«حلم الديمقراطية في زمن الإرهاب والتعصّب والفساد»

المستقبل الذي ننشده ونتوق إليه جميعاً، أن نحيا الحياة الكريمة اللائقة… أن نبني لأنفسنا ولأولادنا مجتمعاً حراً راقياً نحيا فيه بحرّية وكرامة ومساواة برعاية دولة عصرية ديمقراطية، هي دولة الحق والعدل والقانون والمؤسسات المعبّرة عن إرادة الشعب والساهرة على تحقيق مصالحه وتأمين عيشه ورفاهيته وسعادته في الحياة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: أين نحن من هذا الهدف الأسمى؟

إنّ الديمقراطية والإصلاح والحداثة والتغيير وغيرها من الشعارات البراقة التي تعد بإقامة مجتمع راقٍ تسود فيه قيم الحرّية والحق والعدالة والمساواة وينعم أبناؤه بالأمن والطمأنينة والسلام.. هذه الشعارات والقيم النبيلة أمست كلها أحلاماً بعيدة المنال في ظلّ تطورات الأحداث التي تشهدها بلادنا والتي تصبّ في خانة المشروع الصهيوني التاريخي المعادي لوجودنا وفي خانة القوى الإقليمية التي تسعى إلى تعزيز نفوذها وسطوتها واستعادة أمجاد من الماضي كما تصبّ في خانة القوى الدولية المتآمرة على أمتنا والتي تقود هذه الأحداث في اتجاهات الخراب والدمار والفوضى والتقسيم والتفتيت تحقيقاً لمنافعها ومصالحها الاستعمارية وتأميناً لسيطرتها على ثرواتنا الطبيعية وعلى العالم العربي ومحيطه.

نعم، إنّ الديمقراطية وبناء الدولة العصرية أمسيا حلماً بعيد المنال في ظلّ الغطرسة الأميركية وطغيان «الوحشية» و«البربرية» و«العنصرية» وانتشار التيارات السلفية التكفيرية والحركات الظلامية المتوحشة كـ«داعش» و«القاعدة» و«النصرة» و«جيش الإسلام» و«كتائب عبد الله عزّام» وغيرها من الجماعات التدميرية، المتطرفة، المدعومة من دول عربية رجعية وإقليمية معروفة وبإدارة أميركية متصهينة، والتي ترتكب الفظائع وتعبث في بلادنا نهباً ودماراً وإجراماً وتسير بها إلى الوراء، إلى ما قبل العصور الوسطى، إلى زمن المجتمع البدائي المتوحّش وظلامه الخانق.

الزمن الجاهلي

الديمقراطية هي حلم الكرامة لكلّ مواطن في الدولة وهي نظام عدالة وحرّية لكلّ المجتمع ولكن نحن الآن على مسافة بعيدة من هذا الحلم لأننا نعيش في زمن حالك لا عدل فيه ولا كرامة. هو زمن التكفير والسلفية والعصبيات الدينية، زمن الجهل والتخلّف والفساد والانحطاط، زمن الحقد والقتل والمجازر والحرب الكونية على سورية التاريخ والحضارة والهوية. إنه زمن البربرية والدمار والموت المحتم.

نحن الآن في زمن صعب لا يرحم نواجه فيه استعماراً عالمياً جديداً ومشروعاً صهيونياً استيطانياً عنصرياً معادياً يريد إلغاء وجودنا الحضاري والقضاء على هويتنا القومية ونواجه أيضاً ثقافة ظلامية متحجّرة تغزو مجتمعنا بدعم وفير حيث أنشأت لها المؤسسات والوسائل الإعلامية والفضائيات وصرفت الأموال الخليجية الطائلة لترويجها وللتحريض وتسويق الفتن فراحت هذه الثقافة الزائفة تتغلغل في شرايين مجتمعنا وتسري في دورة حياته الاجتماعية وتسيطر على عقول الجهلة والبسطاء، معتمدة أساليب الرعب والتخويف وقواعد البطش والغلبة والاستبداد. والغاية تفكيك مجتمعنا من داخله وتفتيته إلى كيانات متصارعة وخاضعة لمشيئة المستعمر وعنجهيته. هذه الثقافة الجاهلية الغازية هي ثقافة السيوف والخناجر والأحزمة الناسفة والقتل والموت، ثقافة التعصّب الديني الأعمى والفتاوى التكفيرية الحاقدة، ثقافة النبذ والإقصاء والكراهية المعادية للتنوع والإنفتاح وللتفاعل الاجتماعي والتقدّم الإنساني. هذه الثقافة البدائية المجرمة، التي تسترخص دم الإنسان وتؤلّه العنف والإرهاب وتشوّه النفس الإنسانية الجميلة، نرى مظاهرها في الارتكابات الفظيعة التي تقوم بها الجماعات التدميرية من قتل وذبح وسبي وتهجير وتدمير للمعالم الأثرية ولبنى المجتمع ولمنشآته الاقتصادية كما نراها في جرائم بقر البطون وقطع الأعناق وأكل الأكباد وتدمير الكنائس وترويع الناس وإيذائهم. إنها ثقافة منشغلة دائماً بصناعة الموت ومستغلة كل الوسائل لتدّمير وحدة مجتمعنا وتفتيته إلى كيانات وإمارات مذهبية وأثنية تشرعن قيام الدولة اليهودية وتتنافس في ما بينها على خدمة التحالف الأميركي ـ الصهيوني والانصياع إلى إملاءاته.

مجزرة حلبا

هذه الثقافة القبلية، العنفية، الحاقدة التي تسرّبت إلى مجتمعنا بتخطيط صهيوني ممنهج ومدروس شاهدنا أولى تجلياتها في مجازر عدّة ارتكبت خلال الحرب اللبنانية المؤلمة كمجازر الصفرا والسبت الأسود والكرنتينا وصبرا وشاتيلا والقاع وبيت ملات وكفرمتى وعينطورة وإهدن وغيرها من المجازر البشعة. وشاهدنا تجلّياتها أيضاً في السنوات الأخيرة في أحداث وعمليات تخريبية وانتحارية في لبنان ومن بينها مجزرة شنيعة ارتكبت في حلبا من قبل جماعات همجيّة فاقدة إنسانيتها ومشحونة بالحقد والتعصب نفّذت فعلها الإجرامي بتحريض وتوجيه من حفنة من المجرمين الخونة الذين باعوا أنفسهم للرجعية العربية المتصهينة وأصبحوا عبيداً للصهيونية وللغرب المعتدي على حقوقنا.

إنّ مجزرة حلبا القبيحة هي فعلٌ إجراميٌ إرهابيٌّ بامتيازٍ لا نجد له مثيلاً إلا في الإجرام الصهيونيّ ومجازره الإرهابية وهي مظهرٌ همجيٌّ من مظاهر الفكر التكفيري الجاهلي والثقافة الطائفيّة المعشعشة في النفوس والمولّدة سلوكيات التعصّب والحقد والتكفير والكراهية.

وأحد المحرّضين لهذه المجزرة الرهيبة الممتلئ حقداً ورياءً وتعصباً تباهى مؤخراً أمام الملأ بفعله الإجرامي وتطاول على المقاوميين والشرفاء معتقداً انه يقوم بعمل بطولي متجاهلاً للتاريخ وعبره. ولكن هذا المجرم الطائفي الحقير نسي أنّ العدالة لن ترحمه وإنه، مهما طال الزمن، سينال عقابه الحتمي إنصافاً للشهداء الأبطال وسيكون هذا هو القضاء والقدر.

ثقافة الفساد

وأحد تجليات الثقافة السلبية الزائفة التي تشكل حاجزاً منيعاً امام طموحات الشعب في الحياة اللائقة هي عقيدة الفساد المتأصلة في صلب نظامنا السياسي الطائفي والمستشرية في مجتمعنا الذي بات خالياً من قيمه وفضائله. فماذا نقول عن جرائم الفساد المنظّم التي تمنع قيام الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة القانون والمؤسسات التي تحمي المواطنين وحقوقهم وحرياتهم؟ هل نحدّثكم عن الفساد السياسي وعن المفسدين من جنرالات الحرب والميليشيات وأمراء السياسة والمال والطوائف وتقاسم النفوذ والمحاصصة في ما بينهم وسوء استخدامهم السلطة لمصالحهم الشخصية والعائلية والمذهبية؟ هل نحدّثكم عن قراصنة الفساد المالي والإداري والأخلاقي وعن هدرهم المال العام وسرقاتهم وإثرائهم اللامتناهي؟ أم نحدّثكم عن التوافقية على الحصص والمنافع بين المرجعيات الطوائفية والمذهبية والعشائرية وعن عبثها بمواد الدستور وأحكامه؟ الحديث عن الديمقراطية الكاذبة وعن لبنان المزرعة المسيّجة بأسوار الطائفية والإقطاعية والإنعزالية والمحروسة بالمافيات اللصوصية وبشياطين الفساد والإفساد الذين يستبيحون البلاد بجرائمهم قد يطول إذا ما أردنا ان نتطرق إلى عمليات التزوير والتهريب والاختلاس المالي المنظّم والمقونن وإلى المحسوبيات والهدر والفضائح في عدد من ملفات الغذاء والكهرباء والجمارك والنفايات والأدوية والمستشفيات والإنترنيت والمرافئ وغيرها من الملفات في كلّ مرافق الدولة ومفاصلها.

وللاختصار، نقول انّ السياسة اللبنانية برمّتها قائمة على الفساد. وهذا المرض المزمن أمسى ثقافة عامة وظاهرة مستفحلة تزيد في مديونية الدولة وتساهم في انحلالها وتقود المجتمع بأسره إلى الهلاك.

حلم الديمقراطية

حلم الديمقراطية لا يمكن ان يتحقق بوجود ظاهرة الفساد المدمّرة وبوجود كيانات طائفية منغلقة على بعضها تقيم الحواجز الروحية والاجتماعية ـ الحقوقية بين أبناء الشعب الواحد. فتسجنهم في معتقلات الخوف والتقوقع والانعزال وتولّد فيهم التطرف والاستعلاء والكراهية لذوات الآخرين من أبناء الطوائف الأخرى. فالطائفية من حيث هي شعورٌ بالتمايز عن الآخرين لا تؤمن بالديمقراطية الفعلية ولا تلتقي معها. فإحداهما تلغي الأخرى. أما الديمقراطية التي تعني التعبير عن إرادة الشعب فتقوم على العدل وسيادة القانون والمساواة في الحقوق والواجبات ولا تعرف التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو اللون.

لا يمكن مواجهة الثقافة الظلامية وكلّ أشكال الفساد بالإعلام المأجور وبالتحريض والخطابات الكاذبة. بل بالكلام العقلاني الصادق والأعمال المميّزة والنفسية المعطاء والمواجهة الفاعلة على كلّ الجبهات. نواجهها باالصراع والمقاومة والبطولة والتضحيات. ونواجهها بالفكر الراقي والثقافة الصحيحة القائمة على المحبة والتسامح والحوار والانفتاح والمرتكزة على العلم والمعرفة والعقول النيّرة، ثقافة التعمير والبناء والإنشاء، ثقافة الحياة الطامحة إلى الخلق والتفوق والإبداع والهادفة إلى قيامة المجتمع ورقيه وتحقيق الوعي فيه من خلال نهضة شاملة ومتواصلة نحو الأرقى والأجمل.

لسنا جماعة أقاويل وشعارات

نحن، أيها الحاضرون المحترمون، لسنا جماعة أحلام وتمنّيات بل جماعةٌ مدركةٌ واعيةٌ تؤمن بالأصالة والحداثة والعقلانية وبالعلوم وإنجازاتها وباعتماد مبدأ المعرفة النافعة وبالقيام بالأبحاث الاجتماعية العلمية لإصلاح ذاتنا ولنهوضنا المجتمعي فالتغيير لا يمكن ان يتحقق من دون فهم الواقع الإجتماعي وطبيعة علاقاته وأحواله ومشكلاته. «فالمجتمع معرفة والمعرفة قوة»، يقول سعاده، وهي سبيل بلوغ الغايات الإنسانية الأخلاقية الأعلى: الحرّية والعدالة والكرامة الإنسانية.

ونحن، ايها الحاضرون المحترمون، لسنا جماعة أقاويل وشعارات. بل جماعة عمل منظّم تؤمن بالعقل شرعاً أعلى وبالصراع المستمرّ من أجل حرّية الأمة وتقدّمها. نحن حركة صراع ضدّ الباطل والظلم والشر والفساد. حركة صراع بالمبادئ والقيم السامية التي نحمل وحركة قتال بدمائنا وأرواحانا و«لو لم نكن حركة صراع»، يقول سعاده، «لما كنا حركة على الإطلاق، لا تكون الحياة بدون صراع». ومن يرفض الصراع يرفض الحرّية ولا ينال إلا الذلّ والعبودية.

نحن نرفض حياة الذلّ وثقافة الهزيمة والتخاذل والاستسلام ونعشق حياة العزّ وثقافة العمل والبناء والإنتاج لأننا نفهم الحياة حقاً وخيراً وجمالاً وإبداعاً. نحن نؤمن بالبطولة المؤمنة والتضحية بإخلاص وبثقافة المقاومة بكلّ أشكالها لأعداء الوطن والشعب لأننا أبناء الحياة الجديدة، أبناء النهضة القومية الخلاقة التي «تحارب في جميع الجهات، لأنّ حربها هي حرب عزّ لهذه الأمة».

علّة الأمة: الطائفية

نحن آمنّا مع سعاده بحقيقة هذه الأمة وبمواهبها وقدرتها على النهوض وتعلّمنا منه سياسة الحقّ والصدق والصراحة لهذا الشعب، وهي سياسة تعليمه وإفهامه حقيقة وضعه وتأخره، حقيقة أسباب انحطاط الأمة، وعلّة شقائها. وعلّة العلل هي الطائفية التي تعطّل وحدة المجتمع بكونها مرضٌ سرطانيٌ قاتلٌ وشرٌ تفتيتيّ يعمي بصيرة الأمة ويفكّك جسمها الاجتماعي. وتعلّمنا من سعاده أن نرفض سياسة الثعلبة والتكاذب والنفاق وألّا نستهزئ بأماني الشعب وآماله. يقول سعاده: «نحن لا نستهزئ، ولا ندوس أماني الشعب بأقدامنا، بل نرفعها على هامنا ونبذل دماءنا ونفوسنا في تحقيق أماني الشعب».

بهذه المناقب الجديدة نحن نعمل للتغيير ونعتبر أنّ الإصلاح مطلباً ضرورياً وحاجة ملحّة في كلّ شأن من شؤون حياتنا القومية ولا يمكن لأيّ عاقل أن يتنكّر له أو يتغاضى عنه. فكيف يمكننا أن نعالج أزماتنا السياسية ومشاكلنا الاقتصادية وأمراضنا الاجتماعية إنْ لم نبادر إلى إجراء إصلاحات جذرية تعتمد الحلول العلمية وتؤدّي إلى اجتثاث الطائفية وإسقاط النظام الفاسد الذي يشرعن الامتيازات الطائفية ولا ينتج إلا الحروب الأهلية والويلات، والذي يحتضن الخيانة ورموزها ويسمح بالتآمر على نهج المقاومة ويحاكم من يجسّد هذا النهج أمثال البطلين القوميين الأمينين نبيل العلم وحبيب الشرتوني اللذين سحقا المشروع «الإسرائيلي» في لبنان؟

كيف لنا أن نواجه الموجات السلفية والتكفيرية التي بجرائمها وأفكارها شوّهت الدين والنفس السورية الجميلة والقيم السامية في حياتنا. وكيف لنا أن نواجه الأطماع الصهيونية في سرقة نفطنا ومياهنا ومواردنا وفي ابتلاع وطننا بأكمله ما لم نباشر بإصلاح مجتمعنا وإخراجه من مستنقع الانحطاط والتقهقر وتحصينه بثقافة البناء والتجديد وبالوعي القومي الصحيح الذي يؤسّس لوحدته وبعث فضائله النبيلة.

نحن لا نطلب الإصلاح من الخارج، من الغرب الاستعماري الكاذب والفاقد وجدانه الإنساني ومن أميركا بالتحديد التي تتبجّح بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريّات، ولكنها تدعم دولة الاغتصاب الصهيوني العنصري وأنظمة الاستبداد والديكتاتورية والرجعية والفساد التابعة لها، وتحارب القوى النهضوية والأنظمة الوطنية الرافضة هيمنتها والداعمة للمقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني، وتنشر الفوضى الهدّامة وجراثيم التخريب في العالم وتفتعل الفتن والحروب وترعى الإرهاب تحقيقاً لمصالحها الاستعمارية وطمعاً بالهيمنة على العالم والسيطرة على موارد الأمم.

ونحن لا ننتظر أن يهبط الإصلاح علينا من السماء أو من عالم الغيب أو أن يأتي بوساطة الدكاكين السياسية والعائلية وحرّاس هذا النظام المتخلّف: مجموعة الذئاب الطائفية والإقطاعية المرتهنة للإرادات الخارجية والتي تأكل حقوق الناس والضعفاء ولا تكفّ عن استغلال الشعب بطرق التجهيل والتخويف والتجويع وبسياسات الإذلال والتسلط وقمع الحرّيات.

ونحن لا نرى الإصلاح حاصلاً بالأحلام والتمنيات وبتغيير المجالس والحكومات ولا نراه متحققاً بالجعجعة والبهورات السخيفة وبرفع الشعارات الزائفة وتحريك العصبيات المذهبية ولا باعتماد الحلول الارتجالية الترقيعية والقوانين الطائفية وغيرها من المسكّنات. بل نراه نابعاً من ذواتنا بالعقل والإيمان، بالإدراك والإبداع، بالإرادة الفاعلة والبطولة المؤمنة، بالتخطيط البديع والرؤية الواضحة، وببناء النفوس بناءً جديداً في المعرفة الفاضلة والعقيدة الصالحة والمناقب الجديدة التي تزرع الفضائل النبيلة وتؤسّس حياة جديدة للأمة فيها الخير والبحبوحة والمحبة والمثل العليا والجمال.

إنّ الإصلاح الفعلي لا يكون بالتأويل البغيض وتحريك العصبيات المذهبية والدفاع عن حقوق هذه الطائفة أو تلك، بل يكون بتوليد الروح الوطنية واعتماد القوانين العصرية والتشريعات المدنية وتأمين حقوق الشعب بكلّ فئاته وشرائحه الاجتماعية، خصوصاً الفقراء والمحرومين والمسحوقين بالظلم والجوع والبطالة والحرمان. وهذا الإصلاح يحتاج إلى إرادة الوطنيين والقوميين وكلّ التيارات والتنظيمات والأحزاب العلمانية وكلّ قوى المجتمع الحيّة التوّاقة إلى الأفضل لتتعاون معاً ومع رئيس الجمهورية من أجل تعميم ثقافة الحوار الديمقراطي وبلورة مشروع جدّي وشامل للتغيير والإصلاح يساهم في تفكيك النظام الطائفي الفاسد ويهيّئ الأسباب والظروف الكافية لقيام الدولة الديمقراطية العصرية.

وهذه الظروف لا تتهيّأ من دون استنهاض المجتمع وبعث فضائله وقيمه الوطنية والجمالية، ومن دون مواجهة المفاسد والمثالب الأخلاقية والثقافات الانهزامية الزائفة والمدمّرة لحياتنا، والتي تنخر في جسد الأمة وتزّيف حقيقة نفسيتها الأصلية وتفسد عقول الأفراد والشباب وتغرّر بهم فيندفعوا إلى حضيض المثل السفلى في خدمة القضايا الخسيسة والتشكيلات الطائفية.

إنّ إصلاح المجتمع الجدّي يستوجب منّا أن نستثمر في التربية القومية الصحيحة بواسطة المؤسّسات الجديدة النابضة بالحياة وأن نباشر بإعداد أجيال واعية متسلّحة بالعلم والأخلاق والوجدان. أجيال تدرك معنى الحرّية والكرامة والاستقلال فلا تتأثر بالثقافات الغربية والظلامية الممنهجة ضدّ أمتنا بل ترتبط بهموم مجتمعنا وبحاجاته ومصالحه، وتعمل بناءً وإنتاجاً وإبداعاً لخير الأمة وتقدمها.

الإصلاح الحقيقي لا يتحقّق وفق المصالح الانتخابية لهذا الزعيم أو ذاك ولا يتحقق بمراعاة الأوزان الطائفية والمذهبية والقوى الإقطاعية والعشائرية والعائلات النافذة التي تكبّل مفهوم الدولة وتقتات من حضورها. بل يتحقق، أولاً، بفصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة والقضاء القوميين، ويتحقق، ثانياً، بالاعتماد على فكرة الشعب ووحدة المجتمع والانتماء إليه وعلى فكرة المواطَنة والمساواة بين جميع المواطنين من دون تمييز.

إنّ الإصلاح يعني الصلاح فكراً وعملاً وقيادة واعية ومؤهّلة تحوز على ثقة الشعب وتأييده ولا يكون إصلاحاً حقيقياً إلا باعتماده على الوضوح والأخلاق والتنوير ونشر قيم الحداثة والعقلانية والثقافة الهادية والمبادئ النهضوية الصالحة التي تقدّم الأسس الواضحة لقيام الأمة من قبر التاريخ ولبناء دولتها الديمقراطية العصرية التي تهتمّ بمصالح الشعب وحاجاته وبأهدافه السامية في الحياة.

وباختصار، نقول إنّ الإصلاح الحقيقي هو عمل نهضوي شاملٌ وواضحٌ يعتمد على التخطيط السليم وقوة الإبداع والعقل الواعي والفاعل. وغايته إصلاح العلّة في أهلها وإيصال الشعب إلى خيره وتمكينه من تحقيق تطلعاته ومثله العليا. وهذا الإصلاح لا يمكن ان يتحقّق على أيدي الانتهازيين والنفعيين والفاسدين المراوغين. فإصلاح هؤلاء هو إصلاح شكليّ وترقيعيّ عقيم، وإصلاح وصوليّ تدجيليّ قائم على النفاق والخداع والمنفعة لأنّ غايته إبقاء القديم على قِدمه. أما الإصلاح الحقيقي فلا يحققه إلا المصلحون الأخلاقيون، المصارعون، الذين آمنوا بمناقب جديدة كفيلة بإنقاذ المجتمع من فساده وانحطاطه. فهؤلا هم الصالحون الصادقون الذين آمنوا بالشعب وراحوا يناضلون ويواجهون الظلم والطغيان والاحتلالات ويتعرّضون للاعتقالات والسجون والخطف والاغتيالات، ويتسابقون للشهادة من أجل الدفاع عن هذا الشعب وكرامته القومية ومن أجل تحقيق الغايات السامية وإقامة الدولة الديمقراطية الحديثة، التي توفّر الخير والعزّ والازدهار لجميع أبنائها.

الديمقراطية الحقّة ستبقى حلماً بعيد المنال إذا تقاعسنا عن واجباتنا وتخلّينا عن مسؤولياتنا. أما نحن، القوميين الاجتماعيين، ومعنا شرفاء الأمة من المقاومين الأحرار في كلّ أرجاء الوطن السوري، وخصوصاً في شام الصمود بجيشها البطل وقيادتها الشجاعة وفي لبنان المقاوم رئيساً وجيشاً ومقاومة سنحبط أهداف هذه الحرب الاستعمارية ـ الإرهابية على بلادنا، ولن نسمح أن يتحوّل وطننا إلى جحيم بفضل ممارسات المعتدين الظالمين واستفحال الفساد والتعصب والإجرام الهمجي. بل سنرفع مداميك هذا الوطن الجميل وسنبني قصور الحبّ والأمل والجمال والإبداع بإيماننا وعزيمتنا، بصدق التزامنا ومحبتنا القومية لشعبنا، بنفوسنا الجميلة المتفوّقة والقادرة على التغلب على كلّ ما يعترض طريقها إلى الفلاح. سنحوّل وطننا إلى نعيمٍ بالمقاومة والتضحية والبطولات. بوقفات العزّ وملاحم الاستشهاديين وبدماء المقاومين من نسور الزوبعة الظافرين وكلّ المقاومين الأحرار الذين يتصدّون للإرهابيين المجرمين، ويروون بدمائهم الزكية أرضنا الطيبة لتنبت شقائق حرّية وخير وحقّ وجمال.

محاضرة ألقاها عضو المجلس القومي في الحزب السوري القومي الاجتماعي الدكتور إدمون ملحم، في ندوة أقيمت في قاعة مكتب منفذية ملبورن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى