سفر التراب..
هاني الحلبي
ماذا يشعر تراب سوري وهو يصعد درج طائرة من بيروت؟
بل كيف يسافر التراب؟
كيف يسافر من وطن مضمّخ بالدم والشهداء والأشلاء وغار الركام؟
كيف يسافر؟ وقلبُه هناك، في مشرق الأرض حيث كاد يُطفأ بالحقد والنار والله المضرَّج بفتاويهم..
شرايينه كادت تتجلّد في الشتاء، فمحتكرو «المازوت» في بلدي حجبوه عنه، أسوة بفقراء سورية، فتيبّست حتى كاد يكفر في الحياة نفسها، وفي دولة تتشلّعها ذئاب انتهاز منفردة أو في قطعان، تتحيّن فرصة رخاوة قبضة الدولة في نواحٍ ومناطق. تخطف. تبتز. تنتهك. تسرق حتى الأحلام من شباب سورية ومن بناتها، حتى الشهوة للحبّ من نسائها، حتى الرجولة من رجالها كاد يتمّ اقتلاعها ليبقوا البشر فيها حطباً لنار وماء لصقيع؟
ماذا يشعر تراب الفتوة، المدهش قلماً، عندما كتب في «البناء» منذ شهرين «أنا مجدلية الزمان والمكان» وفي هذه الزاوية «المرأة نبض فتيّ» وهو النابض حياة وموقفاً.. بدعابة محببة «أنا حداية مؤنت حدا، ومعناها شخص، كلمة يستعملها السوريون بكثرة لا تقبل هذا الذل. قلمي جفّ. قلبي توقّف. يخونني مرات. خلاياي يفترسها سرطان لعين. دماغي يبتلعه ورم خبيث. كفى. نعم الدولة خط أحمر. لكن تحت هذا التأييد فوضى قاتلة يفتعلها حيتان وأغنياء حرب من يحمي الأبرياء من مخالبهم وبطونهم وأنيابهم».
انتظرت أبي عقوداً ثلاثة وأنا طفلة ليعود من المهجر. كل يوم تتسمّر عيناي في مدخل بيتنا المحاذي لأوتوستراد السويداء. أنتظره يعود بكامل قيافته وهو عريس. كما تثبت صورة الذكرى مع العروس أمي إلى يساره. ووعودها لنا لا تتوقف. قريباً سيأتي أبوكم من المهجر. والمهجر وحش للرجال. بخاصة رجال الجبل الأشداء. يفترسهم ثم يطلب غيرهم، فيذهبون طامعين بمنّ وسلوى لاتينية. بذهب ملون وثروات لا تأكلها نيران. لم يتأخر المرض حتى فتّت قلبه. فهوى كسنديانة من السويداء فوق صوان أحمر غير سوري. لم يصلنا منه سوى نعي وأن الجالية اهتمّت وأقامت عزاء كبيراً وتعازي طالت أياماً. لكن فقداني طال دهراً. فقدان لم يعبأ به أحد. كتمته في قلبي استدفاء بحرارته لشتاءات صماء.
أبي الذي أنجبني لا دليل عليه سوى صورة بالأبيض والأسود فوق التلفاز. تمسحها أمي كل يوم وتكتم دموعاً حتى نذهب إلى المدرسة فتنقطع ساعات تندبه بنبل وعتاب حتى تهوي بلا قوة.
أين أنت يا أبي. أين أنت تحضنني الآن قبل صعودي إلى الطائرة، أغادر وطنيين إلى وطن ربما يكون ثالثاً. ربما سيحتضن رمادي. ورمادي سيشهد ولادتي من جديد في الاسم نفسه، أو أن تضمني عائلة ألمانية إلى تعداد بناتها؟
لم يطل حزني على أبي طويلاً حتى أخذت أمي بالتلاشي. جلطتها الحرب. كل انفجار قرب التلفزيون ينفطر قلبها على ابنها الأكبر. فتحرّك إبرة الراديو من محطة إلى محطة، من قناة إلى قناة تلفزيونية علّها تشتمّ رائحة نجاة. ابنها الثاني الأصغر في أقصى شمال شرق البلاد منذ أشهر لم يُسمح له بالعودة لتقبيل يدي أمه وشمّ رائحتها، والاستحمام في منزلنا القروي الأنيق والاستظلال بزيتونة الدار وشمّ ورودها، بعد أن اختار سبيل المستقبل المتوفر حالياً أمام الشباب السوري هو «فيلق الاقتحام الخامس»، فليكن يا أخي. كان الله بعونك وحماك من رصاص غدرهم وحمى سورية.
وأختي الأصغر مني تحضن حلمها الجميل بين يديها وتطعمها من لبنها المحيي وترعاها خلية خلية، بينما خلاياي تنقص أو تنشطر كل يوم.
أحبّتي أنتم ذاهبون في سبلكم التي اخترتموها، أما أنا فذاهبة في معراج سماوي بعيداً عمّن أحب. معراج لم أختره، بعيداً إلى المانيا لعل مباضع الأطباء تحمي ما تبقى من ترابي، فيعود إلى السويداء لينزرع فيها وردة جوري، زيتونة بركة، رواية حب، قصيدة شعر.. ضحكة متسلسلة تملأ الآفاق..
هل تدعون لي بالشفاء؟ حبّذا!
ها أنا أرضي درج طائرة. سمائي رحمة الله. إلهنا السوري نحن، ذاك الإله الذي قال منذ خمسة آلاف عام: دع سيفك، وامتشق معولك وتعال إليّ. أنا الأرض فازرعها وانبثّ في التراب خيراً حلالاً وتألّق جمالاً هو أنت. هو أنا. تبارك على الأرض فينا كما في السماء أنت. لتكن مشيئتك يا ربّ سورية، في كل مكان، كما نستحق وكما يريد عدلك. وإن شئت لي موتَ جسد فاجعله هدايا لمن يحتاج منه، بلا منّة وبلا ثمن سوى شفاء مَن يستحق والرحمة لي، لعلّني أبقَ بسمة بين شفتي طفل، أملاً بين ضلوع فتى، وعد عودة في قلب سوري وسورية اقتلعا عنوة من ترابنا.
إليكم جميعاً نبضي الوفي.
دعواتكم بالشفاء والعودة لأكون بينكم زهرة في حديقة سورية.
ربِّ صن سورية.
باحث وناشر موقع حرمون haramoon.com
وموقع السوق alssouk.net