الأَوْرَسة في مواجهة الأمركة: نحو هندسة نظام دولي تعدّدي البنية
صهيب خزار
إنّ مصطلح الامبراطورية الأوراسية «eurasian empire» الذي نظَّرت له العقول الموجِّهة للسياسة الخارجية الروسية على شاكلة ألكسندر دوغين ويفغيني بريماكوف وغيرهم من فطاحلة الاستراتيجيين الروس المخوَّلين رسم مسار وسياق السياسة الخارجية الروسية ومصمِّمي الأمن القومي الروسي ليس مصطلحاً – معنياً بما يحدِّدهُ على المستوى اللُّغوي «أوروبا وآسيا» فقط، وإنما هو أشمل من مجرد تحالف جيوبوليتيكي محدود في القارتين المذكورتين، لأنّ المفكرين الروس الذين يحيطون بالرئيس فلاديمير بوتين وإدارته لن يحكموا على روسيا المُتَمَوْقِعَةِ بثبات على خارطة القوى العالمية بالانتحار «الجيواستراتيجي» بربط نفوذ روسيا وطموحها في إطار جغرافي محدود بدل بناء إمبراطورية جيواستراتيجية تمهّد لنظام تنتهي فيه حركية الهيمنة الأميركية عند حدود سيادة الدول… فجهود منظمة شنغهاي وتحالف بريكس يثبت ما نقول، وكذلك استماتة روسيا في مواجهة الإرهاب في سورية وكذا دفاعها عن نفوذها في البحر الأسود بضمّ جزيرة القرم وكذا دفاعها عن مجالها الحيوي في بحر قزوين وإطلالتها الاستراتيجية على البحر الأبيض المتوسط.
دوافع إعادة التحرك بعد الانزواء والعزلة
حتى إذا درسنا التحرك الروسي عقب خسارته للعديد من القواعد الاقتصادية الاستراتيجية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عقب سقوط النظام العراقي السابق 2003 وسقوط النظام في ليبيا 2011 سنلاحظ آنذاك أنه تحرك طبيعي لدولة خسرت العديد من المكتسبات الاقتصادية والسياسية في العديد من الدول واكتفت هذه الدولة من عزلتها عقب تفكك الدولة الأمّ «الاتحاد السوفياتي» وما نتج عن ذلك من خسائر جيواستراتيجية فادحة نتيجة للركود الاقتصادي والسياسي داخل روسيا الاتحادية عقب هذا التفكك… إلى أن جاء الرئيس بوتين بتفكير جديد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المكتسبات في ظل تصاعد تراجيدي للقوة الأميركية وسيطرتها على كلّ الموارد النفطية تقريباً في الشرق الأوسط وامتدادها لشمال أفريقيا وخاصة في ليبيا والجزائر التي كانت إلى وقت قريب في السبعينيات والثمانينيات تسبح في التيار الاشتراكي وكان المستشارون العسكريون والاقتصاديون وحتى في مجال الطاقة من الروس يعملون بجهد على استقطاب الجزائر عبر تقديم خدمات الاستشارة والاستثمار في المجالات آنفة الذكر، حتى جاءت الأزمة الأمنية في الجزائر وتابعنا آنذاك كيف غادر الروس الجزائر مرغمين بعد تهديدات إرهابية طالتهم دون غيرهم من المستثمرين الفرنسيين والأميركيين وكذا الحال في ليبيا.
وحتى بالنسبة لمناطق كانت بالأمس تابعة للاتحاد السوفياتي في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والتي لم تصبح بمنأى عن النفوذ الأوروأطلسي. لهذا فالتحرك الروسي في السنوات الأخيرة كان مستعجلاً وفي وقته المناسب لاستدراك عناصر القوة المفقودة عقب التفكك التاريخي للاتحاد السوفياتي ومواجهة كلّ أشكال الفساد الإداري والمافيا الاقتصادية في الداخل.
آليات التحرك وديناميكيات الممارسة
لقد كان لزاماً على إدارة الكرملين عقب تولي فلاديمير بوتين للرئاسة في روسيا إيجاد صيغ إدارية مناسبة تُعِيدُ ذلك الزخم من القوة والهيبة لروسيا الاتحادية، والتي تراجعت بشكل رهيب إبان فترة حكم بوريس يلتسين والانشقاقات الداخلية آنذاك حين وصل الأمر بالرئيس الأسبق يلتسين إلى أن أعطى الأمر بقصف البرلمان الروسي في تسعينيات القرن الماضي، وهو مؤشر خطير على حالة الترهّل التي كانت تحكم روسيا «بعد السوفياتية». وإشكالية بناء قوة جديدة على أنقاض الاتحاد المتفكك، وهو التحدّي الذي رفعه بوتين أمام جهازه الاستشاري والحكومي بإلزامية رسم خارطة طريق عقلانية لبناء الدولة من الداخل مجدّداً ثم التفكير في آليات السياسة الخارجية التي تكون كما هو معروف أكاديميا مرآةً عاكسة للقوة الداخلية، فأيّ طموح جيواستراتيجي تسعى إليه روسيا على المستوى الخارجي لا يمكن بدون بناء دولة قوية خالية من مظاهر الفساد الإداري والخلل والأزمات الهوياتية.
جاء عقب ذلك العديد من المشاريع الاستراتيجية التي خيّرت روسيا بين نموذجين: الأول نموذج روسيا قيصرية جديدة تعتمد في توجهاتها على البناء الإثنوغرافي «القومي» والثاني نموذج سوفياتي جديد لإعادة هيكلة الجمهوريات السوفايتية المستقلة في نمط إداري جديد «كونفدرالي» ولكن كلا النموذجين التاريخيين في صبغتهما الجديدة لم يكونا على قدر كبير من اهتمام الرئيس الروسي لأنّ مواطن الخلل فيهما كبيرة ولا يمكن إعادة بناء مشروع فاشل أساساً، إلى أن وصل الأمر للتفكير في بناء دولة روسية تستوعب كلّ مكوناتها البشرية باختلاف انتماءاتها الدينية والقومية وإعطاء هامش أوسع للممارسة الدينية والعقدية لهذه المكونات خلافاً للتوجه الإلحادي السوفياتي والرجوع للمرجعية الدينية المسيحية الآرثودوكسية بالنسبة لمسيحيّي روسيا، وفي الجانب الإداري الداخلي كان الهدف هو محاربة كلّ أشكال الفساد الإداري والمافيا التي كانت تتحكم في مفاصل الاقتصاد الروسي وتعطل مشاريع بناء اقتصاد وكذا دولة قوية، وهو ما مارسته الإدارة الروسية الجديدة منذ مطلع الألفية الثالثة.
التوجه الأوراسي الجديد
ثم جاء التفكير في انتهاج التوجه الأوراسي الجديد الذي كان من أبرز منظريه الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين والمسمّى «عقل بوتين الاستراتيجي» والذي رسم مشروعاً لبناء نمط دولي جديد يواجه نموذج الهيمنة الأورو أطلسية الذي تسيرّه الولايات المتحدة الأميركية من خلال بناء شبكة من التحالفات في كلّ من أوروبا وآسيا وفق أربعة محاور رئيسية «طهران برلين باريس طوكيو» بالإضافة للجهود الروسية في بناء نموذج بريكس الذي يتكون من خمس دول صاعدة بقوة «اقتصادياً» والتي تمثل حروف اسمها الأولى اسم هذا التحالف: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا. ومنظمة شنغهاي التي تضمّ العديد من دول آسيا الوسطى إضافة لروسيا والصين وفتح المجال أمام كلّ من تركيا وإيران وأذربيجان للانضمام إلى هذا المشروع الاقتصادي الواعد.
كلّ هذه التحركات الروسية توحي بمحاولة استقطاب عدد كبير من الدول التي تريد هامشاً من الحرية للحركة الدولية بعيداً عن المضايقات الأوروأطلسية وخصوصاً الأميركية منها، وهذا مؤشر آخر إلى أنّ التوجه الأوراسي أوسع من كونه ربط شبكة محدودة من التحالفات، بل هو أشمل من ذلك كونه مشروعاً جيواستراتيجياً عالمياً يسعى لترسيخ قيم نظام دولي متعدّد الأقطاب تكون فيه المساهمة والإدارة لإطار أوسع من النظام الأحادي الذي تستفرد بإدارته قوة جامحة كالولايات المتحدة، التي فقدت شرعيتها الدولية كقوة مهيمنة باستخدامها للقوة المفرطة في إدارة العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وكانت نتيجة هذه الإدارة في العديد من المواضع عكسيةً، بأن انتشرت العديد من التهديدات العابرة للحدود وأبرز مثال على ذلك إدارة الولايات المتحدة لملفي العراق وليبيا وما انعكس عن هذه الإدارة من استشراء للإرهاب وفوضى السلاح والميليشيات إضافة للفوضى الداخلية التي كانت نتيجة لسوء التقييم والتحليل «المقصود» للظاهرة من الإدارة الأميركية.
وهنا نلاحظ المفارقة بين التوجهات الروسية والأميركية في سياستيهما الخارجية:
فروسيا من خلال تدخلها في سورية إلى جانب حليفها السوري في مواجهة الإرهاب سجلت نقطة إيجابية في سوابقها التاريخية، وهذه النقطة متمحورة حول عامل الثقة، فتدخلها جاء بطلب من حليفها في دمشق وكذا لحماية مصالحها وحلفائها في المنطقة، عكس التدخل الأميركي الذي أسقط في العراق سنة 2003 حليفه السابق في حرب الخليج ضدّ إيران في ما يعرف بحرب الثماني سنوات بداية الثمانينيات. ورفض الوقوف مع حليفيه في القاهرة وتونس عقب مطالب شعبية لإسقاطهما… وفي العديد من التجارب التاريخية المخزية التي مثلتها مواقف الولايات المتحدة التي يعتبرها المتابعون في العديد من المواضع خيانة للعملاء الذين خدموا مصالح الولايات المتحدة.
كلّ هذه النقاط المذكورة مهمة في رسم مقاربة عقلانية لفهم المسار التاريخي الذي يمكننا من استشراف مستقبل النظام الدولي الذي يسير بخطى ثابتة نحو بنية تعدّدية في الشكل والمضمون، أيّ بانتهاج الشكل التعدّدي في أقطاب الامتياز «النامية والصاعدة والعظمى»التي تساهم في المضمون باتخاذ قرارات الإدارة للملفات الدولية والإقليمية وتفادي السقوط الأخلاقي «إنْ صحّ التعبير» في هذه العملية.
وتعمل روسيا وفق هذه الاستراتيجية الجديدة «الأوراسية» في ربط المحاور الدولية والإقليمية بشكل مباشر وغير مباشر، فالربط المباشر يتمثل في تلك المحاور الأربعة التي ذكرناها آنفاً، أما الربط غير المباشر فيتمّ عن طريق المحاور الرئيسية، فمثلاً عند محاولة استقطاب الدول الإسلامية والعربية للتوجه الأوراسي يتمّ ذلك عن طريق المحور الروسي – الإسلامي الذي حدّد بمحور موسكو – طهران، وهنا نرجع للدور الفاعل لطهران في بناء تحالفاتها الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع تلك الدول التي تؤمن بمنطق التعددية في النظام الدولي ولكنها لا تتمكن وفق مقاييس القوى والتوازنات الدولية من أن تلعب دوراً فاعلاً كالذي تلعبه إيران، فتكتفي بتحالفها مع إيران لتكون جزءاً من هذه الامبراطورية الجيوبوليتيكية «العالمية» وأذكر في هذا الصدد الجزائر كأبرز مثال. أما باريس «ديغولية النزعة» كما يسمّيها ألكسندر دوغين، فلها دور فاعل في استقطاب دول أخرى «فرانكوفونية» في أفريقيا، وأيضا برلين التي يمكنها استقطاب بعض دول أوروبا الوسطى والغربية والتي كانت منضوية تحت جناحها تاريخياً كبولندا والنمسا وغيرها.
هذه الديناميكية التي تعمل وفقها روسيا والدول التي تشاركها الرؤية في جهد واضح لبناء نظام دولي تعدّدي جديد يتكيّف والمطالب الدولية الجديدة التي تتجاوز مفهوم القوة والهيمنة التسلطية الأحادية «الواقعية» التي تتعامل بها الولايات المتحدة وحلفاؤها من القوى الأطلسية في إدارة الملفات الإقليمية والدولية… ويفتح هذا النظام الجديد المجال للعديد من الدول لإدارة ملفاتها الإقليمية نتيجةَ ترابطها وتشابكها تقنياً وبنيوياً وإلمامها بخصوصيات هذه المناطق مما يتيح لها إدارة حكيمة لهذه الأزمات بعيداً عن الاستعمال غير الحكيم للقوة والهيمنة، وبالتالي تفادي النتائج العكسية للتعامل مع هذه الظواهر والتهديدات.
باحث جزائري في المركز الدولي للدراسات الامنية والجيوسياسية