أيفعلها القيصر بوتين!؟
علي بن مسعود المعشني
من افتعل الأزمة الأوكرانية، وخطط لها وأشعلها وأدارها، لم يكن ليحقق تكتيكاً بعينه، أو نصراً جزئياً محدوداً، أو توجيه رسالة وتحذير، بل كان يسعى إلى أن تُصبح أزمة أوكرانيا مجرد مفتاح ووقود لحرائق أكبر وعلى مساحات أوسع، في الداخل الروسي أولاً والصيني لاحقًا، ولجني مكاسب استراتيجية هائلة، وضربة استباقية في مفاصل استراتيجية ومراحل نمو العملاق الروسي والمارد الصيني، اللذين سيجبرهما نموهما وتمددهما الطبيعيان بالضرورة على نيل مكاسب وحصص الآخرين، وفي مقدمهم الغرب، وبعثرة حسابات خراجهم، بحكم المد والانحسار، وفرضيات فائض القوة، وأعراض الوهن في حياة الدول والممالك في قانون التاريخ وقواعده ونواميسه وسُننه، يُضاف إلى ذلك، تغير مفهوم السيادة، وأفول مفهومها وأدواتها السابقة، واستبدالها بمفاهيم وأدوات حديثة تفرضها كل دولة وتحددها بفعل قوتها وحيويتها على الساحة الدولية، وتغير مفهوم وتعريف الأمنين الوطني القومي المعاصرين. إذ تداخلا بصورة عضوية في العديد من المفاصل وتقاسما المُحددات والمُهددات ذاتها معًا.
بالتالي يحتكم العالم اليوم ـ مثلما كان ماضياً ـ إلى قاعدتين مُطلقتين، قاعدة الدفع التاريخي، وحركة التاريخ في الجغرافيا الثابتة وعليها، والثانية في زمننا المُعاش – الاحتكام والامتثال لثقافة العولمة والتجارة الدولية وأخواتهما، ونسج المصالح وتهيئة أسباب تعظيم المكاسب، واجتناب الأضرار، كلّ وفق حيويته وطاقتة التحصينية الشاملة، من قوى مادية وروحية، في هذا الدفع التاريخي الحاد، وفي ظل ثقافة العولمة وأخواتها.
من الطبيعي جدًا أن يدفع مناخ العولمة وأدواتها وأخواتها بمفاهيم جديدة وأدوات جديدة في العلاقات والصراع بين الكتل والدول، وأن يؤسس كذلك لثقافات جديدة ذات طبيعة قهرية غير مألوفة أو مسبوقة في العلاقات الدولية، وتعريف جديد للصراعات وتسوية النزاعات في العالم، فمن حارب بضراوة الثورات في العالم وأسس لعلم «إفشال الثورات» كالغرب الإستعماري رغم أنه سليل ثورات تحررية كالثورتين الفرنسية والأميركية فقط لإمرار رأسماليته البشعة وشعارها البائس «دعه يعمل دعه يمر». ها هو اليوم يرعى ثورات ويفجرها في جميع البلاد التي يحلم بإخضاعها لبيت طاعته، كثقافة وأداة جديدة أنتجتها العولمة وأخواتها، وكمنظومة سياسية وثقافية غير مألوفتين للعالم. ورغم إطلاق الغرب عليها إسم «الثورات المخملية» لإمرارها وسكبها في الوجدان والعقول بيسر، إلاّ أنها الأكثر دموية والأشد قذارة وانحطاطًا في ما عرفته البشرية من ثورات ووسائل تغيير وتعبير، لأنها خرجت بوضوح تام من عباءة ورحم وفكر نتن، خطط لها جهابذة السمسرة السياسية، وأساطين مافيا المال والنفط والسلاح في الغرب وخبراء الحروب القذرة، وافتعال مآسي الشعوب وكوارثها من حروب وفقر ومجاعات، مستدعين ومتسلحين بنظرية الفيلسوف الألماني نيتشه «لكي تعيش سعيدًا عش في خطر دائم» والمثل الإنكليزي « لا يهمني ماذا يفعل الصياد، بل يهمني ماذا يحمل بين يديه !».
لم تحمل العولمة وأخواتها تغيير قواعد الصراع والسياسة والعلاقات الدولية ووسائل التغيير والحروب فحسب، بل أدخلت مفهوماً وأداة جديدة هما «القوى الناعمة» أو «القوة الناعمة»، أي تحويل الدول إلى معسكرات كبيرة للإعتقال والتجويع وفتك الأمراض، مثلما حدث لليبيا والعراق وإيران، وهي ثقافة غربية بامتياز، استدعيت فحسب من مستودع تاريخهم الاستعماري، في الجزائر وليبيا، وفي الحربين الأوروبيتين الأولى والثانية، فمن سلم من خصوم العرب وأنداده من خارج جغرافيته، من الثورات «المخملية» لم يسلم من حروب «القوى الناعمة»! ومكمن الخطورة الحقيقي في تنفيذ مخططات العولمة وتحقيق غاياتها ومآربها هو تجييش المنظمات الدولية وتطويعها وابتداع قانون القوة وإحلاله قسرًا بديلاً من قوة القانون، وخرق المواثيق الدولية التي ارتضتها الأسرة الدولية كمظلة ومرجعية للحماية وتسوية النزاعات بين الدول، حماية للأمن والسلم الدوليين، فأصبحت ثورات ما سُمي بـ«الربيع العربي»، تحت مظلة الأمم المتحدة وغطاء مجلس الأمن ضد كيانات سياسية ذات سيادة وعضو في الأسرة الدولية. ذلك كله، لأنها إرادة غربية وأداة من أدواته.
لذا يُمكننا الجزم بأن الأزمة الأوكرانية وسيناريو مراحل استراتيجيتها، لن يخرج على مناخ هذه الثقافات ومعطيات قواعد العولمة في الصراع وتسوية النزاعات. فهؤلاء القوم بلا أخلاق على الإطلاق، تحركهم المصلحة العارية والمجردة من أي قيمة أخلاقية أو وازع ديني أو ضمير، لذا نراهم يلجأون في حروبهم إلى أساليب غير أخلاقية، ويباركونها كذلك إن صدرت من أذنابهم وأدواتهم، وذاك ما يعف عنه كل إنسان سوي، وما لم تعهده البشرية في حروبها، إذ تُعتمد حروب قذرة مُمنهجة، رغم تعريف القوانين والأعراف واستنكارها جرائم الحرب وتعريفها «أخلاقيات» الحروب. تلك القذارات والانتهاكات رأيناها بجلاء في يوميات الأزمة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، لنواحي الدعم والمباركة والغطاء الشرعي والتسويف والنفاق السياسي، ما يدلّ على أن منظومة المؤامرة على سورية، الدولة والنظام والسياسات، ليست سوى تحمية لمنازلات قادمة حامية الوطيس ومن العيار الثقيل.
لا شك في أن القيصر بوتين يعلم أكثر من سواه، بنوايا المحافظين الجدد ومخططاتهم حيال بلده والعالم بأسره، ويعلم بعمق العداء التاريخي بين روسيا والغرب عامة وتفاصيل الصراع بينهما، ويعلم بمقولة الملكة فيكتوريا ملكة إنكلترا 1837-1901 التي شنت حملة عسكرية ضخمة ضد روسيا القيصرية أسمتها «الحملة الصليبية ضد هرطقة الكنيسة الشرقية»، في تعبير واضح عن الاحتقار والدونية التي تشبع بها الغرب عن الروس خاصة والشرق وكنائسهم عامة كذلك، ولإضفاء القداسة والصواب على كل ما هو غربي! ويعلم بوتين كذلك أكثر من سواه، أن الغرب الرأسمالي، لم يسعَ إلى تدمير الإتحاد السوفياتي بالأمس ليسمح اليوم بقيام عملاق جديد وارث له.
بوتين اليوم في وضع مثالي لبناء عرش مثالي، ولخلق واقع عالمي مثالي كذلك. وعصب هذا المجد ومفتاحه والسبب الرئيس لثباته ورسوخه يتمثل في رعاية بوتين عملية عسكرية نوعية ومحدودة ضد رأس الأفعى، المسماة اختصارًا «إسرائيل»، فرأس الأفعى هذه هي النواة والحاضن والهدف، للحراك الغربي كله والاستراتيجيات التي تُحاك للعالم، فنُسك الغرب ومحياه ومماته لـ«تل أبيب». وطالما لن يتورع الغرب عن فعل أي شئ في العالم خدمة وحماية وإرضاء لرأس الأفعى، فما المانع من توجيه ضربة مؤلمة لهذا الرأس ليتداعى لها سائر الجسد والأطراف !؟
أنضجت دمشق للحليف الروسي والعالم الحر قناعات ووضوح معالم ومُخططات، لم تكن مواتية لولا صمود دمشق الأسطوري. وكشفت دمشق بواطن الضعف والقوة والمخاوف والنوايا والأطماع في المنطقة وعليها، بصور غير مسبوقة، وجعلت أعمال الثأر والاستحقاقات على المعسكر الغربي وحلفائه وأدواته في السقف الأعلى. لذلك، فإن دعم بوتين لحرب نوعية وفاعلة ومحدودة على الكيان الصهيوني في هذا الظرف تحديداً، سيحقق واقعًا إقليميًا ودوليًا مدويًا، وسيشكل هزيمة قاسية جدًا للمعسكر الرأسمالي، وانتصارًا تاريخيًا لقوى الخير والضمير الإنساني العالمي الذي عانى الويلات من جراء سمسرة الغرب ومؤامراته.
روسيا اليوم في حاجة ماسة إلى هذه الحرب، حماية لأمنها الوطني ولأمنها الأقليمي، ولإعادة الخطر إلى بؤرته الأولى ونواته، وسورية في حاجة ماسة إلى هذه الحرب للثأر لكرامتها، ولإيلام المتآمرين عليها بالوكالة وفضحهم وتعريتهم، وحزب الله في حاجة ماسة إلى هذه الحرب ليعود – مثلما كان – بوصلة مقاومة وطنية لفلسطين وثقافة مقاومة عابرة للحدود والأجيال، والأطياف الفلسطينية في حاجة إلى هذه الحرب لتعظيم المكاسب التفاوضية وبعث الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولانتشال القضية من البازار السياسي، وإيران في حاجة ماسة إلى هذه الحرب لإختبار جهوزيتها وبرهنة حضورها القوي على خريطة المقاومة، ومصر في حاجة إلى هذه الحرب لتستعيد شيئاً من دورها العروبي وتسوق المكانة الاستراتيجية لها وتمارس دور النواة والحاضن الطبيعي بجدارة، والعرب في حاجة ماسة إلى هذه الحرب للخروج من عنق الزجاجة ورؤية أفق آخر للمنطقة، والمسلمون في حاجة ماسة إلى هذه الحرب، لتفرز المسلمين من المتأسلمين وأتباع الجهاد في سبيل الله من أتباع الجهاد في سبيل الأطلسي، والكنيسة الشرقية بفرعيها الكاثوليكي والأرثوذكسي في حاجة ماسة إلى هذه الحرب لوقف العبث بهم وبمقدساتهم وتاريخهم وتهجيرهم المنظم نحو الغرب واقتلاعهم من جذورهم عبر تشجيع المجازر والمذابح والحروب القذرة ضدهم وإحلالهم في الغرب كبدلاء من العرب والمسلمين الذين فشلت سياسات الغرب في إدماجهم وأصبحوا طابوراً خامساً حقاً ثقافياً وأمنياً ودينياً ولغوياً في المجتمعات الغربية، وعموم اليهود في العالم في حاجة ماسة إلى هذه الحرب ليبرهنوا للعالم الفرق ما بين اليهودية كديانة سماوية والصهيونية كفكر وضعي انتهازي مُنحرف.
يُضاف إلى جميع من سبق ذكرهم الرأي العام العالمي والضمير العالمي الذي تتشكل أخلاقياته وتتعمق جروحه، بفعل عربدة الغرب وحلفائه وأدواته، من دون رادع أو وازع. فهذه الضربة بتوقيتها وحجمها ستنقل الصراع إلى عُقر دار الجاني، وستفكك البُنى التي شكلها الغرب للمنطقة والعالم، وستحطم رؤوس الجسور وتقطع المخالب وتُقلم الأظافر التي مدها الغرب نحو بلدان خصومه وفي أعينهم وعلى أجسادهم كذلك، وستعيد تركيبها وفق واقع جديد منصف وعادل. ففي السياسة أحيانًا تنفع وتُثمر الخطط والنظريات الكروية، فخير وسيلة للدفاع هي الهجوم، إضافة إلى الضربات الاستباقية والوقائية والمتعارف عليها في المدارس الاستخبارية والعسكرية.
تملك روسيا اليوم أذرعاً ووسائل كثيرة للتأثير والثأر والدفاع ووفق قواعد لعبة الأمم تمنعها من أن تكون طرفًا مباشرًا في حرب كهذه أو مواجهة عسكرية، كما هي الحال لغريمتها أميركا، لكن الفارق بين الغريمين اليوم أن روسيا في صعود وأميركا في أفول، وأن مغامرات أميركا في أفغانستان والعراق أخرجتها مثل نمر جريح حقاً، إلى حد خوفها من توجيه ضربة صاروخية محدودة إلى سورية خوفًا من العواقب وردود الأفعال على الأرض، وهذا الخوف الذي يُعرف في الاستراتيجية بعجز القوة، مصاب به الكيان الصهيوني كذلك، خاصة بعد عدوانه على لبنان عام 2006. تلك الملحمة التي أصبحت فيصلاً تاريخياً حيث انتقلت المقاومة من مقاومة إلى توازن رعب مع العدو إلى ردع. تيقن الروس اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن أميركا وحلفاءها وأدواتها في المنطقة يلعبون على وتر الزمن في الأزمة السورية، لإنهاك الجيش العربي السوري واستنزافه في حرب بالوكالة، وإن المقصود من ذلك هو الإخلال الواضح بالتوازنات في المنطقة لمصلحة الكيان الصهيوني، وإن ذلك الإخلال إن توافر سيُخل في حسابات موسكو القومية فالوطنية، وسيُبدد أحلام القيصر بوتين في التمدد نحو المتوسط، والتمترس قبالة البؤر الحيوية للغرب وبجوارها وسيفقد الروس الخندق الأمامي المهمّ للدفاع والهجوم معًا، بفعل إضعاف حلفائه في المنطقة وإبطال فاعليتهم وفق الاستنزاف الحالي المرسوم والمُنظم.
مواجهة غزة عام 2012 كانت بالون اختبار كبيراً من قبل جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، وحصاد أولي لما سُمي بـ«الربيع العربي» وكانت النتائج الآتية :
ـ بينت المواجهة مدى جدية التنظيم الدولي لـ«الأخوان» والتزامه، بما التزموا به لأميركا، بحماية أمن الكيان الصهيوني، مقابل تمكينهم من السلطة في الأقطار العربية ومنها فلسطين كذلك، إذ أعلن مُرسي في أول خطاب له خطاب التنصيب احترام الدولة المصرية لجميع المعاهدات والاتفاقيات التي أبرمتها، وهذا يعني ضمنًا لا خوف ولا مساس بكامب ديفيد، رغم السعار وشعار الاجتثاث لكل شئ في مصر مبارك! كما لاحظ الجميع أن جميع الذين هرولوا إلى غزة سعيًا إلى التهدئة، وبموافقة الكيان على اعتبار أن غزة ما تزال أرض مُحتلة كانوا «إخوان» مصر وتونس وليبيا والمغرب.
ـ لم يجرؤ جيش العدو على القيام بأي اجتياح بري، لضراوة المعركة، وللجهوزية العالية لفصائل المقاومة في العدة والعتاد.
ـ تيقن الكيان أن تيار المقاومة لم يُضعفه انشغال سورية في أزمتها، بل على العكس من ذلك.
ـ كشفت المواجهة إفلاس ونفاق أدعياء الديمقراطية والحرية للشعوب من طابور الربيع، وأتباع الجهاد الأطلسي، الذين عجزوا عن المطالبة بشيء لغزة مما يطالبون به لشعوب بلدان الربيع، من تسليح أو مناطق حضر جوي، أو مناطق عازلة، أو ممرّات إنسانية آمنة لإيصال المعونات الإنسانية العاجلة، أو تطبيق البند السابع، أو حتى المطالبة باجتماع طارئ لمجلس الأمن، أو الدعوات للجهاد وفتاوى النُصرة! حيث وقعوا في فخ أخلاقي وشرعي مُحكم.
ـ كشفت المواجهة أن غزة لم تعد حماس، وأن حماس لم تعد غزة، فقد التحمت جميع الفصائل الفلسطينية للهدف ذاته وضد العدو نفسه، وبتمويل ودعم من المصدر عينه الداعم للمقاومة.
هذا يُدلل على أن الغرب وأدواته في المنطقة في أوهن حالاتهم، وأن قوتهم الظاهرة مبنية على ضعف الآخرين وشتاتهم وتقاعسهم فحسب، فأكسبوهم هامش المناورة والتفرد بالخصوم فردًا فردًا.
بلغ الغرب اليوم ذروة نرجسيته وغطرسته، والضمير العالمي في المقابل بلغ ذروة امتعاضه ومعاناته من عربدة الغرب وسلوكاته المُشينة، والتي أصبحت لدى البعض مُبررة ومستساغة ومثل القضاء والقدر! وبالتالي، ضربة مفصلية موجعة. وفي هذا المناخ العالمي الممتزج بمشاعر الإحباط وبصيص الأمل، سيجعل القيصر الروسي الأوحد في ملء الفراغ الأخلاقي الرهيب الذي تعاني منه البشرية جمعاء، وستجعله الجاني الأكبر من رعاية توجيه ضربة رأس الأفعى، على المديين القريب والبعيد. فهل يفعلها بوتين يا تُرى، أم يترقب حتى يؤكل يوم أكل الثور الأبيض!؟