إضاءة
د. يوسف حطّيني
تنتمي الحكايات التي يقدّمها عمّار الجنيدي في مجموعته «أنزفُني مرة أخرى» إلى المجتمع اللصيق به، وتقترب شخصياتها من محيطه السياسي الاجتماعي الإنساني بمعنى أنّ أبطال حكايات قصصه ينتمون إلى واقع غير بعيد. حتى إنهم حين يحملون أبعاداً رمزية سرعان ما تعود بهم دلالات الترميز إلى الواقع ذاته.
يحملك عمّار الجنيدي عبر حكاياته إلى بيئة سياسية تنزف رعباً، بيئة عاش فيها البطل، ويراهن الكاتب على أن كثيراً من القراء عاشوا فيها، على نحو ما نجد في قصة «حالة قهر معلن» حيث يفضح المخبّر الذي يمارس النفاق الديني، ويعرّي نموذج شخصية بات معروفاً في كثير من البيئات العربية:
«صلّى في الصفّ الأول خلف الإمام مباشرة.
استعجل في الرجوع إلى بيته. خلع معطفه ولحيته المستعارة.
جلس خلف الطاولة، وراح يكتب أسماء المصلّين». ص 12.
ويقترب الجنيدي من المجتمع الذي تحكمه العلاقات الموروثة، وتملؤه رائحة الفساد، على نحو ما نجد في قصة «تحت جسر الداخلية»، حيث يطرد الشاب من البيت «حتى نسوان الإخوة توخد راحتها بالبيت»، ص 76، وقصة «الفاشل» ص 44، التي يعجز فيها الطبيب الكسول عن معالجة مريضه فيقول بحكمة الخبراء: «عجز الطبّ». وقصة «المهمة» التي تتحدث عن الإهمال في المستشفيات، وهي قصة تحتمل التكثيف وتقوم على المبالغة في الإهمال، حيث يقوم الطبيب بفحص فم المريض الذي لدغته عقرب في يده، وينصحه بالابتعاد عن التدخين، ثم يعود إلى مغازلة الممرضة، ويسمّي الكاتب المشفى بِاسم مشفى «الإيمان» ليقيم تناقضاً حادّاً بين الشعار والممارسة، ص 42.
وتحيل قصص كثيرة من المجموعة على القيم الإنسانية المهدورة التي ينبه عليها القاص، ويسلط نقده الذي يميز جميع حكاياته نحوها، ففي قصة «موت مواطن بسيط» لا يحضر جنازة هذا المواطن إلا نفر قليل، وهؤلاء ينفضّون بسرعة لمتابعة المجلة الرياضية، وفي قصة «التريكس» ينبه عمّار على أهمية الوقت الذي لا يقدّر الناس قيمته، عبر مبالغات تتفنن في استثمار إضاعته بلا طائل.
وعلى رغم أن المجموعة القصصية تجيب على سؤال المعنى بكفاءة معقولة، من خلال أسلوبها الواقعي الانتقادي في تتبع عثرات المجتمع فإنّ سؤال المبنى يبدو أكثر أهمية، استناداً إلى أننا نتعامل مع هذه النصوص على أنّها «قصص قصيرة جداً» وفقاً للعقد السردي المتفق عليه بين المؤلف والمتلقي، بحسب ما يشير غلاف المجموعة.
يمكننا أن نقول بشكل عام إن أبرز سمة من سمات هذه القصص القصيرة جداً فقدان التكثيف الذي يعدّ ركناً أساسياً من أركان القصة القصيرة جداً، ويأتي ذلك نتيجة التفاصيل غير الضرورية، والتراكيب التي تؤدي وظيفة واحدة، ومن خلال تكرار الوحدات السردية ذات الدلالات المتشابهة.
ففي قصة «حدث في شارع السينما» يكاد القاص أن يخرج إلى القصة القصيرة، على رغم أن سهمية الفكرة في الحكاية مؤهلة لبناء قصة قصيرة جداً، لولا أنّ الكاتب أغرق القصة بتفاصيل لا يحتملها هذا الفن. وفي قصة قصيدة أخرى من أجلها تبدأ الحكاية بسردها سطرين يخبران عن أن البطل يكتب قصيدة لحبيبته، ثم تأتي أسطر تستهلك أكثر من نصف القصة، من دون أن يتحرك السرد:
«طوال سنوات الجامعة وهو يلاحقها. يكتب لها يومياً. وفي أحايين كثيرة بمعدّل قصيدتين أو ثلاثة.
احترف الشعر لأجلها فجادت قريحته بعشرات القصائد، وهو يتغزل بها ويصف عنادها وأنوثتها الطاغية.
غيّر تخصصه كي يظلّ قربها.
لم ينجح في كثير من المواد، فقط لأنها لم تنجح هي فيها. رغم تفوقه وعزمه على النجاح»، ص 60ـ 61.
ولا شك في أنّ لمثل هذه التفاصيل دوراً وظيفياً ودلالياً، غير أن خصوصية القصة القصيرة جداً تفترض تحقيق الدلالة من غير إيراد تفاصيل مشابهة. ولا ينجح التكثيف أبداً في قصة «جشع» فهي تمتد على أربع مقاطع، وتتحدث عن الزوج الذي خسر في سوق البورصة، وينتظر تعويض خسارته من مصاغ زوجته ليكتشف في النهاية أن «الذهبات راحوا»، ص 66ـ69. وكذلك قصة «براءة ذمّة» ص 72ـ74 التي تحكي قصةِ القصةِ التي كتبها خليل ومثل هذا الأمر القصة داخل القصة لا يحتمله هذا الفن. ويتكرر فقدان الأمر في قصة «حرّية» حيث يحرم القاص قصته من فرصة التكثيف بسبب إصراره على تكرار خمس تراكيب سردية تؤدي الدلالة نفسها. تقول القصة:
«قيل للشاعر العربي: خذ أطنان الورق هذه، واكتب عليها ما تشاء بكل حرّية.
ارتبك، فوجئ، استغرب الأمر، حيرته المفاجأة، لم يصدّق، أخذ الأوراق، وعبّأها كلها بالدموع»، ص 14.
وفي قصة «الانتظار» التي لا تقول شيئاً، وتكاد تخرج من القصة القصيرة جداً إلى الحالة السردية، ص 20، يفقد الكاتب التكثيف في نصّ يحتوي على سرد، ولكن هذا السرد لا ينمو بشكل متصاعد ليكوّن قصة نموذجية.
ويمكن أن نجد أمثلة أخرى للسرد الذي لا يتنامى بما يشكل قصة نموذجية، في نص يحمل عنوان «الأسماء» ص 50ـ52 ، وفي نصّ يحمل عنوان «شجاعة» ويحكي حالة توصيفية لرجل عجوز على عكاز، ترفض المرأة التي يصادفها ساخرة أن يتزوجها، فيسأل عن أقرب مبغى. ص 54.
من المعروف أن النقد حسم مسألة المفارقة في القصة القصيرة جداً، وانتهى إلى أنها ركن من الأركان التي لا غنى عنها فيها، وهي تعني لجوء القاصّ في نهاية القصّة القصيرة جداً إلى إبراز تناقض ما بين المنظومات الموضوعيّة، أو البنى الفنيّة التي تشكّل النصّ، سعياً إلى تعميق الإحساس بالظاهرة التي يتبنّاها. وللحق فإن معظم قصص الجنيدي قد اعتمدت على هذه المفارقة، غير أن مدى التوفيق الذي أصابه فيها يتفاوت بين قصة وأخرى، فثمة مفارقات ناجحة، على نحو ما نجد في قصة «السجين» التي استطاع الكاتب من خلالها أن يعمّق إحساس المتلقي بالظلم الذي تعرض له سجين يخرج من سجنه بعد أربع سنوات، فيستقبله الأهل والأحبة والجيران بالزغاريد، حيث تأتي النهاية التي تتضمن المفارقة عل النحو التالي: «اعتقلوه بتهمة التحريض، وتنظيم تظاهرة، وساقوه إلى السجن مكبّلاً بالحديد والإحباط»، ص 22.
وفي قصة «الجرذون» يُنهي القاص سرده بمفارقة ناجحة، ولكنها مألوفة إذ تحكي عن مدير يطلب من موظفيه أن يسحقوا «الجرذون» الذي سمعهم يتحدثون عنه، فيخلعون أحذيتهم بحماسة، ويهجمون عليه، ص 16.
غير أن النجاح يجانب القاصّ، ويجانب أي قاصّ، حين تصل المفارقة إلى درك النكتة التي لا تستهدف إلا الإضحاك، على نحو ما نجد في قصة «أسماء» إذ يلجأ نادر، حين يخفق بتحقيق حلمه بالزواج من لميس إلى البحث عن فتاة أخرى اسمها لميس وحين يفقد الأمل يقرر الزواج بمنال، بعد أن أقنعها بتغيير اسمها إلى لميس، وتأتي النهاية على النحو التالي: «وفي المحكمة انتحت به جانباً، وأقنعته أن يغيّر اسمه إلى إياد»، ص 30.
في تقنيات القصّ يعتمد القاص على لغة إخبارية تميل بشكل عام نحو الفعلية، وهذا ما يساعد على تطوير الحكاية بعيداً عن الوصف الذي يعوّق سير الحكاية، ويلجأ إلى الإفادة من الأحلام/الكوابيس في قصة تتألف من متتاليتين قصصيتين، تقومان على التقابل والتضادّ: الأولى ناجحة والثانية تحتمل التكثيف، ولا يستطيع أي من الجزئين أن يقول مقولته إلا بالتضافر مع الآخر، فالأم تحتضن ابنها وهي تتعوذ من شرّ الكوابيس، بينما يقول الأب: «ألن تنام وتريحنا؟ لقد أقرفتنا بهذه الكوابيس اللعينة»، ص 26.
وفي قصة «الجلاد» يبني القاصّ مفارقته على نوع من تبادل الوظائف فهي تحكي عن المختار الذي يجلد أهل القرية جميعاً بشماتة وفرح، بعدما أمر القاضي بجلد الجميع، وحين يأتي دوره في الجلد يتسابق الجميع للحصول على السوط، فيطلب الرحمة من الجلاد، ص 18.
كما لا تخلو قصص المجموعة القصصية من الترميز الذي لا تبتعد محمولاته كثيراً عن الواقع، على نحو ما نجد في قصة «المنقذون» ص 64 حيث ترحب الأغنام بالذئاب لتتخلص من ظلم الراعي، مستجيرة من الرمضاء بالنار، ومن مثل قصة «النورس» الذي أصيب بطلقة صياد. وبينما كان الناس ينقسمون بين راجٍ لسقوطه، وراجٍ لنجاته «كان النورس يتسامى على جراحه، ويحلّق عالياً عالياً فوق السحاب»، ص 24، وهذا ما يشكّل على صعيد الرمز دعوة إلى صمود المضطهدين.
وعلى صعيد استخدام الضمائر ثمة محاولتان جريئتان قام بهما الكاتب تمثّلت الأولى في تقديم السرد من خلال ضمير املخاطب في قصة «نصيحة»، ولكن النهاية متوقعة جداً. ولا تصنع مفارقة، وهي أشبه بوصف حالة. أما المحاولة الأخرى فقد جاءت في قصة «على المقصلة» حيث تم استثمار ضمير المتكلم لرجل يسرد حالته قبل نزول المقصلة على عنقه في لحظة فارقة، ص 48.
باختصار: إن مجموعة «أنزفُني مرّة أخرى» لعمار الجنيدي تنسج موضوعاتها من صميم المجتمع، وتجابه عيوبه بلا هوادة، في حكاياتٍ تحتمل كثيراً من الاختزال، ومفارقاتٍ تنجح جزئياً في تعميق دلالات القصّ، ولغةٍ تجنح نحو الفعلية، وتبشّر بإمكانية الإفادة منها في تقديم قصص أكثر تكثيفاً في المستقبل.
كاتب فلسطينيّ