«الهايبان» اليابانيّ و«الفو» الصينيّ سبقا وألهما وبودلير رائد بلا منازع

كتب محمد الحمامصي ميدل إيست أونلاين : تنبع أهمية كتاب «مقدمة لقصيدة النثر» لمؤلفيه بريان كليمنس وجيمي دونام من كونه يتتبع قصيدة النثر منذ ولدت مطلع القرن التاسع عشر إلى اليوم وتواصل تطورها من شاعر الى شاعر، ومن عقد الى عقد، ومن نظرية الى أخرى، راصداً وكاشفاً قوانينها. فضلاً عن مترجم الكتاب الشاعر محمد عيد إبراهيم هو أحد أبرز كتّاب هذه القصيدة ومتابعيها في الإبداعين العربي والعالمي.

يرصد بريان كليمنس وجيمي دونام أنماطاً عديدة لقصيدة النثر اليوم، منها: نمط الحكاية، نمط الصورة المركزية، نمط المجاز الممتد، نمط الومضة، نمط المأثور، نمط التكرار، إلخ. وفي الكتاب قصائد للشعراء بابلو نيرودا، كينيث كوخ، نين أندروز، ماكسين شيرنف، روبرت بلاي، بوب هيمان، جو برينارد، راسيل إديسين، و. م. مروين، وآخرين، أما الشاعر العربي الوحيد المذكور في الكتاب مع قصيدة له فهو أمجد ناصر. وخصّ المؤلفان الكتاب المترجم الصادر لدى الهيئة المصرية العامة للكتاب في 320 صفحة قطعاً كبيراً بمقدمة خاصة أوجزا فيها تاريخ القصيدة وتعريفها وأبرز كتابها.

يقول المؤلفان: بدأت فكرة شعر النثر بتمثّلاتها كافّةً عام 1831 مع ظهور المصطلح في صلاة شكر جذلة في مجلة بريطانية مفعمة بإمكانات النثر الشعرية قبل أن يبدأ أحد بسنين كتابة مقطّعات بوعي ذاتيّ تحمل مفهوم «قصائد نثر». وبعد نوبات رواج طوال القرن العشرين، حظيت قصيدة النثر في الولايات المتحدة بقبول واسع. بدأ تجلّي قصيدة النثر مشاعاً في السنين الخمس عشرة الأخيرة في مجلاّت أدبية سيّارة لتزوّدنا بمختارات عديدة كهذه. لماذا قاومت قصيدة النثر في البداية، ولِم رواجها الراهن المستجدّ؟

قد تكون للمقاومة علاقة باسمها، ـ إذ يتساءل كثير من القراء الوافدين على قصيدة النثر: «كيف لها أن تصبح قصيدة نثر؟ أليست إردافاً خُلفِياً؟» لكن «الشعر الحرّ» لا يختلف، فالاسم المردَف خُلفياً يأسر الطبيعة المعقّدة لحيوان تربّى على تحدّي فرضيات مألوفة عن كُنه الشعر وما في وسعه أن يفعل». ويريان «أن معظم الشعراء يفكرون في أنّ «القصائد تتألّف دائماً من شِعر سواءً كان «حرّاً» أو لم يكن ، لكن الحقيقة أن تقاليد النثر الشعريّ العديدة حول العالم ـ «الهايبان» اليابانيّ و»الفو» الصينيّ والنصوص المهيّأة من التقاليد الشفاهية لكثير من الشعوب البدائية ومقطّعات من «نسخة الملك جيمس للكتاب المقدّس» ونصوص دينيّة أخرى ـ كانت سبّاقة ونماذج لما صار، خاصةً منذ نشر شارل بودلير «سأم باريس: قصائد قصيرة في النثر» 1862، بشكل مختلف كقصيدة في النثر، أو قصيدة نثر».

ويضيفان أن تاريخ القصيدة بدأ في عام 1842، مع مجموعة «غاسبار الليل»، مجموعة مقالات نثرية قصيرة بتوقيع ألويزيوس برتران. ولهذه القصص والتأمّلات تأثير فائق في أسلوب بودلير في ديوانه «قصائد قصيرة في النثر» ثم انعكس إبداع بودلير بدوره على الشابّ آرتور رامبو، الشاعر الفرنسيّ الذي كتب بحياته القصيرة ثروةً من قصائد النثر تعتبر اليوم من كلاسيات هذا النوع.

أوحى لكثرٍ استعمالُ بودلير مصطلح «قصائد في النثر»، وما أحرزه هؤلاء الكتّاب بالفرنسية من نجاح كبير في قصيدة النثر كجنس أدبيّ فرنسيّ خالص. ودعم هذا العُرف التطوّر الإضافيّ لهذا الجنس في أعمال مالارميه ثمّ السورياليين ومؤلّفي مطلع القرن العشرين الآخرين الذين يكتبون بالفرنسية. كما تبنّى شعراء مثل فرنسيس بونج وماكس جاكوب وهنري ميشو، بين شعراء الفرنسية، قصيدة النثر كأداة مفيدة في سعيهم إلى تحرير الخيال. ويلفتان إلى أن معظم شعراء الإسبانية «اختاروا أثناء الانفجار الأدبيّ في فترة الحداثة، مثل: الفائزا بنوبل بابلو نيرودا وغابرييلا ميسترال، مع فيسنتي ألكسندري، قصيدة النثر أداةً صريحةً أجازت لهم دمج السرد مع التأمّل على نحو حرّ داخل القصيدة، من دون التضحية بالغنائية التي تتيّم بها معظمهم».

اعتُبرت قصيدة النثر، حتى الستينات والسبعينات وطفرة الاهتمام بالدراسات عنها عالمياً في الولايات المتحدة، صورة نمطية تابعة لشعراء الفرنسية والإسبانية لكن الشعراء عبر أوروبا كانوا يشتغلون واقعياً على قصيدة النثر: ألمانيا برتولت بريشت ، إنكلترا غرترود شتاين ، اليونان جورج سيفيريس ، وبولندا شيسلاو ميلوش/ زبيغنيف هربرت ، كأمثلة محدودة. وقاومت قصيدة النثر في الولايات المتحدة فترة الستينات والسبعينات على أيدي شعراء مثل: روبرت بلاي، جيمس رايت، و. س. مروين، ممن كتبوا قصائد نثر لكنهم أولوا عناية أكبر بترجمة شعراء النثر الأوروبيين والأميركيين الجنوبيين الكبار إلى الإنكليزية. وتُوّج وضوح قصيدة النثر في أعمال راسيل إديسين وجيمس تيت وشارلز سيميك. وفي نهاية السبعينيات لفتت قصيدة النثر الانتباه كنمط معاصر مقبول لكتابة الشعراء الأميركيين.

في 1976، حرّر شاعر النثر مايكل بنيديكت المختارات الرئيسة الأولى لقصائد النثر «قصيدة النثر: مختارات عالمية»، مجمّعةً من مختلف أنحاء العالم. وأسّست مختارات بنيديكت لتاريخ قصيدة النثر، فمعظم المجلاّت الأدبية في الولايات المتحدة تنشر قصائد نثر جنباً إلى جنب الشعر الحرّ والنصّ الأدبيّ والسرد النثريّ.

حول تعريف قصيدة النثر يقول المؤلفان كليمنس ودونام: «التعريف الأبسط لقصيدة النثر أنها قصيدة تُكتَب نثراً. ويوضح مايكل بنيديكت في مقدمة كتابه «قصيدة النثر: مختارات عالمية» أن قصيدة النثر تستعمل كلّ آلية شعرية قد يجدها المرء في الشِعر باستثناء السطر المقطوع. والقراء المستعدّون بمفاهيمهم عن الشعر لإدراج القصيدة الملموسة، القصيدة المتلوّة، القصيدة المسرحية، القصيدة المرئية، وتنويعات أخرى من البنى الشعرية، لن يضطربوا من الاعتراف بأن القصيدة قد تتألّف من النثر. فليس تصميم العمل ما يقرّر كُنه القصيدة. حين تُقرأ قصيدة الشعر الحرّ ذات البنية المعقّدة بصوت عال، أو حتى بعض قصائد الشعر، يضطرب معظم السامعين من تمييز البنية السطرية. ففي الشعر، غاية السطر أن يبني إيقاعاً وموسيقى ليعزّز المعنى أو تأثير القصيدة وهذه النهاية قد تُنجَز أيضاً بالجملة النثرية»، ويشيران إلى «أن قصيدة النثر ليست أقلّ جاهزية من الشعر في تبنّي الإيقاع والموسيقى وإنتاج المعنى أو التأثير في قارئ. تقدّم قصيدة النثر تحدّياً بليغاً، لكنها لا تستخدم السطر الأخير كأداة في إحراز أهدافها. في الشعر أو الشعر الحرّ يبدو التوتّر بين البنية السطرية وبنية الجملة آليّة مهمة لجيل الخبَب والإيقاع والمعنى أحياناً. وفي قصيدة النثر قد ينبني الخبَب والإيقاع تماماً داخل الجملة نفسها وفي اللعب ما بين الجُمل. إنها تتكئ على شاعر النثر ليجد وسيلة أخرى لتوليد التوتّر داخل القصيدة وهو يُنجز هذا الاستبدال مراراً عبر المنطق المضاد للسوريالية، السرد الغرائبيّ، طزاجة اللغة، البنية المبتكرة، أو التجريب في النحو وتركيب الجملة». ويتساءل المؤلّفان في مقدمتهما: «قصيدة النثر: شكل أم جنس أدبيّ؟» ويجيبان «المهمّ أن نتذكّر أن معظم النصوص التي نشير إلى أنها قصائد نثر تخيلَها مؤلّفوها «قصائد» كُتبت نثراً، ويرى المؤلّف قصيدة النثر أداته الفُضلى لإنجاز غايته المنشودة».

بهذا المعنى، يمكن القول إن قصائد النثر كافّةً هي قصائد مثل السونيتات، وتفضي هذه المقارنة إلى التفكير في أن قصيدة النثر هي مجرّد شكل. لكن، فيما تتركّب السونيتات إجمالاً من 14 سطراً، مكتوبة بالوزن وتتبع أنظمة الإيقاع الأساسية المتعددة، ليست هناك «قواعد» لقصيدة النثر. الشروط الوحيدة هي أن تُكتَب نثراً وتُقدَّم ضمن سياق شعريّ. غير هذين الشرطين، يجادل المرء إن كان النصّ قصيدة نثر أم لا، إلاّ أنها مسألة سياق أيضاً، فالقصد ممزوج بدور المؤلّف، والفهم بدور القارئ، كما أن هناك بيئة لنقل ديواناً، مجلّة أدبية، أو قراءة شعرية مما يستحثّ القصد والفهم أن يلتقيا. يطرح بعض النقّاد أن الإيجاز هو مطلب قصيدة النثر، إلاّ أن شعراء مثل جون آشبري ووليم كارلوس وليامز وروبرت كريلي كتبوا قصائد نثر احتلّت كتاباً بأكمله، إضافةً إلى ما تعاقب من قصائد النثر. لهذه الأسباب يُفضّل أن نفكّر في قصيدة النثر كجنسٍ تابعٍ للشعر لا مجرّد شكل».

حول تمييز قصائد النثر عن أنواع النثر القصيرة الأخرى، يؤكد المؤلّفان أن ثمة صعوبة «لم يبتكر أحدٌ للـ «الشعر» تعريفاً يلائم كلّ حالة ويُقصي كلّ جنس أدبيّ آخر. كما يصعُب أن نفصل في المجرّد جنس النصّ الأدبيّ حين يتربّع على حدود مفهومة للقصيدة القصة/ أو القصيدة المقالة. ومثل هذا العجز عن التحديد يحدّ قدرتنا على التمييز. فهناك عدّة أنماط من السرد القصير نسمّيها أحياناً السرد المُنَمنم، السرد المباغِت، السرد الومضة مثلما يتّضح لدى دونالد بارثلم أو ياسوناري كاواباتا، حيث يصعُب بل يستحيل تمييز ما أنتجوه عن قصائد النثر، بحسب ديفيد ليمان محرّر «أعظم قصائد النثر الأميركية»، فهذه النصوص سرد قصير وقصائد نثر معاً، وقد تكون شيئاً آخر تماماً. لكننا نميّز، حين يُستخدم مصطلح «قصة قصيرة جداً». ويوضحان «تبدو فكرتنا هنا أن قصيدة النثر جنس أدبيّ تابع للقصيدة المعروفة. ولو وجدنا فروقاً عملياً بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً، لاستقيناه من حقيقة أن قصيدة النثر هي قصيدة وأن القصص القصيرة جداً تنويع على القصة القصيرة. قد تكون قصائد النثر سردية أو لا تكون، لكن القصص القصيرة جداً، لو كان للمصطلح معنىً، تُشير حتماً إلى أمثلة قصيرة جداً من الجنس الأدبيّ «القصة القصيرة» ويوحي المصطلح في الأدب الغربيّ مقطعاً ينتمي إلى خاصّة سردية يتم فيه تغيير هذه الخاصّة فقد تكون أيضاً هي السارد عبر زمان العمل. فالقصة القصيرة جداً مميّزة جداً، نميّز بينها وقصيدة النثر بوضوح لكن الأصعب تعيين الفرق المعبّر بين بعض قصائد النثر ونماذج السرد المُنَمنم أو السرد الومضة، التي لا تنضوي تحت تقاليد القصة القصيرة جداً».

حول أنماط قصائد النثر يقولان: «ينمّ عن الناقد ميشيل دلفيل أن ثمة أنماطاً كثيرة من قصائد النثر، بقدر ممارسي قصيدة النثر. بينما نرى عدداً من الأنماط الشائعة أسلوبياً في ما يستخدمه شعراء النثر تكراراً، مثل: قصيدة القائمة، قصيدة الرسالة، قصيدة الموضوع، قصيدة المأثور. ولأن قصائد النثر لا تملك «شكلاً» جوهرياً يخصها، فهي تنشُد على التوالي أشكالاً ثقافية أخرى كنوعٍ من القالب أو لأجل مجموعة تقاليد تُفصّل في ما بينها بنيةً. وتصف هذه المختارات قدراً من أنماطها الشائعة، كما تمدّنا بأمثلة من هذه الأنماط داخل العمل». ويضيف «مع أن قصيدة النثر ليست «شكلاً» وليست لها شروط شكلية، قد نفترض خطأً أن قصيدة النثر ليست لها «بِنية». وفي الحقيقة، تتمثّل بنية قصيدة النثر في كشف معاني القصيدة، والطريقة الوحيدة الملائمة للكلام عن البِنية في قصيدة النثر أن نتكلّم عن أنماطها. مع ذلك، لا نقترح أن هذه الأنماط ساكنة يمكن لقصائد النثر كافّةً أن تنضوي تحتها أو تلائمها ـ فهي ببساطة أنماط تحدّد نزعات شائعة، لتجعل مناقشة القصائد أيسر، وقد تزوّد مبتدئي قصيدة النثر بنماذج لقصائدهم. كما لا نرى حتمية انتساب قصيدة النثر الواحدة إلى نمط من هذه الأنماط. فكثير من قصائد النثر في هذا الكتاب تلائم نوعين أو أكثر من هذه الأنماط وقد يبتدع امرؤ أنماطاً إضافية تشمل قصائد صنّفناها بمحلّ آخر من هذا الكتاب. فمثلاً، يتضمّن نمط قصيدة النثر التعليقية، قصائد النثر التي كتبها جورج كالامارس، ر. لـ. ريماس وجيف دافيس، أو يتضمّن نمط قصيدة النثر السياسية قصائد النثر التي كتبها أندرو نويندورف، كارولين فورشيه، بريان كليمنتس، وآخرون. هذا الكتاب، في إيجاز، عن تحديد بعض «احتمالات» قصيدة النثر، لا عن حصر قصيدة النثر في نطاق معين من التعبير».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى