«ما الذي جلب على شعبي هذا الويل»

جورج كرم

لو عدنا بضع مئات أو حتى بضع آلاف من السنين إلى الوراء لكنّا بألف خير وألف نعمة، أما اليوم فنحن منهمكون في حالة اجتماعية كئيبة عنوانها الطائفية والتكفير والتصرّف الغريزيّ، أكثرها إلحاحاً على الذاكرة، على سبيل المثال، الهجوم على مكاتب قناة «الجزيرة» من قبل جماعة «أوميغا تيم» لنصرة الجيش اللبناني حديثاً، إثر تعليقات الإعلامي في هذه القناة القطرية فيصل القاسم، وهي تعليقات مسيئة إلى الجيش اللبناني على شبكات التواصل الاجتماعي. والهجوم على المحطة هذا ليس سوى تصرّف غريزيّ لا يجدي نفعاً، إذ يحمل في طياته شوفينية نأي بنفس لبنانية ساهمت إلى حد كبير في إنتاج الحالة «الداعشية» في عرسال، فالمذيع المذكور لم يألُ جهداً طوال ثلاثة أعوام ونصف عام من المؤامرة الإرهابية في تأجيج نار الفتنة على أرض الشام وشدّ أزر «داعش» و»ماعش» وغيرهم من موتوري عصرنا هذا وهم يذبحون زهرة جنود صف الجيش السوري وضبّاطه، وبينهم أفضل الطيارين تدريباً وأكثر القادة خبرة في حربنا الاستراتيجية ضد العدو الصهيوني. والجماعات «الداعشية» تلك نمت وتكاثرت وانتشرت وتم تغذيتها بعناصر لبنانية، فيما يساوي لبنان الرسمي وإلى حد كبير الشعبي بين الدولة السورية والجماعات الإرهابية، إرضاءً لأعداء سورية من «أصدقائها»، غاضاً الطرف لفترة طويلة عن ممارسات الجماعات الإرهابية عينها التي هاجمت الجيش البناني وذبحت جنوده في جرود عرسال اليوم. والمثل الذي قدمته آنفاً لعلّه يبرز، رغم تفاهته، بعضاً من روح التفكير «الوطني» اللبناني. والبارحة استعمل وزير خارجية لبنان كلمة «أغراب» للإشارة إلى النازحين السوريين، وقد يكون السبب وراء استعماله التعبير هذا نقصاً في المفردات الخطابية الارتجالية، لكنه يعيد إلى الذاكرة الحرب الأهلية في لبنان التي ذبح فيها الإنعزاليون من عصابات الجميل وشمعون آنذاك الكثير من «الأغراب» باسم لبنان. وهذه الحالة العنصرية في لبنان التي قد تكون نشأت نتيجة تركيبة لبنان مثلما شاءتها فرنسا الاستعمارية آنذاك على قياس الجماعات الطائفية وامتيازاتها، فتطوّرت العصبية بين الجماعات الطائفية على حساب مصلحة الأمة إلى عصبية ضد «الأغراب» أيضاً. واليوم يكاد لا يخلو تصريح لمسؤول لبناني من العنصرية المقززة. وحتى عداؤنا لأنظمة الخليج تحوّل اليوم إلى عداء لمواطني الدول الخليجية الذين يعانون هم أيضاً من ظلم العائلات الحاكمة التي نصّبها الاستعمار حكاماً على صحارى البدو القاحلة من كل شي سوى من النفط والغاز. أما بالنسبة إلى حقوق الإنسان الإساسية ومفهوم المساواة بين البشر وعدم التفرقة بينهم بسبب اللون والدين والأصل الإثني، أرانا بلبنانيّتنا وقد حوّلنا مجموع العاملات الأجنبيات في بلادنا بأكمله إلى مستعمرة عبيد ننكّل بهم ونحجز حريتهم مقابل بضعة دولارات شهرية ونعنّفهم ونقتلهم بلا خوف من القانون والعقاب، إلى حدّ أنّ خبراً ورد مرة في الصحيفة في صيف مضى مفاده أن عاملاً من دولة سمراء قتل رب عمله فما كان من عائلة الأخير وأبناء قريته إلاّ أن انتحلوا صفة «الرب» من قريبهم المغدور واقتصوا من العامل وعذّبوه وعلّقوا جثته في إحدى المغاور طعاماً للغربان، وأذكر جيداً كيف أحرقت الصحيفة المحلية الفرنسية اللغة يومذاك فور قراءتي المقال، خوفاً من أن يقرأها أحد أفراد عائلتي القادمين من الخارج فيظنّ أن الزمن عاد فيه إلى العهد الروماني الذي يسود فيه الأسياد على العبيد.

لو عدنا مئات أو آلاف السنين إلى الوراء في بعض الحالات لوجدنا نماذج مشرقة من التطور الإجتماعي في بلادنا والمحيط لا تمت بأي صلة إلى الواقع التعيس الذي نعيشه اليوم، وكانت لحمورابي الملك الأموريّ قبل أربعة آلاف سنة أول مجموعة شرائع تعالج أكثر أمور الحياة تعقيداً، مثل مسؤولية الطبيب الذي يرتكب خطأ في علاج المريض قد تتسبب بوفاته وما ينبغي للطبيب المعالج من عقاب نتيجة إهماله، فيما أكثر الدول تطوراً تخلو اليوم من قانون واضح في هذا الصدد. أين نحن من ريادة حمورابي في التشريع ودولنا تكاد تكون الوحيدة التي تخلو من شرعة لحقوق الإنسان، علماً أنه كان لإمبراطورية إيبلا في تل مردوخ قي الشام عشرون ألف مخطوطة اقتصادية تعنى بشؤون التاريخ والاقتصاد وأحوال العمال الشخصية ومدفوعاتهم منذ خمسة آلاف عام، فأين نحن من ذلك اليوم في دولة غير قادرة على إقرار سلسة رتب ورواتب لموظفين أمضوا معظم سنيّ حياتهم في خدمة الدولة. هذا في الماضي السحيق، أما لو عدنا مئات السنين إلى الوراء لوجدنا أن سفن التجارة العربية غزت العالم من الأندلس إلى الشرق الآسيوي ونشرت العمران واللغة ولا تخلو لغة في العالم من الكلمات العربية، وتزخر الكثير من اللغات الآسيوية بمضمون من المفردات العربية قد يصل عددها إلى الآلاف مثل اللغة الماليزية والإندونيسية والهندي والأردو والأخيرة لغة باكستان مطابقة للهندي تقريباً، وما زالت تكتب بالحرف العربي.

أما اليوم، فإن أشهر ما تعرف به بلادنا هو «داعش»، ولم يمض يوم مذ قررت الإدارة الأميركية وإعلامها إخراج بعبع «داعش» من القفص الإعلامي إلاّ وجّه إليّ شخص في الغرب سؤالاً متوسلاً أن أحدّثه عن «داعش»! كيف لا و»داعش» اليوم بالنسبة إلى العالم أكبر «منتجات» بلادي، والإعلام الغربي يعلف بها المشاهد دزينة مرات يومياً على الأقل. والطريف في الأمر أن الإعلام الغربي أقحم نفسه من دون أن يدري في دوامة محاولة إتقان لفظ أسماء المنظمات الإرهابية التي تتكاثر مثل الأرانب ا تسرح وتذبح وتقطع وتأكل من بلادنا وأبنائها، وسط تغطية إعلامية ممتازة، حتى وصل إلى مجموعة «خراسان» وفصلوا «خرا…» عن «سان». وبعضهم، لسوء حظ دولة قطر، يلفظون الإسم بالإنكليزية «rettug» وتعني قناة المياه الآسنة ورب ضارة نافعة في كلتا الحالتين.

من إيبلا الإمبراطورية التي أنتجت قاموساً بلغتين قبل خمسة آلاف عام وأعطت المرأة حقوقها المميزة، إلى «داعش» التي لا نتنج أكثر من بيانات الإعدام والرجم وتحجّب أثداء البقرة وفقاً لشريعتها، انحدار كبير وتفكّك اجتماعي قد يكون قاتلاً لأمتنا التي لا تستطيع العيش على أمجاد غابرة زالت وحلّ التخلف مكانها. ولا خلاص من هذه الحال إلاّ بالسعي إلى الإجابة عن سؤال: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل» الذي طرحه أنطون سعاده على نفسه مطلع القرن الفائت وأجاب عنه بإطلاق النهضة السورية القومية الإجتماعية.

كاتب سوري من جبل لبنان موقعه على الإنترنت «com.gkaram.www»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى