رؤية الشاعرة سوريا بدّور الصراعية في ديوان «كتبتُ إليك»

د. لوي زيتوني

من الضروري عند البحث في أيّ عملٍ شعري، النظر إلى الأبعاد الوجودية التي تجعل منه قادراً على الاستمرار. ولعل هذه الأبعاد يمكن أن تعود إلى طبيعة النظر نحو الأدب عموماً، والشعر خصوصاً، ومنها أن الشعر ليس الشعور فحسب، كما ليس التفكير وحده بل هو النظرة الجديدة الخاصة إلى الحياة والكون والفن، على حدّ تعبير الزعيم أنطون سعاده في كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري» 1 . وبناءً عليه، يمكننا أن نقع على هذه النظرة ضمن إطار صراعها مع المألوف من النظرات وبهذا يصبح الفعل الصراعي جزءاً أصيلاً من بنية النص الأدبي بغية الافصاح عن حقيقة تلك النظرة لا على قاعدة الانعكاس أو التعبير، بل على أساس إنارة السبيل أمام المتلقّي بغية الوصول إلى تلك الرؤية ودفعها نحو حيّز الواقع.

من هذا المنطلق، يمكن أن ننظر إلى ديوان سوريا بدّور الطويلة الذي يحمل عنوان «كتبتُ إليك»، بما يتضمنه من أطر جماليةٍ ورؤيوية. فالديوان، مع أنه ينتمي إلى مذهب قصيدة النثر، قد استطاع أن يكشف عن مكنوناته الخارجة على السائد والمألوف بعمق، بأسلوبٍ جمالي خارجٍ على المألوف كذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي مدى برز المنحى الصراعي في العمل؟

لا بدّ من الاشارة إلى أن العنوان يثير فينا تساؤلات شتى، وإن كان لا يقدّم لنا صورةً عن ذلك المنحى، فمن هي المتكلمة من حيث الصفة؟ ابنة؟ أم؟ زوجة؟ حبيبة؟ ومَن هو المخاطَب؟ أب؟ ابن؟ زوج؟ حبيب؟ وفعل الكتابة هل مقتصر على نوعٍ محدّد؟ وما الذي سيُكتَب؟ وغيرها من الاحتمالات التي يمكن أن تكشفها أمامنا قراءة الديوان. ولعل هذه القراءة يمكن أن نحيط بها من خلال تتبع ثلاثة عناصر من رؤية بدّور: الإثم الكنعاني، شخصية القدوة، الفداء والانبعاث وهو ما يمكن أن نستطلع امكانية حضور الصراعية في الديوان.

الإثم الكنعاني

من المهمّ في هذا المجال الاضاءة على مفهوم «الخديعة الكنعانية» أو «الإثم الكنعاني» الذي أطلقه أنطون سعاده في كتابه «نشوء الأمم»، والتي تعني «الرابطة الوجدانية القومية المؤسّسة على فكرة الوطن» 2 . وما هو معروف أنها الصفة التي أُلصِقَت بالكنعانيين لكون الوجود الحقيقي في حياتهم بقي للأرض أو الوطن، لا للغيبيات. ولعل هذا ما شكل إرثاً للأدب السوري سواء أكان قومياً اجتماعياً أو لم يكن، إذ أن الوطن والأرض ظلا حاضرين في أدبنا بشكلٍ أو بآخر. أما سوريا بدّور، المرتبطة بالوطن ابتداءً من اسمها، فبرز إثمها الكنعاني بصورةٍ واضحة في صفحات ديوانها.

اللمحة الأولى يمكننا أن نقرأها حول الأرض يظهر ضمن إطارٍ نقدي واضحٍ للعلاقة السطحية بالأرض، من باب المقارنة بين الحال الصحراوية والحال الرعوية:

«إذا تحولت الينابيع نفطاً

والرمال ذهباً

فكيف يطلع الصبح على الرعاة؟». ص 63 .

التساؤل البلاغي هنا يُبرز نقداً للحال المادية التي وصلت إليها بعض الأمم المحيطة، والتي أخذ داؤها يتمدد إلينا بالأفكار تدريجياً. فطغيان الهاجس النفطي أو هاجس الثروة الفاحشة، قضى على الارتباط الطبيعي بالأرض. إذاً فالرابط الحقيقي الكنعاني المتأصل في بلادنا لا يُبنى إلا على أساس وجداني، يمكن أن نقرأه في ما يأتي:

«اِهبط نحو سهول القلب

طريق السماء

تبدأ في الأودية الخصيبة.

الجسد سلّم الروح.

طفولة الله صنم صنعه الشوق.

اِلمسني، ففي هذا التراب

تكمن نار الحياة». ص 12 .

من الواضح للمتلقي أن الوجود الفعلي هو للأرض، فلا يمكن أن يصل الفرد إلى السماء من دون المرور بأديم الأرض لذلك ترى أن الحياة لا يمكن أن تتقد جذوتها إلا من خلال الارتباط العملي بترابها، وبذلك يصبح المخاطب هنا هو الوطن. وبما أنها تعمد إلى إبراز صفة الخصوبة في هذه الأرض، لذا فهي تقوم بتحديد الوطن السوري المعروف بتسميته التاريخية «الهلال الخصيب». وبناءً عليه، فقد بدت كنعانية الانتماء بامتياز. وحتى تكتمل هذه الصورة، تبرز استمرارية الوطن على حساب الفرد، وهذا في معرض كلامها على «بحيرة مشقيتا»:

«كلّ عام هنا

أنا العابرة الغريبة

لا تعرفني طيور الماء، ولا الشجر

ولا يدرك المشهد المسائي

وهو يلتحف صوت فيروز

اضطرام روحي، مع هبوط العتمة فوق الماء

وغداً عندما أقف في المحطة الأخيرة

ويعبر الصيف من دون شرودي هنا مع الغروب

لن تفتقدني البحيرة!». ص 32 .

المقطع يبيّن صورة التجدد الذي تبدو عليها البحيرة بوصفها ممثلةً للوطن عموماً، فجهل هذا المكان للشاعرة لم يكن مسألةً عابرةً أو إنكاراً لشخصها بقدر ما كان نوعاً من التغير المستمر الدالّ على الحيوية والحياة. وهو الأمر الذي يتّضح على نحوٍ أكبر عند التأكيد على استمرارية هذا المكان/الأرض/الوطن، وبالتالي فإن رحيل الفرد أو غيابه عن المكان لا يعود ذا تأثير كبير لكونه البقاء لهذا الوطن. واستناداً إلى ذلك، يصبح الاتحاد بالأرض حياة في حدّ ذاته:

«أن ترجع إلى صدر الأرض القديم

تلهو فوق مفاتنه التي لا تشيخ

أنت تحيا إذن». ص 32 .

انطلاقاً مما تقدم، نجد أن سوريا بدّور حملت بقوة الإثم الكنعاني، فلم يكن الارتباط بالأرض مسألة سطحيةً عابرة، بل كانت الأرض هي أساس الحياة ومنبتها كما أن لها البقاء، أي أنها تعوض عن غياب الفرد. ونتيجةً لذلك تصبح العودة إليها هي الحياة الحقيقية.

القدوة

يطالعنا في الديوان حضورٌ لافتٌ لشخصية الرجل المثال الذي يتماهى بالقيم التي يمثلها الوطن، وهي شخصية قدوة مثلت إرادة الوطن وحيويته، فتمكنت من جعل مصلحة الأمة فوق كل مصلحة. وفي هذا السياق، يبرز قَسَم الزعامة الذي قيّد به سعاده نفسه في سبيل إنجاح النهضة وترقية المجتمع، إذ يعلن: «أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي،على أني أقف نفسي على أمتي السورية ووطني سورية، عاملاً لحياتهما ورقيّهما، وعلى أن أكون أميناً للمبادئ التي وضعتها…» 3 . ومن الممكن ملاحظة أن الديوان، مع تنوّعه، قد قدّم لشخصية القدوة تلك في مواضع متنوّعة، بما يعطي انطباعاً واضحاً حول كونها شخصية أنطون سعاده. ولعلّ ربط حضور المخاطَب في المقطع الآتي باستمرارية الأرض/الوطن، يحيل صراحةً إلى سعاده:

«ما زال هذا المدى الأخضر مداك

تحتضنك شموسه والرياح

ينسج من عطور المجرّات

هالة من أثير لها ملامحك

تسكن بحار الضوء المتدفق من ينبوع الكون

ظلاً من عبورك القديم

بين الزروع الواعدة».

تبرز هنا علامات شديدة الدلالة تعطي انطباعاً أن الشاعرة تقصد الوطن بالمفهوم السعادي، ومنها المدى الأخضر، شموس، الرياح، عطور، الزروع الواعدة… التي تحيلنا مباشرةً إلى الطبيعة الخصبة لهذه الأرض. في مقابل ذلك، تبرز عملية المخاطَبة للشخصية القدوة بهالتها الأثيرية، التي يبقى حضورها ملازماً لاستمرارية الأرض/الوطن. وما يؤكد ذلك استخدام عبارة «عبورك القديم» التي توحي بحضور أنطون سعاده المؤثر بتأسيسه للحزب، وفعل الفداء الذي جسده. وما يعزّز هذه الصورة تصريحها في موضع آخر:

«أيها الغنيّ عن الترانيم والمدائح

أقتحم بابك بجرأة العشاق

أجمع من بهائك حصاد رؤاي

حقاً وخيراً وجمالاً». ص 26 .

هذه الشخصية التي لا تحتاج إلى المدائح والأناشيد التي تُقدم للحكام والمتنفذين، تدفع إلى الانجذاب نحوها. وهذا الانجذاب لم يكن تأثراً شكلياً عابراً، بل نهلاً من فكره منهجه ولعل هذا ما يمكن أن نفهمه من ربط الشاعرة لرؤاها مع ما تتضمنه من حق وخيرٍ وجمال، ببهاء تلك الشخصية، مع ما تشير إليه هذه اللفظة من مناحي الابهار والمعرفة والطمأنينة والثقة… وعلى هذا الأساس، صرّحت في موضعٍ آخر:

«لي منكَ تلك النار الخالدة». ص 27 .

وحين أرادت أن توضح هذه الشخصية أكثر، حرصت على إبراز تأثيرها الفاعل في نفسها، كما في عمق المجتمع وهذا من خلال كتابتها:

«أستعيدك

وأنت تلمع فضة روحي

بذلك النور الذي رشفتَه

من خيمةٍ في الجبال المروية بمياه صنين

بينما رياح الصبا تهب على جسدي من أربع جهات الحياة

وتدعوني إلى بروقها الماطرة». ص 56 .

ترد هنا إشارات بارزة متعلقة بالأدبيات التي ترتكز إليها النهضة التي أسّسها سعاده، أو بالرموز التي تحيل إلى عقيدته. منها لفظة «خيمة» التي توحي بعرزال سعاده وكلمة «صنّين»، وهو الجبل الذي قام عرزال على سفحه. أما الرياح التي تصبّ من جهات الحياة الأربع، ففيها إحالة إلى رمز الزوبعة القومية الاجتماعية بزواياها الأربع حرّية، واجب، نظام، قوّة . كما أن البروق الماطرة تشير إلى النهضة التي تحمل المعنى التغييري والانتاجي في الآن عينه. في حين أن صقل الروح من خلال النور الذي تأخذه منه، يُظهر التغير الحاد في طبيعة التفكير بفعل التأثر بهذه النظرة.

خلاصة القول إن سوريا بدّور تمكنت من ابراز شخصية القدوة الذي جسد القيم العليا في المجتمع، وأقانيمها: الحق والخير والجمال. لكونها الشخصية التي تماهت مع طبيعة الوطن وصدرت عنها، وجعلت حياتها مرهونةً بقضية هذا الوطن وأمته. إضافةً إلى أنها قدمت لنا اشارات أظهرت أن هذه الشخصية ما كانت إلا شخصية الزعيم، أي سعاده، بما تحمله هذه الصفة من معاني الاخلاص التام للقضية وفعل التأسيس للنهضة والنضال في سبيل الأمة، وإيقاف الذات على خدمتها.

الفداء

تنطلق فكرة الفداء في الديوان من الشخصية القدوة نفسها، فمن المعروف أن شخصية أنطون سعاده ارتبطت بالفعل الفدائي الذي نستطلعه أولاً من خلال استعانته في أحد خطبه بأسطورة «مار جرجس/ الخضر» التي شكلت نموذجاً من نماذج التضحية الماثلة في التراث السوري، إذ عدّ النهضة السورية القومية الاجتماعية مكملةً لها 4 . ثم يطالعنا ثانياً فعل استشهاده بوصفه تجسيداً عملياً لمفهوم الفداء، وما أحدثه هذا الفعل من أثرٍ في المجتمع من ناحية، وفي استمرارية جذوة النهضة من ناحيةٍ أخرى 5 . ولعل هذا يبدأ بالتبلور عبر مع صورة الفداء السعادي الظاهر في هذا المقطع:

«حين يطلّ الثامن من تموز

يقف دمك شجراً في عروقي

وينزف فوق تراب القلب

حيث زرعتُ لك شجرة

أصلها ثابت وفرعها في السماء

من بقايا عرزالك القديم». ص 45 ـ 46 .

تقدّم لنا الأبيات علامات تحيل إلى التضحية التموزية بشكلٍ واضح منذ بدايته، يعاضد ذلك حضور الدم النازف على التراب. غير أن هذا النزيف لم يكن حضوراً درامياً بكائياً، بل كان فعلاً يوحي بالإثمار والانتاج، إذ يسقي شجرةً من نوعٍ خاص زرعتها الشاعرة مستوحاة من الرموز المرتبطة بالمقدس، غير أنها منحتها معنًى عائداً إلى فكر سعاده نفسه، فالأصل الثابت هو المرتبط بالأرض، أما الفرع الواصل إلى السماء فيرمز إلى الارتقاء والرفعة، وقد تحمل في طياتها حضوراً ايحاءً بالفلسفة المدرحية. على أن ارتباط هذه الشجرة بعرزال سعاده أو ببقاياه إشارة إلى الاستمرارية مع كل ما واجهه من تشويه واضطهاد وظلم.

تتطور النظرة الفدائية عند بدّور حينما تلقي بنظرتها على الفعل الاستشهادي الذي قامت به سناء محيدلي ابنة النهضة، فتصرح:

«قدمتِ وبيروت تغرق في المستحيل

فعامت على بحر دمك كل المدن الفاضلة

وتغيّر لون فساتين العرائس في بلادي

من بياض الثلج البارد إلى أحمر النار

خذيني أيتها العروس إلى عطشك القادم من عنقون

وأرشديني إلى منابع مائك المنتشر في أربع جهات الوطن

واحمليني إلى عرس موتك

فمَن آمن إيمانك

وإن مات فسيحيا». ص 58 ـ 59 .

فعل الاستشهاد الذي قامت به سناء ظهر في نظر بدّور بوصفه تغييراً تاماً لمجرى التاريخ، كما أراد سعاده للقوة أن تكون. فدماؤها جعلت من القيم الانسانية العليا تسمو أكثر في بلادنا، وتصبح هي مقياس النضال أو بوصلته، وهذا ما جعل من ثوب العرس يغدو دمها نفسه. ومن الملاحَظ أن الشاعرة استعانت بالتراث القيامي الإيماني في ختام المقطع لتوظفه في سياق آخر، الأمر الذي يرفع من فعلها إلى مستوى القدسية فإيمانها بالأمة وقضيتها حولا من الفداء حياةً، لا سيما أن فعلها لم يكن طلباً لعالمٍ آخر، بل تضحيةً خالصةً في سبيل الجماعة، حيث حياتها تستمر.

ويستمر الفعل الفدائي بالتصاعد داخل الديوان ليصل إلى مرحلة تجسيده من قبل الشاعرة نفسها، ليس بحضورها الفردي، لكن بما تمثله أو بمن تمثلهم:

«يوقد لي الله ناراً

حيث أريدك أن تتفرج

على احتراق العنقاء». ص 33 .

الرمز الفدائي هنا يحيل إلى التراث ليربط عملية التضحية بالنار، غير أن هذا الفعل يتجلى من خلال ضمير المتكلم، ما يعطي انطباعاً بأن الشاعرة هي التي قررت تجسيده انطلاقاً من كونها ابنة هذه النهضة، وابنة الفكر القومي الاجتماعي. على أن هذا الفكر يبدو واضحاً من خلال المخاطَب الذي قد يبدو سعاده نفسه، وهي تقوم بدعوته لرؤية فعل الفداء المتكرر اقتداءً به. إلا أنه ليس فعلاً منقطعاً وحيداً، بل تُبرز الشاعرة عملية اكتماله وذلك عبر المقطع الآتي:

«ما أجمل دمي

الذي يراق مع مطلع القمر

ببقايا الألوهة الآفلة

خلف آفاق عشتار،

ملقياً في العدم السحيق

بذور حياة تأهبت وخانها وعد السفر…

خيط يلتف على الدائرة

من أزلٍ إلى أبد

فعل حياة لا تموت

إلا لتزهر من جديد». ص 110 .

توضح بدّور هنا أن تقديم الدم ليس فعل تضحية وحيداً، لكونه يمثل حركةً دائريةً تقوم على أن كل فداء تعقبه قيامة أو انبعاث. غير أن الانبعاث لا يبدو على مستوى الفرد، بل على مستوى المجتمع والأمة. وتؤكد الشاعرة قدسية الفعل من خلال ربطها برمزية الألوهة المؤنثة التي تحمل معاني الولادة المتجدّدة.

في المحصلة، نرى الحضور الحيوي لمفهوم الفداء الذي يبدأ باستعادة الفعل السعادي التموزي، ثم تنتقل الشاعرة لتُبرز استمرارية هذا الرمز مع الاستشهادية سناء محيدلي بوصفها جسدت عمليةً تغييريةً في المجتمع. وتصل بنا إلى جعل هذا الفعل حالاً عامةً يتبناها كل مؤمن بالنهضة ومسيرتها، إلى حدّ تقديم نفسها هي فداءً عن الأمة، بما تمثله من المناقب القومية الاجتماعية، وبوصفها واحدةً من أبناء النهضة.

خاتمة

ديوان «كتبتُ إليك»، تجربة شعرية مميزة ترقى إلى أن تكون نتاجاً رائداً يأخذ حيّزه المكين في المكتبة القومية الاجتماعية، إلى جانب روّاد الشعر الحديث من القوميين الاجتماعيين الذين غيّروا وجهة الشعر في بلادنا… لكونه جسّد أفكار فكر سعاده ومسيرته النضالية والثقافية في بعض جوانبها. وقد قمت في هذه المقال برصد المناحي الفكرية الثلاثة التي توكأت عليها سوريا بدّور لتقديم تجربتها.

من ناحيةٍ أولى، استقرأت مفهوم «الإثم الكنعاني» ومدى حضوره في كتابتها، وقد بدا فاعلاً في الديوان من خلال سمة الارتباط بالأرض/الوطن إلى حد التقديس، وإظهار استمرارية البيئة في مقابل محدودية الوجود الفردي. لنصل إلى حدود التماهي مع الأرض، وعد الرجوع إلى تراب الوطن حياةً بحد ذاته وهذا ما يجعل من احتمال كون ضمير المخاطَب في العنوان احتمالاً قوياً.

بعدئذٍ، رصدنا حضور شخصية القدوة في شعرها، فرأيناه هذا الذي وقف نفسه لخدمة أمته ووطنه، فبدا شخصيةً مؤثرةً في الشاعرة ومحيطها، من الناحية الخارجية كما بدا هادياً للنفوس، معمماً لقيم الحق والخير والجمال داخل الأمة. وهذا ما جعله يتماهى بالوطن نفسه، كما جعل القارئ يدرك أن المقصود هو سعاده نفسه، وهذا يعطينا احتمال أن يكون ضمير المخاطَب ممثلاً لسعاده بالذات.

ثمّ يحضر مفهوم الفداء نظراً إلى ارتباطه الوثيق بشخصية سعاده، إذ يبدأ رمز سعاده بوصفه ممثلاً لهذا النهج، تبعه رمز سناء محيدلي التي شكلت استمراريةً لخط التضحية هذه في سبيل المجتمع. ويأخذ هذا المفهوم بالاتساع أكثر فأكثر لتتلبس الشاعرة ومَن تمثلهم شخصية الفداء، وهذا ما قد يعطي إشارةً إلى ضمير المتكلم.

وبعد هذا كلّه، لا بدّ من التنويه إلى أن الديوان لا يقتصر مضمونه على ما ذكرناه هنا، في هذه العجالة، إذ إنه يتّصف بغنىً يندر أن نراه في غيره. ويكفي أن نشير إلى طبيعة التصوير المتميزة والخاصة في آن، وإلى دخول الأفكار الفلسفية داخل هذه الصور لتعطيها أبعاداً أعمق. إلا أن هذا ما يحتاج بالتأكيد إلى وقفات أخرى أكثر تأنٍّ لتحليله.

يبقى أن أقول إنّ سوريا بدّور الطويلة قد استطاعت في ديوان «كتبتُ إليك» أن تقدّم عملاً شعرياً مميّزاً يصل إلى حدّ الريادة في الكثير من تفاصيله كما استطاعت أن تبدو كنعانية النهج، ومدرحية الفكر، قومية الفاعلية، ما يجعل كتابتها في مصاف الأعمال الخالدة التي لا يقوى عليها الزمن لذا فإنه عمل يستحق كل تمحيص، كما كلّ احترام… عمل يثبت أن صاحبته تملك زمام الشعر، وفاعلية التأثير، كما في أبياتها:

«الملتفة على نفسها

فوق سطح الماء

ضاربة بأقدامها جليد البحيرة،

الملتحفة شراشف الزمان

الموشّاة بالطواطم والأوثان

والأهلّة والصلبان

العارية إلّا من رقصها المتواصل

المتحرّكة فوق النقطة

قرب هاوية البيكار

السائلة في الاتجاهات دماً وعرقاً

مَن يعرفها؟». ص 128 .

هوامش ومراجع:

1 أنطون سعاده: الصراع الفكري في الأدب السوري. بيروت، سلسلة النظام الجديد، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، لا ط، آب 1978، ص60.

2 أنطون سعاده: نشوء الأمم. بيروت، لا ط، لا تا، ص 71.

3 أنطون سعاده: الآثار الكاملة. الجزء الرابع، قسَم الزعامة .

4 أنطون سعاده: الآثار الكاملة. بيروت، لا نا، الجزء الخامس عشر، الطبعة الأولى، 1989، ص 177-178.

5 سعيد تقيّ الدين: المجموعة الكاملة. بيروت، دار النهار لنشر، الجزء الخامس، لا ط، لا ب، ص55.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى