كنز ولصوص…
حسين حمّود
الموظف اللبناني الكبير كنز ثمين. عندما يخرج من وظيفته بالاستقالة جبراً أو طوعاً أو وضعه في التصرّف أو ببلوغه سنّ التقاعد، يأخذ معه من مكتبه أغراضه الخاصة وصور عائلته وصندوقاً من المعلومات، بعضها كوثائق في حقيبته أو تحت إبطه وبعضها الأهمّ في ذاكرته الوظيفية، وهذه ينقصها الإثبات المادي الدامغ.
إنه يعرف خبايا الإدارة وزواريبها ودهاليزها السياسية، ومَن يملك مفاتيح عملها، ومَن هم السادة أعضاء مجلس إدارة هذه الوزارة أو تلك أو هذا القطاع أو ذاك. وبالتالي مَن هم أصحاب القرار في الدولة التي تشكّل الإدارة العامة القسم الأهمّ من بنيتها. وعلى الأقلّ يعرف الموظف الكبير مَن هي مرجعيته التي منّت عليه بمركزه المرموق، لكن ليس بالمجّان من أجل كفاءته وجدارته لتبوء هذه الوظيفة، بل لقاء خدمات سوف يؤدّيها الموظف طوعاً أو تحت طائلة الحرمان من النعمة، ساعة يشاء وليّ الأمر.
والكثير من الموظفين في الإدارة يكونون طوع البنان ويؤدّون واجباتهم لمرجعياتهم وأصحاب الفضل في تعيينهم. ومع ذلك تحلّ فجأة، ساعة التخلّي عن الموظف الخادم لمصلحة شخصية، إدارية أو سياسية أو اقتصادية للمرجعية صاحبة قرار تعيين الموظف والتنازل عنه بشحطة قلم، وليست مهمة هنا كفاءة الموظف أو عدمها أو استقامته أو فساده، بل المرجعية ترى مصلحتها فيه أو منه عدّاً ونقداً فقط لا غير.
أحد هؤلاء الموظفين الكبار شرب هذه الكأس المرّة من مرجعيته السياسية، في فترة ليست بعيدة مع أنه كان شبه إمبراطور في القطاع الذي كان يعمل فيه. وفّرت له مرجعيته حماية مطلقة من كلّ منتقدي أداءه في الوظيفة، مهما علت مستوياتهم. وزراء ونوّاب يحتشدون ساعات طويلة لاستقباله أينما حلّ. عراضات ترحيب تنظّم له كأحد عباقرة الإدارة والمشاريع الحيوية. دفاع مستميت عنه إذا اتهم بالفساد أو التقصير في عمله أو رُمي بالسهام، لأنه ينتمي إلى فريق سياسي معيّن من قبل مناوئي هذا الفريق. لكن في ليلة لم تنتظر ضحاها، سقط الإمبراطور في البئر بعد أن حلّت فجأة، ساعة التخلّي التي لم تعد حكراً على مرجعية من دون أخرى، وفي المجالات كلّها.
الموظف المشار إليه، ليس مصدوماً مما آلت إليه حاله، وقد بات نكرة أو أشبه بعنزة جربانة يبتعد عنها معارفها السياسيون كلّهم. فهو يعلم السبب وكان يتكهّن بمصيره قبل حلوله. هذا ما يقوله في الأماكن التي يحضر فيها.
ما يحزنه هو أنّ الناس مغشوشة بمَن يبدون في وسائل الإعلام قمة في التهذيب وحسن السلوك ودراية الأمور ولا يهمّهم سوى المصلحة العامة أو الجمهور الذي تدّعي أنها تدافع عن حقوقه، بينما هؤلاء الأشخاص في الحقيقة هم لصوص حقيقيون بل قمة في العمل المافيوي والسرقات. إنه يتحدث عن مرجعيته المباشرة. ويتوسّع في الاتهامات، التي قد تكون صحيحة أو مجرد افتراءات، لكن كما يقول المثل «شهد شاهد من أهله».
يقول الموظف السابق «سبب نقمتهم عليّ هو أنّ أقرباء مرجعيتي، وهؤلاء فاعلون في العمل السياسي، بعضهم في العلن وبعضهم الآخر في الظلّ وهؤلاء هم الأخطر، كانوا قد طلبوا مني القيام بمشاريع في مجال وظيفتي، يكون لهم فيها حصص كبيرة، لكني رفضت لأنّ فيها مخالفات قانونية جسيمة لا أستطيع تحمّلها. وعندها بدأت حملة شرسة عليّ بواسطة فريق سياسي آخر، لا أكنّ له العداء، لأنه كان الواجهة بالرغم من أنه كانت له طلبات مني رفضت تلبيتها أيضاً. حتّى أنني رفضت مقابلته في منزله بطلب منه وأصررت على حضوره إلى مكتبي، لكنه أيضاً لم يفعل».
يؤكد الموظف أنه لم يتمّ إثبات شيء ضدّه في عشرات التهم التي نسبت إليه في معرض قيامه بوظيفته. وهو الآن حرّ يمضي وقته في الرحلات والسفر على حساب الخزينة العامة، إذ ما زال يتقاضى راتبه الأصلي، لكونه موضوعاً إدارياً، هو وأسراره، بتصرّف رئاسة الحكومة.