السفارة الأميركية في بيروت: هل هو الحياد؟
روزانا رمّال
بعد انتهاء المكابرة «داخلياً» والانضواء ضمن التغيير الواضح المعالم في لبنان والمنسجم مع أحداث المنطقة وتداعياتها عليه، يصبح السؤال حول نشاط السفارة الأميركية في بيروت مشروعاً بعد أن اعتاد اللبنانيون على دورها النافذ فيه منذ عام 2005 حتى باتت ثورة الأرز أحد عناوين السفارة الأميركية وأحد أبرز هموم الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش الذي كان يُفرد مساحة هامة من خطاباته لتناول الثورة في لبنان.
وعلى هذا الأساس تبين ان اولى «ثورات الربيع العربي» كانت قد حطت رحالها بعد بغداد في بيروت، إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وكانت إحدى ابرز الثورات الناجحة من دون شك، فقد انقلب المشهد في البلاد تدريجياً وصارت ساحات الخلاف العمودي بين الثامن والرابع عشر من آذار سيدة المواقف، حتى خرجت سورية بقرار أميركي تماماً كما كان قرار الدخول. وهو الأمر الذي كان قد نوقش في دمشق قبل صدور القرار 1559 الذي حرص على تنفيذه المبعوث الأممي تيري رود لارسن.
لكن ثورة الارز الأميركية في بيروت لم تلفظ انفاسها الأخيرة إلا بعد تحصين موقع النظام السوري في دمشق من جديد، وبعد أن بدأ يستعيد أنفاسه برفقة الحلفاء الذين قرروا عدم ترك سورية مهما كلف الأمر. وهو خطاب موحد بدا أنه خيار لا جدال فيه اما بالنسبة لحزب الله ودخوله سورية وهو بيت قصيد التغيير في لبنان. فإن هذا الموقف الذي جاء بلسان أمينه العام في وقت مبكر من الازمة السورية كان تأكيداً على مصيرية المرحلة وخطورتها. فنصرالله قال ذات يوم حول مسألة نشاط الحزب العسكري المتمرس في سورية «لو طلب الأمر أن أذهب شخصياً لسورية فسأذهب». وهو الكلام الذي استتبعه تأكيد روسي وإيراني ترجم بعاصفة السوخوي ودخول قوات إيرانية الميدان السوري.
الرابط بين الثورة السورية والثورة اللبنانية هو العنصر الأميركي الذي أدرك استحالة فصل المسار والمصير هذه المرة عكس ما كان مفترضاً أن يكون ليصبح السؤال اليوم أين هي الولايات المتحدة من لبنان؟ وأين هي من حماية الثورة بعد إقرار قانون للانتخابات سيقلب الموازين ويُخفي الأكثريات ويخلط الأوراق؟
ليس عادياً أن تغيب السفارة الأميركية عن المشهد المحلي وهي ليست «قاصراً»، في ما يتعلق بتخصيص سفراء يجيدون اللعبة المحلية أو أولئك الذين يصنفون سريعي «البديهة» والفطنة من ذوات الخبرة الشرق اوسطية كالسفير جيفري فيلتمان. لهذا السبب فإن الغياب الأميركي الذي استتبع غياباً غربياً ليس إلا رسالة واضحة المعالم محلياً ودولياً بما يتعلق بالملف اللبناني.
يؤكد مصدر مطلع لـ«البناء» على حركة السفارة الأميركية «تحت الظل» بالهدوء والاتزان المطلوب الذي لا يتنافى مع مرحلة النأي بالنفس. وهي أول من طلبها الأميركيون من لبنان لا كما بدا أنه طلب خليجي سعودي. ومنذ ذلك الوقت كان تعاطي واشنطن مع الملف اللبناني بحذر. وقد تجسد بالمرحلة التي قرر حزب الله المشاركة العسكرية في سورية ويتابع المصدر « تعرف واشنطن جيداً أن لمشاركة حزب الله بالحرب السورية تداعيات ودلالات على مستوى الحلف الذي يربطه بإيران ومن خلفها روسيا. وهو تابع نشاطه في سورية وتقدّم النظام بما رتب عليه الوقوف عند الأمر الواقع في بيروت. وهنا تبرز قدرة حزب الله على تجيير انتصاره السوري في فرض مرشح رئاسي وقانون للانتخاب كملفات عالقة لما كانت أن تصبح واقعاً بالنسبة للأميركيين لو ان الروس لم يتقدموا نحو سورية ويعطوا النظام زخم الصمود. ويختم المصدر لـ«البناء» ما من شك في أن الادارة الأميركية تتعاطى بحذر مع الملف اللبناني تماماً، كما تتعاطى مع ملف العقوبات على حزب الله وإمكانية رفعها او التحكم فيها من بوابة علاقة حزب الله وحركة امل من جهة، ومن بوابة الرسائل الأميركية الجديدة تجاه ايران ليبقى الأهم ان واشنطن تتعاطى بواقعية تامة مع بيروت. وهي أوعزت لسفرائها الابتعاد عن الحضور النافر او المنفّر منذ ما قبل قدوم السفيرة الحالية اليزابيث ريتشارد أي منذ مرحلة السفير دايفيد هيل التي وصفت بتواضعها نسبة لمراحل سابقة.
يؤكد التوصل لقانون انتخابي جديد بعيداً عن التدخلات الخارجية إلى أن القوى الكبرى باتت تدرك أن مستوى التأثير في هذه المرحلة لم يعد كما كان عليه. فالتوازنات الإقليمية تغيّرت منذ قررت موسكو أن تلعب الدور الأكبر في رسمها وإن أي فرصة ضغط كقوة أمر واقع لم تعد متوفرة اليوم كما كانت متوفرة لحظة اغتيال الحريري وحماوة الدم والقدرة على استغلالها كأحد شروط التغيير، عدا عن ان الثورات العربية لم تكن تجربة ناجحة وصولاً الى تشرذم حلفاء الولايات المتحدة الأميركية بشكل ملحوظ وآخرها الأزمة الخليجية الخليجية التي تشكل مفصلاً من عمر التحالف السياسي والعسكري بالمنطقة.
تبدو واشنطن كمن التزم سياسة الحياد من جهة و«الوفاق» من جهة أخرى، تماشياً مع ما فرضته الظروف السورية من دون التخلّي عن أولوية متابعة الجيش اللبناني في ما يتعلق بمساعدات ضمن اولوية مكافحة الارهاب، فكانت الليونة التي بدت على حلفائها المحليين وتقدّمهم نحو حزب الله ومشهد التوافقات الملحوظ ترجمة واضحة للموقف الأميركي الذي يرغب بإبعاد لبنان أيضاً عن الفوضى باعتباره منصة «الإعمار السوري» على الأقل في هذه المرحلة.