هي القدس… كالسّماء أو أقرب!
نصّار إبراهيم
هي القدس على صدر الأزرق المطلق تغفو.
مدينة مُثقلة بأسئلة الإنسان في سياق مغامرة العقل والروح الأولى، مدينة تُدمِن الرحيل والكشف، امتلكت طموح الصعود إلى السماء، فكرة وذاكرة، مسرح دائم لاشتباكات التاريخ المفتوح، يأتي الغزاة مدجّجين بالأساطير ويحاولون احتواءها، أو حشرها في زاوية ضيقة، لكنها تأبى الانصياع، تبتلعهم وتُلقي بأساطيرهم خارج أسوارها وتواصل عزف أناشيدها، حينها يقفون أمام أسوارها يجلّلهم الارتباك والعجز.
كلّ طرق الأرض والسماء تذهب إليها فتزدادُ توهُّجاً، فهي بالأصل فكرة تراقص ذاتها بهيبة السماء.
هي القدس إذن، كالسّماء أو أقرب!
بالأمس جاءها الغزاة بفيض من قوة ووهم، راحوا يعبثون في أعماقها علّهم يجدون ما يشير إلى عبورهم في تاريخها الممتدّ، أحاطوا أسوار مجدها بجدار رمادي بائس وبشع، لكنّ قبابها وبيوتها وأبراجها بقيت تشعّ مع إطلالة الفجر وغفوة المساء.. محاولة بائسة لاحتواء المدينة ـ الفكرة، التي كلما يحاصرها الحصار تمارس غواية الصعود إلى السّماء وترسل طوفان حضورها الهائل، قوة كامنة تسري مع الرياح إلى جهات الكون الأربع: أنا مدينة المدى، الألوان، الضياء، الظلال، الغناء، الرّحيل، الحضور، الغياب، الصهيل، الهديل، البحر، البرّ، الصحراء، و…. التين والزيتون وبراءة الأنبياء… «وكلّ من مرّوا إلى السماء»!.
هي القدس إذن، كالسّماء أو أقرب!
مسكونة بفيض الرموز وفيض الرّسالات والرّسل، بفيضِ اليمام المعشِّش في شقوق أسوارها، والياسمين المتكئ على شرفات المنازل، وأشجار الزيتون المُبعثرة تصلي على تلالها.
يدخل الفاتحون والغزاة والعشّاق والحالمون بواباتها السبع، ومنها يغادرون فلا يبقى في ليل المدينة سوى صدى سنابك خيل راحلة، أما القدس فباقية، تعشق من يهامسها بأغنية وهي على صدر الأزرق المطلق تغفو، مهرة عربية أصيلة تعرف، بحدسها، كلّ لصوص التاريخ والآثار فتَعصِف بهم كالصحراء رمالاً وبرقاً من دون مطر.
هي القدس إذن… كالسّماء أو أقرب!
قال لي: لا أستطيع دخول المدينة وهي على مرمى نظر! إذن، ستحملها الألوان والضوء إليّ، تأتي مع الصباح وعند المساء، صيفاً وشتاء، في مواسم القمح والسنابل المُثقلة بالولادة والمقاومة ورائحة الخبز فجراً.
هي القدس تتجلى كالرؤيا، تتخطى حدود المكان والزمان، صبية كنعانية تحمل رزمة قمح فتضيء قباب المدينة بلون الشمس وهي تودع أفقها الغربي، يخاصرها قوس قزح في يوم ماطر فتتلامع أشجار الزيتون ببريق الحنين.
قال لي: القدس تفرد قامتها وتفتح ذراعيها للريح فتحتوي ما عداها، تعيد خلق الوعي فينا، تمزج كلّ الألوان والضياء والظلال والأصوات والصمت ومفردات الطبيعة، همسات البيوت والمآذن والكنائس، تراقص الأرض والسماء والإنسان ورائحة البخور والهال والقهوة كموسيقى الخلق الشاسعة تنساب في ليلها، صهيل الماضي وحزن الحاضر وفرح الأزمان المقبلة، تسافر في كلّ الاتجاهات.
هي القدس يا صديقي تمزج كلّ ذلك معاً، يسعى إليها الأنبياء وتذهب إليهم، تبتعد عن السماء ما شاءت ثم تعاود الاقتراب منها حتى تلاصقها، هي خلف الجدار وأمامه، تحاصر من يحاصرها، واضحة ومراوغة، تستولي عليك من دون أن تنتبه، كطفل تقودك حيث تريد، تناغيك، وتعاقبك إذا أسأت الأدب، بمقدورها أن تملأ الكون حَمَاماً وسلاماً، وبمقدورها في لحظة أن تُشعل الكون ناراً من غضب.
هي القدس إذن… حكايتنا… حكاية الإنسان مع مدينة ترى ذاتها عاصمة للكون.
هي القدس إذن… تبقى كالسّماء أو أقرب!