أغراها الهايكو… فاعتلى قلمها متفاخراً
رنا صادق
يكتشف الإنسان أحياناً، في لحظات غير إدراكية، أنه يتمتع بموهبة وحسّ مرهف، يظهران من حينٍ إلى آخر في المواقف، وقد تسوقه الأحداث إلى ذاك الاتجاه، كما حدث مع باسكال صوما.
باسكال صوما اكتشفت هذا الإحساس المتهافت نحو الفنّ والشعر والكتابة حين كانت تراسل إحدى معلّماتها أيام المدرسة، ورافقها الشعر بمراحلها العمرية المتقلّبة، ومن شارع إلى شارع ومن تجربة إلى أخرى. «لبنانها» كما تلقبّه صوما، يؤنّث في روحها خفقان الأسر لحب الشعر والفنون.
سُلخت ابنة رياق عن بلدتها وصادفت وجه بيروت وما فيها، حيث كانت غربتها التامة عن الطفولة والوجوه والأماكن التي لطالما أحبّتها، ومن عادة بيروت أن تفجّر في الناس مواهب لا يدركونها، ومن عادتها أيضاً تغيير أصغر تفصيل فيهم، وتجعل من الشيء لاشيء والعكس، وتغيّر علاماته في نبضه ولمساته، وتغيّر رعشته للحياة. فأثناء السكوت يصبح الكلام الأصح، تربط أنفاس ساكنيها أثناء محاولتهم الحصول على المعيشة إلى أن تشعر بدفء العيش. ما من مؤنسٍ فيها سوى شعرها، هذه هي بيروت! هذه هي بيروت من عين صوما.
الهايكو، هو الأحبّ على قلب صوما، هو شعر يُحيي في نفس الشاعر إيماءات الحبّ والحسّ بكامل مكانته، ويجمع فيه حليّاً من مفردات الكلمات تتجانس في البساطة واللهفة. لا يكثر محبّو هذا النوع في المناطق العربية، في حين أنه اشتهر في اليابان.
«تفاصيل»، الديوان الأول لصوما الذي يدور حول مراهقة هذه الشاعرة وتفاصيلها الحيّة، تبعه ديوان «الفاصلة»، وهو تعبير مختصر يحمل رموزاً كثيرة، يحمل في فواصله التأمل والانتظار، ومعاني التريث قبل المتابعة في أي تجربة من تجارب الحياة. أما في المضمون، فالديوان لا يقوم على موضوع واحد، بل يجمع المشاعر والرؤيا والأسئلة التي يختزنها الكون بحسب ما أدلت به صوما إلى «البناء».
فرادة هذا نوع من الشعر سمح لصوما بالخروج عن المألوف في الجو العام الثقافي، قدّمت خطى جديدة لمحبي الشعر والأدب.
القصيدة على حدّ تعبير صوما هي لحظة، إمّا أن يلتقطها الشاعر أو تسقط منه، هذه القصيدة الصغيرة والحرّة تفرض الكثير من المسؤولية، إذ على الشاعر أن يعرف من أين تُمسَك القصيدة وكيف تنفجر في وجه قارئها. كل قصيدة لا تحدث انفجاراً ما، لا يعوّل عليها كما تشير صوما.
كان لـ«البناء» لقاء مع صوما للتعرّف إلى هذا النوع من الشعر وماهية قصائدها.
الهايكو نوع من الشعر الياباني، يعتمد على التكثيف، ويحاول من خلال ألفاظ بسيطة التعبير عن معاني ومشاعر كبيرة. شعر الهايكو يتألف من بضعة أسطر. ظهر في اليابان في القرن السابع عشر، ثمّ أخذته الشعوب الأخرى. وما زالت محاولاته ضعيفة عربياً، إذ ما زالت القصيدة العربية الطويلة رائجة أكثر بحسب قول صوما. في حين يصل شاعر الهايكو وعن طريق ألفاظ بسيطة بعيدة عن التأنق بوصف الحدث أو المنظر بعفوية ومن دون تدبّر أو تفكير إلى ما يسعى إليه، تماماً كما يفعل الطفل الصغير في ردود فعله إزاء ما يشعر به.
مجموعة قصائد هايكو بعنوان “مطر بليد” :
في دار المسنّين
تعانَق عاشقان سابقان
كانت بلا ذاكرة
وكان بلا رغبات
********
لم أعد وحيدة
أيتها الغيمات
يحدث أن تتحوّل الغرف
إلى أصوات
********
جسدي ليس هنا
ذهب مع أصدقائه إلى الحقل
هذا السرير ليس لي
هذا الوقت
ساعة متوقفة في يدي اليمنى.
الشعر رافق طفولة باسكال صوما من درب إلى آخر، من خوف إلى آخر. ديوان «تفاصيل» عبَرَ تفاصيل هذه الطفولة، إلى أن تمسكّت طفلة الشعر بهايكو القصيدة وكتبت «الفاصلة»، يبعد هذ الديوان عن الحشو والتكرار، فكانت بضع أسطر كافية ووافية، هو باختصار تكثيفٌ من الأسئلة والرؤيا بشكلٍ مختصرٍ على هوى القصائد القصيرة، في حين بات هذا التكثيف عبادة بالنسبة إليها.
تشدّد صوما على أن القصائد الطويلة ظلم للغة، فيما المعنى يكمن في سطر أو سطرين، بحسب نقاّد الشعر.
رائدة صوما في مجالها الصحافي إلى جانب الشعر، وتعتبر أن الصحافة والشعر خطّان متوازيان. يمشي الواحد إلى جانب الآخر، لكنهما نادراً ما يلتقيان. الشعر بالنسبة إليها هو انكساراتها وأوجاعها وحماستها وخوفها والبحر الذي تتنفّس فيه، رغم أنها تتعب منه أحياناً وتكرهه مرّات.
وأخيراً، عن سؤالها حول الوضع الثقافي في لبنان، أجابت أنّه يتنهّد على الخفيف لكن لا يتجلّى من بعض المحاولات الطفيفة، كالنشاطات التي يعمل على إنجاحها عدد من الشباب، كالأمسيات الشعرية في ملتقى «شهرياد» وملتقى «القناديل» وجمعية «تجاوز» وملتقى «أصل الحكي»…إلخ. وهذا ردّ على من يقول إنّ هذا الزمن لا يحمل الإبداع.