الموقف الاستراتيجي الجديد: التراث الاستعماري مجدّداً ومستقبل العرب خلفهم
د. لبيب قمحاوي
ابتدأت اهتمامات العرب تتحوّل في اتجاهات لم تكن مُتداَولة على الإطلاق، بل وكانت تعْتبَرْ من الظواهر السلبية والمحظورات والمحرّمات التي لا يريدها أحد ولا يوافق عليها أحد. فعودة الاستعمار والأحلاف العسكرية والقواعد العسكرية الأجنبية أصبحت مطالب علنية للعديد من الأنظمة العربية والإسلامية، وأصبح رضا الأجنبي وموافقته على تلك المطالب غاية تلك الأنظمة ومنتهى ما تسعى إليه.
جاءت زيارة دونالد ترمب الأخيرة للمنطقة كتتويج لمرحلة جديدة من التبعية العربية وتكريساً لسلام غامض لا يريده أحد وإنْ كان الجميع يرغب به. لقد أصبحت عودة الاستعمار تحت أيّ غطاء وأيّ مسَمّى مَطلباً عربياً يفوق في أهميته حقيقة الصراع مع «إسرائيل» ومستلزمات ذلك الصراع. وانتقلت «إسرائيل» من كونها العدو الرئيسي والخطر الآني والمستقبلي على الأمة العربية لتصبح الحليف المنشود والصديق الموثوق من قبَلْ العديد من الأنظمة العربية ناهيك عن الإسلامية. وأصبحت معاداة «إسرائيل» أمراً مرفوضاً وعذراً تستعمله بعض الأنظمة العربية لتصنيف من يعادي «إسرائيل» باعتبارهم إما دولاً مارقة أو منظمات إرهابية معاداتها واجب، وقتالها بالتعاون مع أميركا والغرب فرضاً يفوق في أهميته أيّ أمر آخر. والإطار المطروح الآن لفعل ذلك هو التعاون العسكري من خلال العودة إلى مفهوم الأحلاف العسكرية برعاية الولايات الأميركية المتحدة وهي الدولة الأقوى في العالم والتي ستهيمن بالضرورة على مقدرات تلك الأحلاف. واذا كان العرب يتوَقون، كما صرّح بعض المسؤولين العرب، إلى أن يكون ذلك الحلف شبيهاً بحلف الناتو الذي تهيمن أميركا من خلاله على حلفائها الأوروبيين، فماذا يتوقع العرب أن يكون دورهم في ذلك الحلف سوى التمويل وتقديم الضحايا والانصياع لما هو مطلوب منهم. وفي واقع الأمر، فإنّ هذا الحلف قد يضمّ بالنتيجة «إسرائيل» باعتبارها أصبحت حليفاً لمعظم الأنظمة العربية في حربها المزعومة على الإرهاب. وهكذا فإنّ العالم العربي قد يصبح بالنتيجة في حلف عسكري مع «إسرائيل» يتقاسم معها الأسرار العسكرية والمهمات العسكرية والتسليح.
ماذا يريد العرب من الأحلاف العسكرية وماذا تريد أميركا والغرب؟ من نافلة القول إنّ خطط ومصالح أميركا في العالمين العربي والإسلامي تتعارض بشكل أساسي مع دول وشعوب تلك المناطق. وهذا التعارض في المصالح قد لا ينطبق على الأنظمة الحاكمة كون أولويات تلك الأنظمة تنحصر في البقاء في الحكم حتى لو كان ذلك على حساب استقلال ومصالح الدول التي يحكمون.
إنّ حلف الناتو هو نتاج هزيمة أوروبا لنفسها في الحرب العالمية الثانية وانتصار الولايات المتحدة الأميركية التي ورثت دول أوروبا الاستعمارية. حلف الناتو يعكس هيمنة أميركا العسكرية على أوروبا وما زال. والعرب والمسلمون يتنادون الآن للمطالبة بإنشاء حلف عسكري يربط الدول العربية والإسلامية بأميركا، على غرار حلف الناتو، والذي سيكون تتويجاً لهزيمة العرب والمسلمين لأنفسهم واستسلام أنظمتهم الطوعي لأميركا.
ولكن لماذا ترغب دولة مثل أميركا بالدخول في تحالف عسكري على غرار حلف الناتو مع دول عربية واسلامية؟
في الحقيقة أنّ مصلحة أميركا تتطلب إنشاء مثل ذلك الحلف، في حين أنّ المصلحة العربية والإسلامية لا تتطلب ذلك بل تتنافي وأهداف ذلك الحلف، حيث أنّ الحلف المقترح يهدف من وجهة النظر الأميركية إلى ما يلي:
أولاً: إخضاع القوى والجيوش العسكرية والأمنية للدول الأعضاء في الحلف للقيادة الأميركية المباشرة وعلناً.
ثانياً: إلزام الدول الأعضاء في الحلف بالأهداف والخطط العسكرية للحلف وأولويات ومسبّبات الصراع والحرب كما تراها أميركا.
ثالثاً: بناء القواعد العسكرية الأميركية أينما أرادت أميركا على أراضي الدول الأعضاء في الحلف.
رابعاً: التطبيع العسكري مع «إسرائيل» إما من خلال إدخال «إسرائيل» في عضوية الحلف مباشرة أو من خلال اتفاقات التعاون العسكري الأميركية الإسرائيلية. وهذا يعني أنّ الدفاع عن أمن «إسرائيل» سوف يصبح من مسؤوليات ذلك الحلف سواء مباشرة أو بطريق غير مباشر.
خامساً: فتح أجواء وأراضي كافة الدول الأعضاء، العربية والإسلامية، للنشاطات العسكرية الأميركية ومن خلالها الإسرائيلية وعلناً.
سادساً: استعمال الجيوش والقوات العربية كحطب في أيّ مواجهات عسكرية عوضاً عن إرسال جنود أميركيين وتعريض حياتهم للخطر.
سابعاً: استعمال مال النفط العربي لتمويل ذلك الحلف ومشترياته من السلاح والتي ستكون بالطبع أميركية الصنع.
ثامناً: استعمال هذا الحلف للدفاع عن مصالح أميركا، ومنها «إسرائيل»، أولاً وبشكل أساسي.
تاسعاً: بلورة الهرم العسكري للحلف وعلى رأسه أميركا وتحويله إلى مؤسسة عسكرية. وهكذا تتمّ التضحية بالسيادة العسكرية للدول العربية على جيوشها وتصبح تلك الجيوش بإمرة قيادة الحلف الأميركية، علماً أنّ العقيدة العسكرية الأميركية لا تسمح لأيّ جندي أو ضابط أميركي بتلقي أيّ أوامر إلا من ضابط أميركي أو من قيادة عسكرية أميركية، وهذا لا ينطبق على باقي القوات التابعة للحلف كما هو عليه الحال في حلف الناتو.
عاشراً: الحلف العسكري سوف تكون له تبعات سياسية إذ أنه من المعروف أنّ من يملك القوة العسكرية يملك قوة القرار السياسي. والخطورة هنا أنّ «إسرائيل»، سواء ذكر ذلك أم لا، سوف تكون موجودة في عباءة الحلف وثناياه.
وأخيراً، فإنّ هذا الحلف يهدف إلى أمرين أساسين:
1 ـ مأسسة وعلنية التبعية العربية والاسلامية لأميركا.
2 ـ التطبيع الشامل الكامل العلني، بما في ذلك التطبيع العسكري والأمني، مع «إسرائيل»، وجعل مسؤولية أمن «إسرائيل» مسؤولية عربية وإسلامية.
هذه هي الحقيقة مهما كانت مرارتها.
هل يمكن أن يصبح الحال أكثر بؤساً من ذلك؟ والإجابة نعم. فهذا المسار سوف يؤدّي حتماً إلى دمار العالم العربي واندثار دُوَله الواحدة تلو الأخرى. وما قد يتبقى منها سوف يدور في فلَكْ قوى الاستعمار و»إسرائيل» ككيان تابع وليس كدولة مستقلة ذات سيادة حقيقية. إنّ المسار الوحيد المفتوح الآن أمام دول العالم العربي بوضعها الحالي يتمثل إما بالانصياع الكامل أو الدمار الشامل كما حصل للعراق وسورية وكلا الخيارين مرّ.
lkamhawi cessco.com.jo
مفكر ومحلل سياسي