الحروب الاستعمارية المباشرة وتغليب النخب النيوليبرالية

د. رائد المصري

إنّ المزج بين الصراعات العسكرية وبين المجتمع المدني المموَّل من دولارات النفط والغاز وسياسات النيوليبراليّة، قد عزّز تفكيك منظومة الطّبقات العاملة، وهمَّش رموزها وشعاراتها، وخلق حالةً مطبوعة باليأس والانهزامية. وهي الحالة العربية الراهنة في ضعف الدولة وانهيارها، المحكومة والواقعة بين مطرقة الحروب التي يشنُّها الغرب الاستعماري المعولم بالشكل المباشر وسندان تغليب وتحكيم نخبه وأدواته الوظيفيين بمقدرات وبمصائر الشعوب ومستقبلها.

فمن خلال النَّظر الى حالة العالم العربي اليوم وأوضاع الغالبية من سكّانه، فإنّ ما يُثير العجب ليس التأثير المدمّر للحروب والغزوات الخارجية التي تفتك وتدمِّر بلاداً بأكملها، من العراق الى سورية وليبيا واليمن، وتهجّر أهلها وتشتِّت مواردها. فالعجيب هو أنّ حتى الدّول التي لم تواجه الغزو والعدوان، وقامت بمصالحات تاريخية مع إمبريالية الغرب وأدواتِه كـ»إسرائيل»، واعتمدت على الإصلاحات الليبرالية من خلال الاندماج في الاقتصاد العالمي، هي نفسها هذه الدول قد وصلت الى حالة من الانهيار والتدمير، تساوي تلك الدول من نظيراتها العربية التي ضربتها الآلة الحربية والعسكرية والصراعات التي انطلقت منها وعليها. ولهذا نجد مثلاً أن مستوى الحياة والرفاهية في بلد كلبنان قد عانى من حروب كثيرة وطاحنة وإلغائية، ورغم نظامه السياسي الطائفي المتعفّن، هي أعلى بكثير من بلد مثل مصر أو تونس اللتين لم تضربهما الحروب المباشرة منذ أكثر من 40 عاماً.

فهناك نوعان أو أسلوبان من التدمير متساويان في الهدف لناحية تقويض أواصر الدولة العربية. وهما: أولاً الحروب التي يشنُّها الغرب الاستعماري بشكل مباشر، وثانياً تثبيت نُخب وأدوات نيوليبرالية وموظَّفين لدى البنك الدولي، وكلتا الأداتين توصلان الى النتيجة نفسها، وهي تدمير المجتمعات من الدّاخل وسلب السيادة وإعادة تشكيل الدولة كما يريدها المستعمر، بالإضافة الى أنَّ الإصلاحات الليبرالية المفروضة هي التي تحطّم القدرات الإنتاجية وتفقر الشعب وتفكّك مجتمعاته، كما بات معروفاً.

فعلى أثر الاستقلال وموجات حركة التحرير، حكمت الدولة العربية نخبٌ عسكرية تحالفت مع برجوازيات الدولة الناشئة وقتها، وشكَّلت طبقات وسطى من فئة الموظفين الكبار والتكنوقراط والمثقَّفين الذين ساعدوا هذه النُّخب العسكرية الحاكمة وحكموا مؤسسات الدولة معهم. هذا التحالف السياسي حظي بتأييد فئات واسعة من الشعب بسبب تطبيقه ورفعه شعارات الاشتراكية والتأميم والدعوة للوحدة العربية ومواجهة الغرب و»إسرائيل». إلاَّ أنه منذ أواخر السبعينيات، وبعد العديد من الهزائم العسكرية وسيطرة المعسكر الغربي وانكفاء الاتحاد السوفياتي والفكر الشيوعي، تصالحت هذه النُّخب مع الامبريالية الجديدة، وفتحت أسواقها بشروط استسلامٍ وتنازلات سياسية مخيفة، وتحالف الحكّام مع النخب التجارية الجديدة، في تسهيل لفتح الاقتصادات واستبدال النمو الصناعي ومشاريع التنمية بنشاطات مالية وعقاريّة وخلق اقتصادات غير منتجة، تُضاف إلى ذلك الهزائم العسكرية التي أوصلت الى هزيمة إيديولوجية في صفوف النخبة الحاكمة، وخلقت ثقافة بين النّخب السياسية والمجتمعية تعتبر أن الصّدام مع دولة حديثة ومتقدمة ونووية كـ»إسرائيل»، أو تحدّي الغرب المتفوّق والمتطور، هو أضغاث أحلام وأوهام، ونادوا بما أسموه سياسة الواقعيّة وأرفقوها بعدها بشعارات الاعتدال، والعمل على الفصل بين مسارات التنمية ومسارات الأمن والاستقلال فلم يتحقق أيَّ شيء وكان الفشل سيد المواقف.

في عهد الانفتاح المعولم وربط العملة بالدولار أو تحريرها، خسرت الدولة العربية كامل سيادتها الاقتصادية، فلم يَعُد وضع الاستثمار والاستهلاك وتقلّب الدولار والأسعار مرتبطاً بالقرارات السيادية لهذه الدولة، بل بسياسات الغرب ومنظومته الإمبريالية، وبظروف خارجية لا يمكن السيطرة عليها. كما شكَّل في الوقت ذاته تحرير غالبية اليد العاملة وتركها مسبيَّة تحت انفلات السوق. وبدلاً من أن تكون هناك نسبة متزايدة من العمّال المنظّمين في مؤسسات عامّة، تراجعت الدولة لتنسحب وتترك الملايين من أبناء الريف ومن المهاجرين الى المدن، تحت رحمة القطاع الخاص والسكن في العشوائيات، بلا أيِّ شكلٍ من أشكال التأطير والحماية والتنظيم باستثناء النشطاء الإسلاميين وعمل المنظّمات غير الحكومية التي كان ولا يزال الهدف الغربي من حمايتها معروفاً حتى اليوم.

اليوم يرتكز النظام في مصر على دعامتين: الالتزام باتفاقية كامب دايفيد والدعم الأميركي من ناحية، والمنح المالية الخليجية والغربية من جهةٍ أخرى، وبالتالي لا يمكن المراهنة على نظام كهذا أو اعتباره نظاماً استقلالياً أو امتداداً لحقبة الرئيس جمال عبد الناصر، لتبقى سياسات هذا البلد محكومة في سقوف يرسمها المموِّل وتندرج تحت هذا المسار.

أميركا، مثلاً، تدفع منذ كامب ديفيد لمصر مئات ملايين الدولارات سنوياً كنفقات بدل أتعاب للسلام، تُصرَف بأغلبها على المؤسسة العسكرية والأمنية، والباقي يذهب لجمع المعلومات داخل مصر وتفكيك المجتمع، ونشر ثقافة الهزيمة والاستسلام فيه. وفي مقابله تحصّل أميركا عوائد سياسيّة أضخم بكثير من ذلك بسبب تحويل مصر دولة تابعة.

ليست الحرب على بلاد العرب استثناءً، بل هي من طبيعة عمل النظام الرأسمالي العالمي المعولم والمتوحِّش على هذه المنطقة. فرغم رهن النظام العراقي ومنذ العام 1990 كلّ موارد نفطه وخيراته للروس وللأميركيين وللفرنسيين لتجنُّب الحرب، لم تشفع للعراق كلّ هذه التنازلات، فالأجندة الأميركية كانت وما زالت قائمة على الحاجة لتدمير الدولة العراقية واختراق مجتمعاتها وتفكيك نسيجها الوطني والقومي، وهي الحاجة الأميركية نفسها بالنسبة لسورية، رغم تصالح الدولة فيها ونخبها مع البرجوازيات العالمية لتجنيب البلاد الحرب وفتح الاقتصاد، إلاَّ أنَّ الغرب وقوى الاستعمار اختاروا دائماً تدمير سورية وإحراقها في كلِّ مرة تتاح الفرصة لهم، ذلك أن العائد الجيوستراتيجي الذي تكتسبه المنظومة الغربية الاستعمارية في المنطقة العربية وفي العالم نتيجة تدمير الدولة فيه وتحطيم المجتمع وتحويل البلد ساحة حرب، أكبر بكثير من الفائدة التي قد تجنيها من سياسات الانبطاح والخضوع وسلب القرار السيادي والاستقلالي لهذه الدول، حتى لا تتناسل وتتوالد هذه المجتمعات لخلق وبعث رواد وقادة كعبدالناصر وحافظ الأسد والسيد حسن نصرالله.

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى