من النظام الأكثري المبرقع بالطائفية إلى النظام الأكثري المقنّع بالنسبية
د. عصام نعمان
عرّف الكاتب والناقد السياسي الراحل منح الصلح لبنان بأنه بلد الطوائف والوظائف والمصايف. لو بقي حيّاً إلى أيامنا لكان اضاف المصارف الى تعريفه الطريف. أسوأ هذه العناصر الطوائف ونتاجها السامّ: الطائفية وما ينبثق منها من قوانين وأنظمة وتدابير يُقال دائماً بشأنها للناس إنها مؤقتة. والحال ان لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي لا شيء فيه دائماً إلا المؤقت. كل ما في لبنان مؤقت أو انتقالي ولا يبقى دائماً إلاّ وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
قانون الانتخاب جرى وضعه في عهد الانتداب الفرنسي منذ نحو قرن، وما زال نافذاً، مع تعديلات طفيفة، حتى الوقت الحاضر، وهو يعتمد نظام الانتخاب الأكثري الذي أدّى إلى إعادة إنتاج النظام الطوائفي الكونفدرالي وتكريس تناوب عائلات وزعامات معدودة على السلطة في شبكة حاكمة شبه أبدية.
محاولات إصلاحية متعدّدة جرت، منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي، لإصلاح النظام السياسي باعتماد نظام التمثيل النسبي في قانون الانتخاب لتجديد القيادات والسياسات، لكن دونما جدوى.
أولى المحاولات الجدّية باشرتها الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط العام 1975 وآخرها ائتلاف الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية خلال مؤتمر الطائف 1989 وبعده، ولاسيما عقب انتخابات العام 2009 التي كرّست انقسام أهل النظام بين جماعة 8 آذار وجماعة 14 آذار المحافظتين.
إزاء اشتداد الدعوة وبالتالي المطالبة باعتماد النسبية في قانون الانتخاب، توافقت الأطراف المشاركة في حكومة نجيب ميقاتي الائتلافية على اعتماد صيغةٍ لقانون الانتخاب مستقاة من تقريرٍ للجنة إصلاحية عُرفت باسم لجنة فؤاد بطرس كانت اعتمدت في توصياتها نظام التمثيل النسبي على اساس 13 دائرة انتخابية.
رغم إحالة مشروع حكومة ميقاتي على مجلس النواب العام 2012، فإن تضارب مصالح أهل النظام وصراعاتهم حالت دون مناقشته وإقراره، فكان من شأن انتخابات العام 2009 المجراة على اساس ما عُرف باسم «قانون الستين» الأكثري المعدّل ان اورثت فراغاً في العمل التشريعي دام، بين تقطّع وتواصل، أكثر من اربع سنوات، كما اورثت شللاً في عمل الحكومة لمدة مماثلة، وحالت تالياً دون انتخاب خلف لرئيس الجمهورية ميشال سليمان دام نحو سنة ونصف السنة.
إزاء إفلاس أهل النظام وتردّي احوال البلاد والعباد، اشتدت حملات المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فكان ان اجتمع في اسطنبول صيفَ العام 2016 جبران باسيل، ممثلاً رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، ونادر الحريري ممثلاً رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري واتفقا على تسويةٍ للخروج من الأزمة قوامها انتخاب عون رئيساً للجمهورية وتسمية الحريري رئيساً للحكومة، كما اتفقا على جملة أمور أخرى بينها صيغة جديدة لقانون الانتخاب.
تمّ بالفعل انتخاب العماد عون رئيساً في خريف العام الماضي، لكن تعذّر تسويق الصيغة التي اتفقا عليها لقانون الانتخاب العتيد ما استوجب عقد اجتماعات متعددة واندلاع صراعات محمومة قبل ان يتوصل الأطراف المتصارعون الى صيغة توافقية جرى اعتمادها اخيراً في مجلس الوزراء وإقرارها في مجلس النواب.
ايّاً ما سيكون مصير قانون الانتخاب الجديد بعد وضعه موضع التنفيذ في الانتخابات المقبلة، فإن ثمة ملاحظات خمساً أساسية يقتضي بيانها:
أُولاها، انه ينطوي على نواقص قيل إنه سيصار الى سدّها ؟ وعلى وعود سيصار الى تنفيذها في المستقبل ما يعزّز المقولة الشائعة ان ما من شيء دائم في لبنان إلاّ المؤقت او الانتقالي حتى لو طال أمد الانتقال.
ثانيتها، ان الطائفية المشكو منها جرى تكريسها بل تعميقها بتقسيم البلاد الى 15 دائرة انتخابية، وذلك بضم اقضية مناطق ذات لون طائفي او مذهبي صافٍ او غالب لتكوين دوائر تؤمّن مصالح هذا الحزب ذي اللون المذهبي الغالب او ذاك او هذا الزعيم ذي القاعدة المذهبية الغالبة او ذاك. ولعل في تقسيم بيروت الى دائرتين، واحدة شرقية مسيحية وأخرى غربية مسلمة يخفي احتمالاً ماثلاً لإمكانية إعادة تفجير الحرب الأهلية.
ثالثتها، إنها حرمت من التمثيل ما يمكن اعتبارها أكبر طائفة في لبنان وهي «طائفة» او بالأحرى جماعة اللاطائفيين وذلك بالامتناع، قصداً وعمداً، عن تنفيذ المادة 22 من الدستور التي تنصّ على انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي، كما بامتناعها عن اعتماد أهم مقتضيات النسبية الديمقراطية وهي الدائرة الوطنية الواحدة التي تمكّن الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية اللاطائفية من خوض الانتخابات والفوز بمقاعد من خلال تمكين أنصارها الموزعين في جميع انحاء البلاد، وليس في دائرة واحدة من الدوائر الـ 15 المقررة، من التصويت للائحتها الانتخابية الموحّدة.
رابعتها، إنها حصرت الصوت التفضيلي الممكن إعطاؤه لواحد من المرشحين في اللائحة الواحدة في القضاء وليس في الدائرة المكّونة من عدة أقضية الامر الذي يعود بالانتخابات الى مساوئ النظام الأكثري الإقصائي، سيما وان 8 دوائر من اصل 15 مؤلفة من قضاء واحد او نصف قضاء كدائرتي بيروت الأولى والثانية.
خامستها، عدم المساواة في تقسيم الدوائر، ذلك ان بعضها ينطوي على 13 او 10 مقاعد وبعضها الآخر على 6 او 5 مقاعد ما يعني أن بعض الناخبين يستطيع انتخاب عشرة نواب في حين أن بعضهم الآخر لا يستطيع أن ينتخب إلاّ خمسة الأمر الذي يخالف المادة 7 من الدستور التي تنصّ على مساواة اللبنانيين لدى القانون.
فوق ذلك كله، ينطوي قانون الانتخاب الجديد على ثغرات ونواقص عدّة أبرزها حرمان المواطنين ممن بلغوا سن الرشد الثامنة عشرة من حق الانتخاب، وعدم تخصيص المرأة بكوتا عدد محدد من المقاعد ، وعدم تخصيص المغتربين بكوتا مماثلة.
باختصار، ما زال بمقدور اهل النظام السياسي المترهل إعادة إنتاجه ومنع تجديد القيادات والسياسات. ولعل الدليل الدامغ على ذلك قيامهم، من خلال صيغة قانون الانتخاب الجديد، بإبدال نظام التمثيل الأكثري المبرقع بالطائفية والمحاصصة بآخر من الطراز نفسه مقنّع بمستحضرات نسبيةٍ تجميلية باهتة وعاجزة عن إخفاء القباحة النافرة.