الإيجاز في اللغة قلبها النابض القصّة القصيرة جدّاً نموذجاً
سمّية تكجي
اكتب لي قصّة قصيرة جدّاً، جدّاً قصيرة ودعني أقرأ فيها كثيراً… كثيراً. احفر اسمي على خاتم، يختصر العمر، يختزل عمري، كما يختزل النبيذ خميراً. عرفني إلى أبطالك، لا تصفهم لي لا تغرقني في التفاصيل، فإن الوقت أمسى قصيراً، علقني بخيط لا ينقطع، من الكلمة الأولى حتى الأخيرة ولا تتوقف بي في محطات، فأنا انتظرك محبوسة الأنفاس، كي ألتقط السمكة التي تتلألأ في الأكواريوم وها أنا كلما مددت يدي، يمحوها الماء ويكبر الأكواريوم ليصبح بحراً وتظل يدي في الماء، بينما تتحول صفحته إلى طبقة جليد ساخن، لا يسعفني البصر، فأستدعي البصيرة، ارتبك ويتخلخل ما تصورته وأذهب لأفتش عن يدي في مكان آخر.
«فنّ الكتابة أن تقول كثيراً في كلمات قليلة»، «الإيجاز هو أخ الموهبة»، عبارتان للروائي الروسي الشهير أنطونيو تشيكوف. وعندما نقارب الإيجاز وهو اللغة في قلب اللغة، سنكون قد مهدنا السبيل للكلام عن القصّة القصيرة جدّاً. فالكاتب تشيكوف هو من أشهر من كتب القصّة القصيرة جدّاً وأضاف إليها ابتكارات إبداعية ووضع لها خصائص شكلية وفنية حتى أصبح يقال القصّة القصيرة ما قبل تشيكوف وما بعد تشيكوف . إذن هي سرّ الإيجاز الذي يروي ويظمىء المتلقي في آن، وكيف تقول شيئاً وتبقي أشياء أهم منها قيد التلميح والترميز وكيف تحرّك الساكن والفضول، أكثر من تقديم الأجوبة المترقية.
أُطلِقت على هذا الجنس الأدبي الحداثوي مسمّيات عدّة: في أميركا اللاتينية سمّي بقصّة ما بعد الحداثة، في الولايات المتحدة أطلق عليه «ميكروفيكشن» أو الومضة وكذلك هناك ما لا يحصى من المسميات كالأقصوصة، اللوحة، مقطوعات قصيرة وغيرها. ولكن المصطلح الذي حظي بأعلى منسوب من الإجماع هو: القصّة القصيرة جدّاً نظراً لاشتماله على ملمحين أساسيين لهذا الجنس الأدبي الجديد وهما: قصر الحجم والنزعة القصصية.
اللعبة بين الكاتب والمتلقي هي التي تفرض خصائص هذا الجنس، الجديد من القصّة، فلما كان الكاتب غالباً ما يكتب ليعبّر عن حالة فقد أو فيض لديه والقارئ أيضاً يقرأ لنفس هذين السببين، فكان لزاماً على الكاتب أن يلاقي قارئه على الضفة الثانية، باعتماد لغة الإيجاز باقتدار واستخدام لغة البلاغة بسحر وتشويق، القصّة القصيرة جدّاً هي محكومة بشروط وأركان ولقد اختلف النقاد وخبراء الإبداع في تشعباتها الكثيرة البنيوية والفنية. واذا توخينا الإيجاز انزياحاً وتيمناً بالقصّة القصيرة جدّاً، فسوف نعرض لثلاث خصائص مهمة وهي المفارقة والحالة والخاتمة.
المفارقة: هي جريان أحداث في القصّة بشكل عفوي، على حساب أحداث أخرى هي المقصودة وهي ثنائية درامية يلجأ إليها الكاتب لإظهار عكس ما يعنيه، أو يقابل ما يعنيه وكذلك هي من التقنيات التي تعتمد في ال القصّة القصيرة جدّاً بقصد الإبتعاد عن السرد.
الحالة: هي حالة وعي في ذات المبدع الذي يملك قوة الرؤية ورهافة السمع ودقة الملاحظة وليست حدثاً أو لقطة يوغل الكاتب في تفصيل سرودها، بل يتوخى إخماد الإحتمالات للعلاقات السائدة في بنى القصّة من أجل التمهيد الخاتمة عبر تقاطع مخزون الذاكرة عند المتلقي مع ما يمهد الكاتب له.
الخاتمة: هي الغاية والهدف وهي أهم العناصر في القصّة القصيرة جدّاً وعلى الكاتب أن يجعلها متوهجة ومن خارج السرد وغير معنية بالمضمون بل هي قفزة من داخل النص إلى خارجه الإدهاشي والإستفزازي حيث لا يمر على القارئ مرور الكرام بل يقلب كيانه ويترك فيه أثراً يدفع إلى الحركة والتساؤل ويربك مفاهيمه وتصوراته المسبقة عن العمل تاركاً له كثيراً من البياض ليملأه. ومدى للتأويل، غامضاً ويحتمل أكثر من قراءة.
هي وتيرة الزمن السريع، الوقت الذي لا ينتظر ولا يعطي وقتاً للوقت، زمن فيه من التعقيدات ما فيه على كل صعيد، وفي ظل تسونامي العولمة، وسرعة التنافس على الإنتاجية والإبداع، ونزعة الإنسان إلى كل جديد وإلى لغة مختلفة تخاطب عقله وجدانه ولا تأخذ من وقته الكثير. وفي ظل العزوف عن قراءة المطولات من المقالات والقصص والدراسات وخاصة المحشوة بالسرد والاستطراد، هذه العوامل مجتمعة إضافة إلى رغبة وإصرار على التغيير ودافعية أساسية تنبع من متغيرات الحياة التي نعيشها.
إذا تتبعنا تطور القصّة القصيرة جدّاً سنجد انها حديثة العهد وقد ظهرت في أميركا اللاتينية في مطلع القرن العشرين ثم انتقلت بعد ذلك إلى أوروبا الغربية ومن ثم رهصت بعد ذلك في بلاد الرافدين والشام وخاصة فلسطين وسورية وظهرت في المغرب وتونس بشكل ناضج ومميز وذلك لغلبة المشهد القصصي على الشعري في هذين البلدين. القصّة القصيرة جدّاً، ورغم أنها جنس أدبي جديد يحاول أن يجد له مكاناً ويكرس حضوره إلا أنّ كثيرين من الكتّاب رواية مشهورين عالمياً وعربياً كتبوا القصّة القصيرة جدّاً، في أوقات متفاوته، إرنست همنغواي الكاتب الأميركي الذي كتب «لمن تقرع الأجراس» و«الشيخ والبحر» كتب أيضاً القصّة القصيرة جدّاً في عام 1925 «في زمننا»، من وحي قصّة حب ربطته بإحدى الممرضات وقد قال فيه ناقد لاتيني رفيع المستوى: «إرنست همنغواي الرجل ذو الفأس الذي يقتلع غابة من الإطناب» وقد نسب إليه أنه كتب قصّة قصيرة من ستّة أحرف، ومنهم من يقول أنه إعلان كان قد نشر سابقاً في جريدة أميركية واقتبسه منها. ومع ذلك هناك من يدّعي أن القصّة القصيرة جدّاً لم تبدأ في أميركا اللاتينية إلا منذ عام 1950. أما غارسيا ماركيز صاحب الرائعة «مئة سنة من الوحدة» التي تتألف من 600 صفحة، فكتب القصّة القصيرة جدّاً في مطلع السبعينات وكان ينشرها في صحيفة «إسبكتادور».
وهناك كثيرون من رواد القصّة القصيرة جدّاً في أميركا اللاتينية
على سبيل المثال لا الحصر نذكر منهم: فكتوريا أوكامبو وإرنستو ساباتو.
أما عربياً فهناك من يدعي أن القصّة القصيرة جدّاً ليست ابتداعاً جديداً وإن كتب السلف وما تتضمن من من حكايات الظرفاء والشعراء التي لم تكن تتجاوز السطرين هي أيضاً بالإمكان تجنيسها كقصّة قصيرة جدّاً وكتاب الأبشيهي «المستطرف في كل مستظرف» خير مثال غسان كنفاني .
في مصر نجيب محفوظ الروائي صاحب نوبل كتب القصّة القصيرة جدّاً في مجموعته «فيما يرى النائم» في السبعينات. وجبران خليل جبران الأديب والشاعر اللبناني أيضاً خاض غمارها. أما في سورية فإن الكاتب القدير زكريا تامر وهو من أشهر الكتاب العرب المبدعين في هذا الجنس الأدبي كتبه منذ ثمانينات القرن الماضي وترجمت قصصه إلى عدد من اللغات العالمية. ومن رواد القصّة القصيرة جدّاً في فلسطين فاروق مواسي ومحمود شقير. ومن سورية عزت السيد أحمد، محمد منصور، من المغرب حسن برطال وفاطمة بو زيان، من تونس، إبراهيم درغوثي وراضية الشهابي التي تكتب الشعر المتمازج مع القصّة القصيرة جدّاً.
كما كل جنس حديث وافد إلى عالم الأدب سوف يلقى أمواجاً مؤاتية لمراكبه وأخرى عاتية كي تربكه وتعيقه وأيضاً سوف يصادف أمواجاً مترددة باتخاذ موقف منه. فالمعارضون بشدة هم الذين يحملون لواء الدفاع عن الأصالة، والخوف من التغيير ومزالقه، وأما المدافعون عن القصّة القصيرة جدّاً فهم العاشقون للثورة على القديم وكل ما هو مألوف ورتيب لتهيئة الفضاء الأدبي لعصر من الإبداع المختلف الذي يتماشى مع روح العصر. أما المترددون فهم ينظرون بحذر إلى هذا الجنس الأدبي الحديث ويراقبون كيف سيتموضع على الساحة الثقافية وهل سيثبت نفسه بين الأجناس الأخرى، كي يبنوا على الشيء مقتضاه.
أما في لبنان فيبدو أن مستقبل القصّة القصيرة جدّاً سوف يكون واعداً كون لبنان يضمّ أسماء مرموقة من كتاب القصّة القصيرة ومن الشعراء الذين يكتبون شعر الومضة. وبحسب العارفين بالإبداع وإرهاصاته فإن خير من يكتب القصّة القصيرة جدّاً هو من تمرّس في كتابة القصّة القصيرة وكذلك من يعمل على تمازج وتداخل بين الومضة والقصّة القصيرة جدّاً. وبناء عليه فقد استضيف شعراء لبنانيون في تونس في مهرجان سوسة للقصّة القصيرة جدّاً وشعر الومضة، لكي يتم التلاقح الثقافي وتنظيم ورش عمل إعلامية تحث على الاهتمام بهذا الجنس الأدبي الحديث واستقطاب المبدعين إليه،وتنظيم ندوات، وافتتاح منتديات في لبنان تعنى بهذا الفنّ الحديث.
والشعراء هم: الأديب أمين الذيب، الشاعرة جميلة عبد الرضا، الشاعرة دارين حوماني. وكانت بركة بيت تونس ولبنان الشاعرة والقاصة التونسية راضية الشهابي.
لا بدّ في الختام من كلمة، أنّ فنّ كتابة القصّة القصيرة جدّاً ليس تلخيصاً لقصّة كبيرة ومسألة تغيير أحجام فقط، وليس ادّعاء من كاتب فشل في المجالات الأخرى فوجد الخلاص في القصّة القصيرة جدّاً، بل هي رسائل تحتوي على أهمية كبرى وهي تحمل راية الدفاع عن قيم إنسانية، وتصبّ حبرها في جراحات المجتمع المفتوحة على الظلم والتهميش وغير ذلك من الأمراض لكي تجد لها متنفساً شفيفاً ساخراً يستفزّ مخزون الذاكرة الجمعية من دون مغبّة التعرّض للقمع والمصادرة.
هل ستتبوّأ القصّة القصيرة جدّاً مكانة ملحوظة بين أنواع السرد الأخرى؟ ويتبع الكتاب نظام حمية كتابية يتخلصون فيه من الإطناب، ويخفّفون من كولسترول الاستطراد، على طريقة كوني جميلة نحيلة والبسي.
وهل ستصبح القصّة القصيرة جداً فنّاً عظيماً ينجح بإحداث خرق في العادي اليومي من مألوف الأشكال والمضمون؟
دعونا ننتظر.
كاتبة لبنانية