«الشحادين في بلدنا».. مهنةٌ منظمة أم حالة إنسانية تفرض معالجتها ودرء خطرها المتصاعد!
اعتدال صادق شومان
رغم أنّ التسول مشهد متواصل ومألوف على مدار أيام العام، إلا أنه يتحول إلى ظاهرة تزداد زخماً في الأعياد ومواسم السياحة والمناسبات الدينية، خصوصاً في شهر رمضان الكريم حيث تستفحل الظاهرة وتأخذ منحنى متزايداً.
ويعدّ التسول من أكثر الظواهر التي تطورت وتنامت وبلغت سقفاً يتعدى حدود السيطرة والمعالجة، تعاني منه ليس البلدان العربية كما هو شائع، بل هو أيضاً رائج في أغلبية دول العالم مع وجود فوارق في مدى انتشارها وحدتها من مجتمع لآخر واختلاف «مزاريبها». ففي دولة كبرى مثل الهند، على سبيل المثال، تُفتح في بعض القرى مدارس لتعليم الأطفال الفقراء فن التسول، وتعلم المهنة وتلقي دروس خاصة في «علم أصول التسول»، حتى أنّ الدول الموصوفة باقتصاد قوي والنفطية، كدول الخليج، لم تسلم من هذه الظاهرة المنتشرة فيها بشكل كبير. حتى في العاصمة الإنكليزية لندن، على سبيل المثال، فإنّ التسول موضة متأصلة يتنافس عليها الكثيرون، وفي تركيا هناك قرية بكاملها لا يعمل أهلها إلا بالتسول، وعلى الرغم من محاولات الحكومات والمجتمعات مكافحة «الظاهرة» واستنباط القوانيين التي تمنع التسول وتنبذه، وجدية بعض الدول في مكافحة الحالة القديمة المتجدّدة، إلا أنّ التسول على «أوج « ويزداد انتعاشاً بوتيرة عالية بين عام وآخر، ومردّ ذلك هو اضطراب الأحوال الاقتصادية من جهة، والحروب القائمة من جهة أخرى، وما أنتجته من ويلات ألقت بثقلها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في العالم كله.
غير أنّ المعلوم أنّ «الظواهر» إذا حُوصرت يظلّ تداركها مُمكناً أما إذا انتشرت وتطورت استحالت شأناً خطيراً على المجتمع وأمنه واستقراره، فتنخر دعائمه الأخلاقية وتتركه مفتوحاً على أخطر الاحتمالات، خاصة أنّ التسول من أكثر الحالات الاجتماعية تعقيداً وتشابكاً إذ تحول إلى مهنة لها قواعدها وأصولها وأساليبها وتقنياتها، عدتها ساحة النصب والاحتيال كونها لقمة سائغة لا تحتاج إلى كثير من تكليف النفس، إذ يُلحظ أنّ هناك عائلات، «بأمها وأبيها»، تتسول وتقودها شبكات الجريمة المنظّمة ومافيات كبيرة، متخفية وراء الكواليس، ولا تظهر في الميادين العامة كالمتسوّلينن خطورتها أنها عاصية على الدولة والمجتمع، الأمر الذي دفع غالبية دول العالم إلى منع التسول ومكافحته حيث تصنفه العديد من البلدان ضمن قضايا النصب والاحتيال، وهذه نصف الحكاية!
«المتسولون» بما يشكلون من همّ وقلق إنساني وحضاري، قضية شائكة تحتمل أن نقف أمامها ببعدها المأساوي والجلف في آن واحد، من أجل اجتراء الحلول الممكنة التي تحفظ كرامة الفقراء من مذلة السؤال ومنع استغلالهم السافر من قبل مافيات التسول التي نبتت وتغلغلت في مسار الأحداث القائمة ونتائجها المدمرة، وليس بملاحقتهم باليد الأمنية الرادعة، التي تتوسل تطبيق القانون بالعصا الغليظة ما يؤدي إلى المزيد من التعنت واشتعال أوارها، ولن تعيقها أو تحدّ من عواقبها، خاصة بعد أن يكون التشرد قد تحوّل، عند الأطفال تحديداً، إلى نمط معيشي يساعد على الانحراف، ويضخّ أفواجاً من الجانحين.
الأصحّ تقدير حجم المشكلة الاجتماعية وأسبابها والسعي وإعادة تأهيل هذه الفئة من المجتمع، فالحلّ يقتضي تضافر الجهود في التشخيص والمعالجة من خلال اعتماد منهجية متكاملة تلتقي فيها الدولة مع المنظمات الدولية والمجتمع المدني «لمحاصرتها» أو تلافي أسبابها والحدّ منها على الأقلّ، بدل ترك الأمور للمصادفة، وقد بلغت حداً تجاوزت فيه الممكن من «الحلول»، خاصة أنّ مهنة التسول اتخذت منحى خطيراً مع ظاهرة الاستغلال العنيف للكثير من الأطفال واللافت تزايد عدد الفتيات الصغيرات بما يتجاوز عدد الصبية الذين تعدّدت أسباب لجوئهم إلى الشارع، والأمر قد يتنامى حتماً إلى ما هو أكثر سوءاً مما يبدو عليه بالنسبة للأطفال الذين تحضنهم الشوارع والطرقات ويجوبونها بمعدل من سبع إلى تسع ساعات في اليوم، والمرشحين في كلّ لحظة إلى خطر اكتساب العادات والسلوكيات السيئة مع حسبان تنامي ظاهرة الإجرام لديهم، أي الانحراف التام بشتّى أنواعـه، عدا خدش وانتهاك براءة طفولتهم مع احتمال تعرضهم للتحرش الجنسي خلال «مهام جانبية» ينظمها لهم «الكفلاء» في غالب الأحيان تودي بهم إلى الاغتصاب، إضافة إلى إصابتهم بشتى أنواع الأمراض ومنها ما هومستعصٍ، حتى أنهم باتوا رأس حربة التنظيمات الإرهابية من خلال تدريبهم وتحضيرهم لما يسمى «أشبال الخلافة»، فتتم أدلجتهم لإشراكهم فى عمليات الإعدام بدم بارد وتنفيذ أعمال إرهابية كما شهد العالم كله.
وقد برزت مؤخراً ظاهرة جديدة في عمليات التسول نلاحظها بشدة في الشوارع، وهي الاستعانة بالأطفال المرضى أو أصحاب الإعاقات الجسدية أو الذهنية، وخصوصاً الرضع منهم، وقد أثبتت الجهات الأمنية أنّ هؤلاء الرضع يتم استئجارهم من قبل عائلاتهم مقابل بدل مالي محدّد، في انتهاك سافر لكلّ الأعراف والقيم الأخلاقية والإنسانية، وأدهى ما في الأمر أن يغدو التسول مشهداً اعتيادياً وجزءاً من تركيبة المشهد العام للمدينة، على أرصفة الشوارع وفي المقاهي والنقاط «الاستراتيجية» من المستشفيات ودور العبادة، ودائماً في ذروة «عجقة» الناس.
ولأنّ التسول، بكونه «مهنة»، يخضع هو الآخر للتخطيط والتنظيم والكرّ والفر، جديده ظهور فئة احترافية بامتياز تحرص على تنويع أساليبها في اختلاق الذرائع للحصول على الأموال، و لا توفر حجة في سبيل ذلك، إطارها الجديد وسائل التواصل الاجتماعي مثل «بلاك بيري» و«ماسنجر» وغيرهما، حيث يقوم بعرض حالاتهم الإنسانية على أكبر عدد ممكن عبر سرد وقائع وهمية أو عرض تقارير طبية مزيفة، عبر لجؤئهم إلى اختيار أرقام هواتف مميزة للاتصال بأصحابها وطلب مساعدتهم، من خلال القول إنهم يعيلون أسراً كبيرة، أو يعانون أمراضاً تستلزم نفقات كبيرة إلى آخر الأسطوانة.
كثيرة هي نماذج المتسولين التي نصادفها في ذهابنا وإيابنا اليومي، وليس بعيداً عنا بل على مرمى النظر و«اليد»، هنا في بيروت حيث اعتدنا على «بعضنا» ونشأت بيننا علاقة ودّ وتآلف نعرفهم بالأسماء ويعرفوننا، بل صرنا نتتبع جديدهم من أخبار «المهنة» التي صارت مادة للتندُّر، وحيلاً لا تنطلي على أحد، كتلك المرأة التي تفترش الأرض وتطرح أمامها طفلاً لديه إعاقة جسدية في النمو والتكوين على افتراض أنه طفلها تستجدي المساعدة بشدة من أجل علاجه، وفي يوم آخر نرى الطفل المسكين نفسه مع امرأة أخرى على جانب آخر من الطريق وبالحجة عينها مع احتفاظها «بحقّ التفاوض».
أما الشحاذون الصغار فلهم لغتهم الخاصة و«أدوات» تدغدغ المشاعر وتكسر القلب والخاطر وتجعلك تجود بالعطاء والمساعدة وهم يحملون ورودهم، التي غالباً ما تكون حمراء يلاحقون بها المارة من «الكوبلات» مردّدين العبارت التي تُخجل الشاب وتدفعه إلى شراء الوردة لصاحبة «الوجه الحلو».
ومن هذه الأدوار أيضاً أن يفترش طفل الأرض على كرتونة جعل منها فراشاً له مدّعياً الإعياء الشديد، وروايته أنه طُرد مع أمه المريضة من المنزل الذي يسكنه لأنه لم يسدّد الإيجار، ولكن وما أن تخفّ حركة المارين حتى يُشفى من إعيائه ويستقل التاكسي إلى «منزله».
ولكن يبقى الطفل «مهند» الأطرف بحجته عندما سأله أحد المارة عن والده فأجابه إنه يعمل معه في آخر الشارع وكذلك والدته وشقيقه الأكبر والأصغر، «يعني كلّ العيلة بالشغل». وعندما سأله لماذا «تشحدون» فكان ردّه الطريف: «نحنا عم نشتغل حتى نشتري بيت وإذا الله تكرّم علينا كمان رح ندفع «رعبون دكانة».
وهناك أطفال لم تُفسد لغة الشوارع أو «المرمطة» خلف السيارات والمارة طيفهم النقي حتى الآن ، ومنهم الطفلة «شهيرة» صاحبة النظرات المُنكسرة وهي تتخذ مع والدتها وإخوتها زاوية الطريق المؤدية إلى منزلي كمقرّ ليلي لهم، وتعاملني كجارة لها نقيم في الشارع ذاته تسبقني إلى إلقاء التحية بتهذيب فائق، ولفتني أنها تتمتع بنفس عزيزة، خجولة، غير ملحّة «بالتذلل» وتسرّ لي أنها « أنا ما بكذب» و«ما بسرق» أنا مش حرامية بس بتحب «البوظة» و «أبوي» يلي عم يخبيلنا «المصاري».
ومن أساليب «أولاد الشوارع» المشهودة لهم، الأداء التمثيلي الذي يتقمصه الطفل المتسول بحرفيّة عالية وإتقان جيّد للدور يضعه في خانة المنافسة القوية والندية مع أبطال المسلسلات الرمضانية بل إنهم أكثر إقناعاً، ما يدلّ على أنهم يخضعون للتأهيل قبل نزولهم للشارع عن طريق اللوازم ومكملات المظهر والهيئة واصطناع العلل والعاهات، إلى جانب الرجال منهم والنساء على اختلاف أعمارهم بين صبية «غندورة»، أو عُجَّز يجوبون الشوارع طوال النهار وبعضاً من ليل من غير كلل رغم ادّعائهم المرض الشديد تشهد لهم لائحة الأدوية الطويلة التي في يدهم، مع إصرارهم على رفض شرائه لهم بل المطلوب دفع ثمنه فقط؟
ومن قصص الشوارع الحزينة والتي تثير في النفس الأسى والسخط في آن، مدى الجحود أو الإسفاف الذي قد يصل إليه إنسان منها قصة المرأة العجوز «بائعة العلكة» على كرسيها المدولب التي طالما عرفها سكان المنطقة منذ أن كانت في مقتبل العمر تبيع علكتها متنقلة تبين الشوارع لتطعم و«تكبر» أبنائها الأيتام وكانت مثار إعجاب الناس بـ«نضالها». مرت الأيام وكبر «الأيتام» وتزوجوا وصار عندهم أبناء وشبّ الأحفاد وهم الآن يُحضرون جدتهم العجوز جداً والغارقة في كرسيها في شبه غيبوبة، وكأنّ موعد تقاعدها «الوظيفي» لم يحن أوانه بعد، والأكثر استفزازاً ووقاحة وسفاهة ابنتها التي بررت إنزال أمها إلى الشارع وهي في أرذل سنوات العمر بأنّ على أمها أن تعمل «بلقمتها» فأنا «مرا معيولة أنجأ طعمي ولادي»، مع العلم أنّ أحد أبنائها «الشاب جداً» وظيفته حراسة «غلة» جدته «أمها» من المتسولين الآخرين!
ولكن من يحمي تلك السيدة العجوز بسنواتها الغابرة من سخط الزمن عليها أو من كمد وجحود ذوي القربى في غياب أي قانون يحمي الشيخوخة وكرامتها.. ويقي الفقراء مذلة السؤال ورذالته؟