته فخ لذيذٌ ممتع، إذ يظنّ القارئ للوهلة الأولى أنه باستطاعته أن يغرّد معه في تلاحينه، ويظنّ أنه يستطيع أن يأتي بأبيات شعرية مشابهة لكن من يحاول يصاب بالعجز، لأن شعر شمص هو سهلٌ بسيط لكنه ممتنع على غير مطلقه.
الشاعر الدكتور عبد الحافظ شمص من أشهر أعلام بلاد الأرز وأحد مؤلفي أجمل القصائد المغنّاة.
لقد لجأ الشاعر شمص في معظم قصائده إلى أسلوب المخاطبة المباشرة فليفهمْ ـ عودوا ـ يكفي ـ لا تخطئوا ـ لا تتوهّموا منطلقاً إلى الغد بعين التفاؤل والفرح، حيث يقول:
ويعود للوطن المفدّى وجهه
ويغيب عنّا وجه كلّ دمار.
فالجمل الإنشائية الصارخة في قصيدته بصدق الموقف عرفت كيف توصل رسالة الكاتب وصرخته المدوية، ومعظم الجمل الإنشائية أتت بصيغة الاستفهام:
من ذا يهوّن أمرها ويقيلها؟
ومتى يكون العيد فرحة مؤمن؟
ومتى يحين أوانُ قطف ثمار؟
هل تسكتُ الأقلام عن أفعالهم؟
هل تقبل الأعذار من مكّار؟
كل هذه التساؤلات ساقها الشاعر بعفوية وإنسانية داعياً إلى المساواة والعدالة، محرّضاً الناس إلى الوقوف في وجه أهل الاستقلال والفساد والجشع والاحتكار، وقد استخدم لذلك مقارنات وحججاً وبراهين عقلية، وهذا ما أكّده في ختام قصيدته «العيد في لبنان» بقوله:
لن ينهض الإنسان في لبناننا
بالطائفية مسرب الإعصار.
«ستّون عاماً من الشعر»، الكتاب الأخير للشاعر عبد الحافظ شمص الصادر عن «اتّحاد الكتّاب اللبنانيين».
شاعر وناقد أدبيّ