«الهايكو»… شهادات ما بين النشأة والواقع المكتوب!

سميّة تكجي

تمرّ خاطفة كلمح البرق، رشيقة الخطى، كمسافة بين أن تشهق ثم تزفر، بسيطة الثوب لكن العمق في ما استتر. لا مساحيق تلوّن وجنتيها، لكنها بشدّة تجذب إليها النظر، ترتجل اللحظة، الطفلة في الطبيعة والفصول والزهور والمطر.

هذه السطور أعلاه ليست مهداة إلى امرأة مختلفة تثير الفضول والدهشة، بل مهداة إلى قصيدة الهايكو المختلفة.

إذا توخّينا الاختصار في معرض تعريفنا عن الهايكو، تكفينا ثلاث كلمات: «حكمة، عمق، بساطة». أما إذا ارتأينا الإشباع فيلزمنا المدى كله.

«بكلّ بساطة هو ما يحصل في هذا المكان وفي هذه اللحظة»، هكذا عرّف الشاعر الياباني ماتسو باشو الهايكو… وهو المعلّم الأول للهايكو بلا منازع. لكن هذا الجواب يثير الفضول والغموض أكثر مما يروي ظمأ المعرفة. قد يكون كذلك لأن الهايكيست ماتسو كان يعيش الهايكو بقدر ما يكتبه.

بات من المعروف أن الهايكو ذو أصول يابانية، وفي الوقت نفسه يحمل جذوراً ممتدة في البوذية والطاوية، تغذّى بحبله السرّي من اليابان ولكن الشعوب الأخرى وخاصة في الأميركيتين افتتنوا به فطوّعوه وطوّروه من دون أن يفقد كثيراً من مزاياه الجمالية وخصائصه اليابانية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، سوف نستعرض بعض التجارب الجديرة بالمقاربة.

في أميركا اللاتينية الكاتب والشاعر المكسيكي أوكتافيو باث OCTAVIO PAZ 1914-1998 الذي كتب الهايكو محاكاة للتجربة اليابانية وجعل منها منظومة للأسئلة والبحث المستمر، من دون إعطاء نتائج تتحول إلى عقائد جامدة، وهو السريالي دائم القلق والغوص في عمق الذاكرة. كما اشتهر في هذا الشكل من القصيدة الشاعران أنطونيو ماتشادو وخورخيس لويس بورغيس.

أما في بلاد العم سام، فثمة اسم ذاع صيته ولقّب بـ«سيّد الهايكو»، وهو الشاعر جاك كيرواك الذي سعى إلى أمركة الهايكو حيث مزج بين مثالية اليابانيّ وثقافة بلده. وقد خرج عن القواعد الكلاسيكية للهايكو الياباني، لدرجة أنه قال ذات مرّة: « قرّرت أن أدعو الهايكو بِاسم البوب».

أما على الساحة العربية، فقد ظلّ الهايكو يفد إليها عبر الترجمات وبلغة وسيطة هي الإنكليزية على الأغلب، إلى أن صدر كتاب «ألف هايكو وهايكو» عن «دار التكوين» في دمشق ـ سورية، مباشرة عن اللغة اليابانية. ولقد اشتهرت أسماء كثيرة في عدّة بلدان، وأسست روابط ونواد من أجل النهوض بهذا الفن ورفده با صول العربية في العراق ولبنان وسورية والأردن وفلسطين وغيرها. وليس على سبيل الحصر نذكر الدكتور رامز طويلة من سورية الذي يعتبر أحد أعمدة الهايكو العربي، وكذلك الشاعر الفلسطيني محمد الأسعد الذي ساهم في ترجمته، وكذلك خاض تجربة الهايكو وأبدع فيها.

أما إذا تأملنا في اللغة العربية بشدّة توترها ومرونتها وثرائها وقدرة تعبيرها عن أدقّ التفاصيل، وبين الهايكو الذي يرتجل اللحظة ليصوّر المشهد في سطور ثلاثة وسبعة عشر مقطعاً صوتياً، وإذا تفكّرنا بما يحصل في بلداننا العربية من مكابدة وعناء ومِحن، كيف بالإمكان التعبير «هايكوياً» إذا صحّ التعبير وبمفارقة الثنائيات المتعاكسة أو المتقابلة؟

الفناء والبقاء، الظاهر والمتواري، المتحرّك والثابت… فإننا نستشفّ ممّا سبق أنّ خطى الهايكو العربي سوف ترسم طريقه لأن الشعوب على اختلاف ثقافاتها، تنشد الخلاص والسلام الداخلي، وكذلك الطبيعة التي تشكّل كتباً مفتوحة للهايكو، هي أيضاً أمّ لكلّ الشعوب.

التجربة اللبنانية في الهايكو اللبناني

لا نستطيع أن نقترب من تجربة الهايكو في اللبناني من دون أن نأتي على ذكر الفنان المتكامل عبد الحليم حمّود رئيس جمعية «حواس»، الذي يمسك بناصية الشعر ويكتبه مختزلاً كالنبيذ ويتقن الكتابة التي تبحث في ما وراء الواقع والرسم الذي يوحي بسلطة اللون وفنّ الصورة التي تنقل اللحظة. وهو حيث حطّ أبدع في ابتكار أبجديات جديدة في هذه الفنون وارتقى بها. وما أشبه كل هذا الكون بذرة الهايكو المختزلة.

ولقد وقفنا عند شهادة العارف بهذا الإبداع، وسألناه: متى كتبت الهايكو وما هو مصدر دافعيتك؟ فيجيب: لقد سلك الهايكو طريقه إليّ قبل أن أتعرّف إليه في مجموعتي «كوكتيل» 2005 التي تضمّ قصائد قصيرة خاطفة، متأثراً بفنّ الكاريكاتير الذي أستهويه وأخوض جولاته وصولاته معتمداً على الاختزال وإصابة الهدف بأقصر السبل كما يقتضي هذا الفنّ.

وعن تجربته في الهايكو وكيف عُزّزت علاقته به يقول: لقد سمعت المصطلح للمرّة الأولى من الناقد زهير غانم الذي كتب عن ديواني في جريدة «اللواء»، وشبّه قصيدتي بقصيدة الهايكو، ما حرّك فضولي للمعرفة والغوص في هذا الشكل من الشعر، فقرأت الترجمات والدراسات والمقابلات العالمية لروّاد هذا الفنّ، وأصدرت ديواناً يحمل الاسم نفسه «هايكو». وكثيرون من الزملاء تعرّفوا إلى هذا الشعر من خلال تجربتي. ولقد حاضرت عن الهايكو في مناسبات ومؤتمرات ثقافية كثيرة.

وعن جديده في هذا الحقل يقول حمّود: مستمرّ، وستكون لنا إصدارات جديدة وستكون لجمعية «حواس» وقفات مع هذا الفن الأدبي.

بعض نصوص من كتابه «هايكو»:

لا تهربي بعيدا ً

أنا أيضاً هناك

تحت المطر

كلّ ما علينا مبلّل

إلا الزمن في ساعات

غيابك كالشمس

يجرّ ذيلاً من ذهب

كي لا يلاحقنا أحد

تتكفّل قطرات المطر

بمحو خطواتنا.

وكذلك، وقفنا على رأي الشاعرة والإعلامية باسكال صوما، التي خاضت ميادين كثيرة ومناهل معرفية وفنّية، اخترعت أبجدية مختلفة وارتقت صعوداً على عتباتها للوصول إلى الهايكو. وأثبتت حضورها على الساحة الثقافية وعن تجربتها تقول: نحن في زمن مستعجل وناسه مستعجلون، ربما يكون الهايكو أقرب إلى الزمن. كلّ نصّ شعريّ طويل سيتحوّل أكثره إلى ثرثرة أو رصف كلام، وأنا لا أميل إلى المطوّلات والثرثرة لذلك أجد أنّ الهايكو يشبهني.

وعمّا يعني الهايكو بالنسبة إليها تقول: أن تترك القصيدة تلمع بذاتها، من دون محفّزات ولا مقدّمات. وهناك مَن يسيء إلى الهايكو عبر تكثيف القصيدة وتحويلها إلى كلمات متراكمة من دون معانٍ ورؤى، ومن دون جمالية.

بعض نصوص للشاعرة باسكال:

ذات مرّة

ذهبت الوردة

وأخذت معها الحديقة كلّها.

الآن ننام مرتاحي الضمير

أنت بنصف قلبي

وأنا بلا النصف الآخر.

حسناً أيها الشارع الفارغ

في ذهابي وإيابي

أنا أيضاً فارغة في الحالتين.

أما الشاعرة لميس حسّون، التي نالت الماجستير في الأدب في الولايات المتحدة الأميركية، وقرأت الهايكو لروّاده الكبار، وأصدرت ديوانها «بتلات ملوّنة قبل الضوع بقليل» الذي نال مطالعات عدّة، فقد أثبتت كفاءة في إكساب قصيدتها الطابع الاختزالي مع ضوء خاطف لاكتناز اللحظة الجمالية. وكأن قصيدتها كأس من السطر الأول يرويك ثم يعود ليتركك ظمآنَ على عتبة الدهشة والأسئلة في السطر الأخير.

عن تجربتها مع الهايكو تقول: أنا أميل إلى التأمّل والتعمّق في الأشياء والأمور وتحويلها إلى أرواح تتحرّك. ولا أخوض الهايكو من باب التقليد بل من باب المساهمة في النهوض بالهايكو وإكسابه جمالية اللغة العربية.

بعض من نصوص الشاعرة لميس:

على جذع الشجرة

اسمه جرح

لم يلتئم بعد.

قلبها تماماً

كثوب زفافها

معلّق للذكرى.

رصاصة طائشة

في الدير

ترشح الخابية زيتاً.

ثمّة أسئلة ما زالت أجوبتها موضوع خلاف بين روّاد الإبداع: هل يجب أن يكون الهايكيست شاعراً في الأصل؟ كيف ستتبلور تجربة الهايكو العربي؟ هل ستأفل؟ أم سيتكاثر الهايكو على حساب المدارس الشعرية الأخرى؟ ومن سيستحقّ لقب هايكيست؟

الزمن هو أعدل القضاة.

كاتبة وشاعرة لبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى