تقاسم النفوذ الأميركي مع روسيا: الخيار الصعب

أسامة العرب

الصراع الحقيقي بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا يدور حول مناطق النفوذ في منطقة القوقاز، بسبب الموارد النفطية في بحر قزوين، يضاف إلى ذلك أنّ روسيا تعارض انتماء الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي سابقاً لحلف الناتو وإقامة قواعد عسكرية للحلف في تلك الأراضي. ومنذ اندلاع الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004 ومثلها في جورجيا وقرغيزيا، ازدادت حالة الشدّ والجذب بين روسيا والولايات المتحدة، حيث اعتبرت روسيا بأن هذه الثورات تشكل محاولة أميركية لتغيير الأنظمة الموالية والصديقة لروسيا في منطقة أوراسيا والبلقان وشرق أوروبا عموماً، لا سيما بعدما استطاع حلف الأطلسي التوسّع شرقاً لتطويق روسيا، وقامت الولايات المتحدة بدعم الحركات المعارضة والمظاهرات الحاشدة ضد بوتين في العام 2012، كما ارتفع منسوب التوتر عندما أعلنت واشنطن عزمها تشغيل الدرع الصاروخية في شرق أوروبا في قاعدة ديفيسيلو برومانيا. وهو ما اعتبرته موسكو تهديداً مباشراً لأمنها.

ولكن تأتي رغبة تحسين العلاقات الروسية الأميركية اليوم نتيجة لتراجع وانسحاب أميركا تدريجياً من الشرق الأوسط، وفقاً لعقيدة أوباما بعدم التورط المباشر فى الأزمات المسلحة وإعادة التموضع في شرق آسيا. وبالتالي، تراهن دوائر صنع القرار في موسكو على أن الرئيس ترامب سيعمق المأزق الأميركي في ما يخص السياسات الخارجية ويؤدي إلى انكفاء واشنطن وتدهور علاقاتها مع حلفائها وخاصة الأوروبيين، ويعزز فرص الشعبويين في أوروبا والعالم. وبالتالي يقوّي حضور روسيا في المسرح العالمي. لا سيما أن مؤهلات ترامب المتواضعة في مجال السياسة وخبرته الضعيفة تخدم أهداف موسكو في إعادة طرح نفسها كمركز عالمي لصنع القرار، وعاصمة لإحدى القوتين النافذتين في العالم. ويسود اعتقاد في موسكو أن رغبة ترامب في انكفاء أميركا العالمي يعني تلقائياً إقرار واشنطن بتقاسم مناطق النفوذ مع موسكو على قاعدة التوافق معها من دون أخذ أي اعتبارات للأطراف الدولية والإقليمية الأضعف. ويذهب البعض إلى أن ترامب وبوتين قد يتوصلان إلى يالطا 2 من دون أي شركاء أوروبيين. كما أن وعود ترامب بإلغاء اتفاقية التجارة الحرّة عبر الأطلسي، والحدّ من توسّع الناتو شرقاً يضيّق خيارات أوروبا ويدفعها إلى طرق أبواب الكرملين، لفتح صفحة جديدة اقتصادية وسياسية مع موسكو، وفقاً لشروط تراعي المستجدات الدولية.

إلا أن تحسين العلاقات الأميركية الروسية ليست مجرد رغبة يعبّر عنها الرئيسان الروسي والأميركي فقط، وإنما تحتاج لموافقة دوائر القرار في الولايات المتحدة كما أكدت صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس الروسية. كما أنّ هنالك أسباباً عدة تعيق تحسين العلاقات الروسية الأميركية بشكل سريع، أولاً أن الحزب الجمهوري الحاكم في أميركا لا يشاطر ترامب الرأي ويريد تعزيز قوّة حلف الناتو، أما روسيا فتريد إضعافه، وثانياً أن غالبية الأحزاب الأميركية تخشى من تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط مع روسيا، وثالثاً أن الأميركيين يشجّعون على زيادة إنتاج النفط في الشرق الأوسط حتى تنخفض أسعاره في الأسواق، وهذا ما يشكّل هاجساً بالنسبة لروسيا التي تعتمد نصف ميزانيتها على واردات النفط والغاز.

لذلك، ففي الوقت الذي عوّل فيه كثيرون على إمكانية حدوث تغيّر سريع في السياسة الأميركية المعهودة تجاه روسيا، اتضح لاحقاً أن الأمور تدهورت إلى الأسوأ، خصوصاً بعدما استفحلت انقسامات الأحزاب الأميركية الداخلية، واعترى الإدارة الأميركية الجديدة المزيد من الضعف، ما أدّى إلى تبوّء أعداء موسكو مناصب عالية في عهد ترامب. فوزير الدفاع جيمس ميتيس يعتبر روسيا وبوتين «الخطر الجيوسياسي الرئيسي»، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو يستنكر تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. ومساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي السابق مايكل فلين كان صديقاً لموسكو، ولكنهم أجبروه على الاستقالة، وحلّ محلّه الجنرال هربرت ريموند ماكماستر الذي سمّى روسيا دولة «معادية وتحريفية»، أما فيونا هيل التي عيّنها ترامب مديرة البيت الأبيض لشؤون أوروبا وروسيا، فقد قالت «يجب على الغرب تعزيز دفاعاته وتقليص ضعفه الاقتصادي والسياسي ووضع الخطط لمواجهة الأزمات، لكي يتمكّن من مواجهة حرب بوتين في القرن الحادي والعشرين». وهذا ما دفع منظر الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر للقول إن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة قد تدهورت إلى أدنى مستوى لها خلال الخمسين سنة الأخيرة.

وبالتالي، هنالك إطار حاكم ومعقّد للعلاقات بين البلدين، وهذا الإطار يضع قيوداً على مستوى التطبيع بينهما في ظل تعارض مصالحهما في قضايا عدة مرتبطة بسباق التسلح والوجود العسكري الأميركي على حدود روسيا، وكذلك وضع الدولتين في النظام الدولي، حيث تسعى روسيا لتغيير النظام الأحادي الذي ساد بعد الحرب الباردة وإنهاء هيمنة الولايات المتحدة عليه وإيجاد نظام دولي متعدد القوى تكون روسيا أحد أقطابه، فيما تأبى الأحزاب الأميركية ذلك. كما يختلف الطرفان حول الملف النووي الإيراني، إذ يُعتبر التعاون النووي الروسي الإيراني من أهم مشاكل الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، حيث إن روسيا لا تدعم السياسة الأميركية التي تقوم على فرض عقوبات اقتصادية جديدة على إيران وعزلها سياسياً. وهذا ما يبقي الخلافات بين الدولتين قائمة حتى الآن. كما تستمر المنافسة بين الدولتين على مناطق النفوذ في أميركا اللاتينية، ومناطق أخرى في الشرق الأوسط وفي أوروبا والقارة الإفريقية وغيرها من مناطق العالم.

أضف إلى ما تقدّم، فبعدما تحوّلت الصين إلى أكبر اقتصاد عالمي ذي مجالات عديدة ومتنوعة، أدرك الروس أهمية الاستمرار في توطيد الشراكة الاستراتيجية التي بنوها مع الصين إبان أزمة أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليهم، وتبيّن لهم أنهم بقوة الصين باستطاعتهم الدخول إلى الساحة الدولية بشكل أكبر، فيما تنظر واشنطن بريبة إلى الزحف الصيني الروسي الجديد، وتسعى للحدّ من تبعاته.

إن استعراض ما تقدّم، كفيل بأن يؤكد بأن أي حل لمشاكل الشرق الأوسط لم يعد يُقرّر بإرادة منفردة من الدولة الامبريالية، وهذا ما أكدته صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا عندما قالت بأن الخارجية الأميركية ترفض الاعتراف بأن واشنطن فقدت الزعامة في الشرق الأوسط. أكثر من ذلك، فأوباما قال قبل عامين: «لا أريد أن نصبح بمثابة قوة جوية موضوعة في تصرف الدول الشرق الأوسطية، ولا قوة جوية للأكراد»، وتابع: «الراكبون المجانيون يغضبونني»، وذلك في إشارة منه إلى الدول العربية التي تريد من أميركا أن تقاتل بالنيابة عنها. وقد لحق ترامب بأوباما حينما قال: «لا يمكن لدول الشرق الأوسط أن تنتظر القوة الأميركية لتقاتل نيابة عنها»، ما يؤكد بأن أميركا لم تعد قادرة على التدخل العسكري المباشر في المنطقة، بل وغير راغبة فيه أيضاً، وبالتالي لم يعد لديها سوى خيار وحيد للمحافظة على مصالحها في الشرق الأوسط، ألا وهي الاعتماد على وكلاء، والدخول في إطار اتفاق شامل مع سائر القوى الدولية «لتقاسم النفوذ».

في الخلاصة، أمام ترامب وفريقه مهمة صعبة جدّاً، ألا وهي أن يُقنع الداخل الأميركي بأفول العصر الأميركي والقبول بقسمة ما تجنّبهم الدخول بحروب دولية، أيّ أننا أمام تغيّرات جوهرية في السياسة الأميركية الشرق الأوسطية، وستضطر أميركا عاجلاً أم آجلاً أن تتنازل عن مفاتيح المنطقة لآخرين، وها قد انطلقت الشرارة الأولى في منطقة الخليج العربي، من خلال ابتداء الصراع السعودي – القطري…

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى