عيد الأب… صدمة حداثية!
طلال مرتضى
أبي الطاعن في ربوبيته والذي لا يتوانى عن ممارستها عليّ بساديّة، مثل إله هجره عبيده في قفلة رواية، كاتبها حذق بما فيه الكفاية، أو متصالح مع شخوصه حدّ سقوطه أمام تمرّدهم عليه من داخل النصّ، نعم… فشل فشلاً ذريعاً بكلّ ممكنات اللغة، بأن يسدل الستارة على تلك المهزلة بعد أن فقد «فيتو» الخاتمة «The End».
أبي الذي لا ينفكّ للحظة عن بثني وصاياه الصائبة والخائبة منها، هو «الفاعل» الذي نصّبته عليّ اللغة من دون استشارتي، ذاتها اللغة جعلتني «المفعول به» علانية. كيف لا وأنا الاسفنجة الخائبة التي ـ قدراً ـ صنعوني لامتصاص كل ما تفرزه عقول الطغاة.
أبي ذلك الذي جيّرته الحياة كما اللغة بي، ضميراً… لا ضير إن كان «مستتراً» أو «غائباً»، مثل فزّاعة حقل بائسة تهابها العصافير الصغيرة، بينما لا يتوانى غراب حقير من «فعلها» على قبعته، لم يزل يمارس عليّ كل طقوس التسلّط ـ حتى عندما فصلت بيني وبينه المحيطات والبحار، حتى عندما اختار كلّ منّا قارة يسكنها ـ على سبيل المثال لا الحصر، ها أنا استجيب ـ كلّ صباح ـ خوفاً من سوطه لنداء صلاة الفجر، هذا الفرض بالذات منذ زمن لا أقوم بتأديته بتاتاً وفي كثير من الأحيان أتقصد عدم قضائه في وقت تالٍ، لكنّني ومنذ السابعة من عمري إلى هذا اليوم، أستفيق على وقت الصلاة متوهّلاً، أستيقظ بكامل وعيي، أتلفت يميناً ثم شمالاً وحين اتأكد بأنه ليس موجود، أعود مجدداً إلى غفوتي العميقة. إلى هذه اللحظة حين يمدّ صديق ما يده ليقدّم لي سيجارة على سبيل الضيافة، ترتعد يداي، وبدل أن تذهب نحو اليد الممدودة، تتجه إلى حيث منبت «شنبي» لأتأكد هل نبتت لي شوارب أم لا؟ كيف لا أفعل هذا وسوطه لم يزل يرسم على ظهري خريطة تشبه خريطة الكنز ضائع منذ خمس وثلاثين سنة سالفة، عندما وشى بي أحدهم بأنني أدخن، أليس هذا ما نسميه في اللغة «حال»، إذاً هذا هو حالي «ظرفي»!
أبي الرجل الأمّي عرّفني قبل اللغة بأن الله له «صفة» شديد العقاب، ربما لا يعرف أن لله أكثر من 99 اسماً عرفتها اللغة، منها الغفور، والرحمن الرحيم. كان يردّد في كل شاردة وواردة: يا جبار، يا متكبر..
أبي المتعصب دينياً حتى التزمت، عندما سألته وأنا ابن 12 سنة، هل نحن سنّة أو شيعة؟ فربطني بـ«رسن» الحمار ومعه لمدة يومين، لم تفلح كل الوساطات وقتذاك لفكّ أسري، كان يقول لمن تدخلوا لتحريري، ضبطته يسرق بيض الدجاج. وحده «آرتين» الأرمينيّ الذي كان يأتي البلدة لإصلاح العدد الزراعية وموتورات الماء استطاع فعل هذا. عندما أذكر الحادثة، أضحك ملء جوانيتي، وأنا أتساءل: كيف لم يجهز عليه ـ أي أبي ـ وهو يفكّ أغلالي ـ أي آرتين ـ صارخاً في وجه أبي بلهجته المضحكة: «أنت خمار كبير بابا… عنده شوارب طويل… حبيبي… أنت خمار… لانه.. الله تبعك… مفيش».
بصراحة يا أبي، لم أستطع إلى الآن تجاهل كلمات آرتين على رغم أنني لم أزل على عهدك، مسيّراً لا مخيّراً.
ما من مناسبة جعلتني اليوم أكتبك، لعلّ طقس عيد الأب استفزّني، لعلّ هذا اليوم كذبة اجترعها بعض الآباء البائسين كي يتسوّلوا الحسنات من أولادهم العُوّق، أنا لا أنفي عقوقي مطلقاً، لم تستطع كل أوروبا وحضارتها أن تسلخني منك، لم تزل تمارس كل عنجهيتك بي، كلها حد التبهل على رغم إيماني بكثير من نظريات الفلاسفة هنا، حدّ العمل بها بتخفّف.
على سبيل المشاركة والتماشي مع صرعة الحضارة المتسارعة، بثّني بآخر وصياه الحداثية قائلاً: «لا تكن يوماً رقماً عبثياً في جوال أحدهم، أو صديقنا افتراضياً عادياً على صفحة فايسبوك من لا يقدرك، تأكد بأنك ستُحذف بضغطة زر!».