قراءة في قصيدة «اُعذريني» للشاعر مخايل نصور

د. طوني كرم مطر

يرى بعض البنيويين أنّ المستوى الموسيقي من أبرز مستويات البناء الشعري. وبحسب النقد الألسني، فإن المستوى الموسيقي ـ الإيقاعي يشترك في تكوين بنية النصّ الدلالية حيث يرتبط الدالّ بالمدلول ارتباطاً وثيقاً لا فكاك فيه.

ولأنّ الخلق سمة من سمات الله، والعقل نتاج محبة الله لنا وبالعقل نختبر الأشياء كلّها، فكان لا بدَّ أن أدرس كتاباً شعرياً للشاعر مخايل نصّور بعنوان «من سماء الشرق». وبعد قراءتي كلّ قصائده، وجدتُ أن معظم قصائده هي وطنية، وقصيدة واحدة فقط هي غزلية بعنوان «اعذريني» ص 64 من الديوان، وهذه القصيدة على ما يبدو قد طلبتها هذه الفتاة الجميلة. وبين بوحٍ واعتذار أبصرت هذه القصيدة النور، وقد اتخذتها نموذجاً، لأن كلَّ شيء زائل في هذه الدنيا إلا المحبّة، فالمحبة هي الباقية، وقصيدة «اعذريني» قد خلدَّت الشاعر مخايل نصّور لأنها غير مرتبطةٍ بزمان ومكان، فهي قصّة تحدث في الأمس واليوم والغد.

قصيدة «اعذريني» وجدت فيها سطوعاً وبريقاً، تتراقص حروفها تعبيراً عن اشتعالها من دون اشتعال، والتهاب من دون نار وحرارة دائمة. يعتمد الشاعر مخايل نصّور في بناء قصيدته على الترداد والتكرار، كما يعتمد على البناء المتوازن الذي يظهر وكأنه انسياب نهرٍ وإيقاعات عصافير، يقول:

اعذريني إذا اعتراني الذهول!

عند هذا الجمال… ماذا أقول؟

ما عساني أقول، يا أجمل الأجمل

يا فرحتي التي لا تزول؟

أنتِ أرقى قصيدةٍ صاغها الله!

فهل لي إلى رضاكِ سبيل؟

بسمةٌ منكِ تمطر الحبّ والشعر

وما ليس تدّعيه الفصول!

وكفى الشعر أن تكوني ويَفري

بمزيدٍ من الوصول، الوصول!

تكرار جميل جدّاً ولهُ مدلولاته وهو الذي دفع بحركة الموسيقى الشعرية إلى التصاعد. يبدأ القصيدة بفعل اعذريني، فلماذا يا ترى يطلب الشاعر الاعتذار مع الجميلة؟ لفارق سنٍّ بينهما أم لأسباب أخرى؟ وبين الاعتذار والإصرار كانت هذه القصيدة الرائعة التي يتلو الشاعر في مطلعها فعل الاعتذار، ولكنه سرعان ما يبدأ الغزل مبرّراً صمته الماقبل الطلب. وبحسب النصّ هو ذهوله من الجمال، وما هو مؤكدٌ أنّ الصمت في حرم الجمال جمال. ونلاحظ هنا أنّ المتكلم واحد هو الشاعر، ومن خلال كلامه يصف لنا كيف هي هذه الفتاة التي وبحسب وصفه هي أرقى قصيدة صاغها الله، فكيف يرضيها إذن، وهي وإن كانت قد طلبت أن يكتب فيها غزلاً فقد تبيّن وبحسب القصيدة أنها فوق الوصف وهو في كلام المحبة لها، كأنهُ في محراب صلاة، وأنهُ أيّ الشاعر ليس قتيل الهوى بل إن ضميره هو قتيل يديها، ويديها هما جزء من جمالها الفتّان. يتابع في القصيدة نفسها:

ألق الضوء مرهقٌ

والهنيهات سكارى

وأنتِ… حلمٌ جميلٌ

وأنا في صلاة حبّ

ولو أنّ ضميري، على يديك قتيلُ

لكأنّي أرى على الأرض بعضاً

من سماءٍ يطيب فيها الرحيل

فاعذريني… فليس في زحمةِ الأضواء

والطيب… ليس لي ما أقول!

تطلب المستحيل عيناكِ منّي

وبعينيكِ يولدُ المستحيل!

هذه قصيدة التفعيلة المملؤة بالإيقاع الجميل والتكرار الأجمل بعيداً عن المفهوم القديم للإيقاع، لأن قصيدة التفعيلة تتخذ التفعيلة وحدةً إيقاعيةً، فيتم الاستغناء عن كلّ ما يُكبِلُ القصيدة. والشاعر مخايل نصّور قد اعتمد قافية شبه موحدّة، والرويّ اللام المضمومة: أقولُ ـ تزولُ ـ سبيلُ ـ الفصولُ ـ الوصولُ ـ جميلُ ـ قتيلُ ـ الرحيلُ ـ أقولُ ـ المستحيل.

التكرار المفيد: اعذريني في مطلع القصيدة، فاعذريني في آخر القصيدة بعد أن أشبعها وصفاً وصل إلى حدود تشبيهها أن في عينيها يولد المستحيل. بمزيد من الوصولِ، الوصول. ماذا أقولُ، ماذا عساني أقولُ، ليس لي ما أقولُ. المستحيل، المستحيلُ. يا أجمل الأجملِ ـ حلمٌ جميلُ ـ الجمال.

استطاع الشاعر في هذه القصيدة أن يوظف البنية الإيقاعية لإيصال الفكرة واضحة إلى الجميلة وبالتالي إلى القرّاء. وبالتالي فإن هذه القصيدة مترابطة متسلسلة بشكلٍ منطقي تبدأ بالفعل اعذريني وتنتهي به، وبين الاعتذارين أجمل كلام الوصف لها، إن جمالها تجسيد لمحبّة الله لنا، وقد قدّمهُ لنا الشاعر بجمالية تعبيرية وصورية وبأنغام موسيقية، إنه الفضاء الحرّ، إنه الشعر.

شاعر وناقد ادبي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى