معادلة التنسيق الحذِر بين دمشق وواشنطن
عبد الفتاح نعوم
التنسيق قائم بين واشنطن ودمشق، وسواء كان ضمنياً أم معلناً فإن الخاسر هو واشنطن، أما دمشق فلم تغير مواقفها من التنسيق، بل طالبت به من البداية، تماماً كما دعت المعارضة منذ البداية إلى الحوار. وعموماً من يمارس السياسة ليس في حاجة ليعلن كل ما يقوم به.
يستحيل أن يقبل عاقل أن مرور الطيران الأجنبي في أراضٍ سورية يتم من دون رضا دمشق، كما كان مستحيلاً أن تغزو الولايات المتحدة سورية العام الماضي من دون رد سوري- إقليمي- دولي حازم. فالذي ميّز وضعية سورية عن عراق صدام وليبيا القذافي، هو أن القيادة السياسية في هذا البلد نسجت تحالفات قوية داخل سورية وخارجها، ووعت في شكل كبير التحولات التي يمضي إليها النظامان الإقليمي الشرق أوسطي والعالمي.
ومن هنا كان مستحيلاً إسقاط سورية بالأسلوب الذي تم اتباعه خلال السنوات الماضية، سيما أن أساليب إضعاف وإسقاط الأنظمة باتت محدودة وغير مضمونة النتائج، فالحصار لا يسقط دولاً، والغزو المباشر على غرار غزو العراق يورث القائم به مشاكلات لا حصر لها تبدأ من الرأي العام وتنتهي بالأزمات. وأسلوب جلب الاستدعاء الشعبي وتظهيره لإقناع الرأي العام بالتدخل لأسباب إنسانية كما حدث في ليبيا يأتي بنتائج، لكنه لا يكون فاعلاً حينما يتعلق الأمر بالرغبة في مهاجمة بلد كسورية، بما هو عضو في نسيج دولي وإقليمي معقد ويملك من أوراق القوة ما لا يعد.
نهايةً أصبحت كل مناورات الحرب على «داعش» ومحاولة جعلها الفرصة الأخيرة للانقضاض على السيادة السورية، أصبحت مكشوفة وفاشلة. وكانت النهاية هي القبول بتنسيق من نوع معين، إذ تقول الولايات المتحدة إنها تقصف «داعش» في سورية، وآخر همها القبول السوري بذلك، وتسكت سورية على ذلك ما دام جيشها وعتادها ليسا هدفاً لذلك القصف، المهم أن المعادلة رست على قصف بالوكالة تقوم به الولايات المتحدة على مضض لمصلحة سورية. فالدول عادة لا تبحث عن تطابق الأهداف المعلنة لسياساتها مع طبيعة سلوكاتها العملية، بحيث المهم تطابق مصالحها مع ميزان الربح والخسارة، والمؤطر بدوره بميزان القوى المتحكم في الرغبات والقدرات اللازم توافرها.
لا يوجد بين كل القوى الإقليمية من يملك بنك أهداف محددة وواضحة ودقيقة بخصوص مواقع «داعش» مثل الجيش العربي السوري، فالسنوات التي أمضاها في القتال ضد كل المجموعات المسلحة ومن بينها «داعش»، والاختراقات التي حتماً أنجزتها الأستخبارات السورية داخل «داعشط، كلها أسباب كافية كي يتمتع بميزته تلك في هذه الحرب، لذلك وإن أرادت الولايات المتحدة حرباً صافية على «داعش» فهي في حاجة إلى معلومات الجيش السوري، وتالياً تصبح المعادلة: ذوقوا من سمٍ قدمتموه لنا ونحن من يخبركم أين توجد الكؤوس.
كل ما يكتب عن هذا التنسيق يكون إما محاولات للفهم بناء على المؤشرات والزيارات من والى دمشق، أو يكون محاولات لإظهار سورية الدولة التي قبلت رغماً عنها دخول قوات أجنبية إلى أرضها، وهي التي صدعت الدنيا حديثاً عن السيادة، ورفضاً للتدخل. وفي حقيقة الأمر حتى وإن اعتبرنا هذا تنازلاً من سورية فإنه مرد تنازل مشروط بتحقيق هدف أهم، وبالمنطق نفسه، فالولايات المتحدة نفسها تنازلت وفي شكل مهين، إذ قبلت رغماً عن أنفها القيام بحرب على عدو كانت حتى أمس القريب تراهن عليه لسحق سورية.
كل المخاوف الآن التي يمكن أن ترد على هذا التنسيق الضمني، ترتبط بما يترتب عن هذه الحملة، ففي حالة نجاح الحملة لا يمكن أن يوثق بالولايات المتحدة، إذ قد تفكر في إشباع شهيتها لافتعال صدام مع الجيش السوري، وبالتالي تجره إلى اشتباك من نوع ما. أما في حالة فشل الحملة فقد ترغب الولايات المتحدة في التغطية على فشلها في تكبيد الجيش السوري خسائر، بما يمنعه من استيعاب المكاسب التي سيحققها ولو فشلت الحملة على «داعش». لكن في الحالتين كلتيهما فذلك ليس بعيداً من محاذير دخول أطراف أخرى على الخط، سيما أن حلفاء سورية حازمون في هذا الصدد، ورافضون لتكرار الخدعة الليبية.
إن عقد الحلف القرار بالحرب على «داعش»، وما قبله وما بعده، يعكس درجة الارتباك الشديد الذي وقعت فيه دول التحالف، كما يعكس الرعب وقلة الحيلة والمأزق الاستراتيجي وهي الصفات التي باتت لصيقة بسياسات هذه الدول وفي مقدمها الولايات المتحدة. وفي المقابل يعكس الارتياح الشديد الذي عليه الحلف المقابل، وفي مقدمه سورية، فهي الدولة التي لا تخجل من تنسيق علني مع الولايات المتحدة، بل طالبت به منذ ثلاث سنوات للحرب على الإرهاب، ولا تخشى في المقابل تنسيقاً ضمنياً يحفظ لها هيبتها وسيادتها، ويريحها من عدو، ويجعل الولايات المتحدة وحلفاؤها يدفعون ثمن عدم قبولهم بتنسيق علني منذ البداية.