هل تعوّض أزمة الخليج على السعودية خسائرها في الإقليم؟
د. وفيق إبراهيم
السعودية وحلفاؤها في الخليج ومصر مصرّون على شروطهم التي تستهدف دولة قطر، وصولاً لحدود إلغاء دورها السياسي وتحويلها محمية سعوديّة على منوال البحرين. مثل هذا الأمر غريب في العلاقات الدولية، لأنّ هذه المطالب لا تتحقّق عادة إلا في حروب عسكرية هي ممنوعة الآن في الخليج المتأمرك وبقرار أميركي صارم. ما هو مسموح به، هو نصب أزمة والتشدّد في شروطها حتى ترى واشنطن أنّ الظروف أصبحت مناسبة لها فتبحث عن مهدّئات وسياقات جديدة.
وما يثير حيرة الباحثين قبل الغوص في آفاق الأزمة، يتعلّق بالأسباب التي جعلت الأميركيين يبتعدون عن اتّهام السعودية بتمويل الإرهاب العالمي جوزف بايدن نائب أوباما، وأوباما شخصياً ، مع تحميلها من قِبل الكونغرس مسؤولية تفجير الأبراج في نيويورك في 2001، لأنّ المنفّذين ينتمون إلى منظمة القاعدة السعودية التأسيس و11 من أصل 18 إرهابياً فجّروا الأبراج منهم سعوديون، والمؤسس هو بن لادن السعودي أيضاً.
بدوره، الرئيس دونالد ترامب هاجم السعودية بعنف في مرحلة ترشّحه للرئاسة واتّهمها بتمويل الإرهاب العالمي وتأييد منافسته هيلاري كلينتون، فأطلق هجمات على الرياض نعتها فيها بالدولة الإرهابية المموّلة للفكر التكفيري، واصفاً الإسلام بالتخلّف والرجعية والهمجية، ودعاها إلى إعادة أموال أميركا التي سرقها آل سعود.
حتى أنّ قلائل فقط من الساسة الأميركيين لم يتّهموا السعودية ومعها تركيا ودولة الإمارات بتمويل الإرهابيين بمئات ملايين الدولارات وأطنان الأسلحة لإسقاط الرئيس بشار الأسد.
فلماذا عاد ترامب إلى مصادقة السعودية؟
تسرّبت معلومات أكاديمية تقول إنّ مكاتب دراسات وأبحاث أميركية ولوبيات سعودية في واشنطن ومستشارين في القراءات الاستراتيجية أفهموا ترامب أن لا غنى لبلاده عن السعودية، وذلك للأسباب التالية: لا تزال أميركا تستورد مليون طن من النفط السعودي يومياً، والرياض هي أهمّ زبون لمصانع السلاح الأميركية صفقات مع ترامب لشراء أسلحة بـ320 مليار دولار . وتلتقي أميركا بآل سعود في العداء الاستراتيجي لإيران وحليفهما الثالث هنا هو «إسرائيل»، بالإضافة إلى أنّ السعودية تحتوي على الحرمين الشريفين في مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، ولديها علاقات عميقة بمئات المساجد والمراكز المنتشرة في القارّات الأربع، والتي بالإمكان تحويلها مراكز «معتدلة» حسب المزاج الأميركي المطلوب، أي لمهاجمة أعداء أميركا في إيران وروسيا والصين، فيجري نزع الصفة الإرهابية عنها.
هذه هي الضرورات التي لقّنتها لترامب مكاتب الدراسات الأكاديمية والاستراتيجية والسياسيون الأميركيون المنضوون في إطار لوبيات موالية للسعودية. وتبيّن أنّ هؤلاء قبضوا 130 مليون دولار كلفة أتعابهم في السنين الثلاث المنصرمة من السعودية بالطبع. إلا أنّ العداء الأميركي العميق لإيران استحوذ على اهتمامات ترامب لتعدّد مستوياته الجيوبوليتيكية والاستراتيجية والاقتصادية، فطهران اخترقت عالماً إسلامياً تعبت واشنطن على تربيته وصيانته منذ 1945، ولا تزال تهيمن على معظم أنحائه ولا تسمح لأحد بالتسلّل إليه إلا من خلالها. لذلك، لا نزال نسمع بفُتات متساقط من تفاعلات حركتها الاقتصادية لأوروبا واليابان. لذلك تواجه طهران أقصى أنواع العداء الأميركي المتفاقم الذي تضاعف بعد تحالف إيران مع روسيا. وهذه الأخيرة ما كان يمكن لها أن تخترق سورية وتحسّن علاقاتها مع العراق وليبيا ومصر وآسيا الوسطى وأميركا الجنوبية، لولا المجابهة الإيرانية للسياسة الأميركية.
لذلك، هناك رهبتان أميركيّتان من إيران العالم الإسلامي الذي يستهلك السلع الأميركية، والعودة الروسية إلى الفضاء السوفياتي ، بالإضافة إلى تحالفاتها المباشرة مع تنظيم وقوّة. ما حتّم على أصحاب الجيوبوليتيك الأميركي أولويّة استعادة السعودية إليها للاستمرار في تطويق العالم الإسلامي، ولهذه المهمّة مراحل استباقية لا بدّ من إنجازها.
في المقابل، أدركت الرياض من خلال لوبياتها الأميركية أنّ هناك عودة أميركية لإنعاش دورها، وبما أنّها خسرت مجمل أدوارها الإقليمية أمام تركيا وإيران في الساحات العراقية والسورية واليمنية والليبية، ولم تتمكّن من بناء نظام عربي حولها، كما فشلت في رصف الصفوف في حلبتها الخليجية المباشرة. ولا تزال الاتهامات بدعم الإرهاب تطاردها من جهات دولية مختلفة، لذلك لوّحت للأميركيين بأهمية استرجاع أدوارها بدءاً بالدور الخليجي. وهذه الاستعادات تحتاج إلى شعارات سياسية كبرى، وسرعان ما تحوّل الإعلام السعودي وحلفاؤه في الخليج من استعراض منجزات الحركات الإرهابية في القتل والذبح والسبي على الشاشات مباشرة إلى نشر صور معادية للإرهاب والتشديد على ضرورة محاربته واستئصاله.
وبدت خطوات السعودية مدروسة بشكل تبدأ فيه بتحديد من حجّموا لها أدوارها، فحلّت إيران في الطليعة، لأنها هزمت الدور السعودي في اليمن وسورية والعراق، فيما تربّعت تركيا في المرتبة الثانية في الدور الإقليمي، لأنّها التهمت الدور السعودي في سورية والعراق وليبيا وتونس بواسطة الإخوان المسلمين وفروعهم الإقليمية والعربية.
وهنا، استفاد الملك سلمان من العملية السياسية المدعومة أميركياً، التي قضت بتوريث ابنه محمد وطرد منافسيه مع نصب أزمة مع دولة قطر تسحبها من المحور التركي على قاعدة تطويعها في خدمة الأهداف السعودية. وتأمل السعودية من استعادة منح دولتي عُمان والكويت ما يشبه الإنذارات للعودة عن سياستيهما المستقلتين نسبياً عن الرياض، علماً أنّ أزمات كبرى نشبت في المراحل الماضية بينها وبين كلّ من عمان والكويت كادت في ذلك الوقت أن تؤدّي إلى حروب ومعارك لولا الوساطات الأميركية.
يمكن إذن الاستنتاج بأنّ تطويع قطر عملية تؤدّي إلى تمتين الدور الخليجي للسعودية على أساس طرد تركيا منها وبناء جبهة معادية لإيران يمكن أن تضمّ الأردن ومصر وبلداناً أخرى تطوّر دور الرياض الخليجي إلى دور عربي.. ولاحقاً نحو الأهمية الإقليمية.
وبما أنّ «إسرائيل» تشارك آل سعود عداءهم الاستراتيجي، فلا بأس من إيجاد مناخات جديدة تلغي القضية الفلسطينية على أساس إلحاق قسم من الضفّة الغربية بالأردن وغزة بمصر.. فيصبح ممكناً ضمّ «إسرائيل» إلى ناتو خليجي عربي تشترط «تل أبيب» للالتحاق به اعتراف دول الخليج بـ«إسرائيلية» الجولان السوري المحتلّ، والذريعة حاضرة، وتصرّح بأنّ الجولان جزء من فلسطين المحتلة وما سرى عليه في 1948، يسري اليوم على الهضبة السورية.
لكن من دون تحقيق هذه الأدوار السعودية، وجود محور قوي إلى جانب آل ثاني، فعلى الرغم من أنّ 90 في المئة من وارداتها الغذائية والاقتصادية كانت تأتيها من خلال حدودها البريّة الوحيدة، وهي مع السعودية، فإنّ الإمداد التركي والإيراني السريع لها جوّاً، عطّل الغايات الغذائية للحصار المتعلّقة بالتجويع، كما يفعلون مع صمود اليمنيين.
ولدى قطر استثمارات في الخارج تنوف عن 230 مليار دولار وموازنة تنقص سنوياً عن المئتي مليار بقليل، وناقلات الغاز القطري تعبر الخليج بحماية أميركية، لذلك فإنّها قابلة للصمود اقتصادياً، حتى إشعار أميركي آخر.
ويبدو أنّ دوراً أوروبياً وروسياً وتركياً وإيرانياً منع إمكانية الحسم العسكري السعودي الموضوع على قاعدة الاستمرار في الوساطات… الأمر الذي يؤكّد استمرار رمي القانون الدولي في سلّة المطامع الأميركية، مع تأكيد أنّه لم يعد وسيلة للتحكيم والقضاء في النزاعات الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في 1995.
لجهة جامعة الدول العربية، فحالها أسوأ من القانون الدولي، وتؤدّي دور متفرّج مصاب بالصمم والخرس، فلا يتبقّى إلا مجلس التعاون الخليجي الذي لم يتوصّل أعضاؤه الستة إلى قرار مشترك منذ تأسيسه قبل 36 عاماً. إنّ مجمل تطوّر الأوضاع لا يوحي بإمكانية تحقيق المشروع الأميركي السعودي مآربه في استرداد الأدوار الإقليمية والإسلامية والعربية والخليجية المفقودة للرياض، خصوصاً أنّ الإرهاب المدعوم منها يضمحلّ. ما يعني إمساكاً مزدوجاً للجيش السوري على حدوده مع الأردن والعراق، وعودة الجيش العراقي إلى حدوده مع السعودية، الأمر الذي ينتج تلقائياً موازنات قوى جديدة لن تكون في مصلحة آل سعود مطلقاً… وقد تستفيد منها قطر بحكم الانكماش المرتقب للدور السعودي، وهذه حال العلاقات بين الدول، فقد تستفيد منها دولة مثل قطر أساءت لسورية والعراق بقدر الإساءات السعودية والتركية… وعند ذلك، يصبح صعباً على الرياض الاستعانة بـ«الإسرائيليين» لبناء أدوار في العالمين العربي والإسلامي ولمصلحة السياسة الأميركية.