لمصلحة مَن العودة إلى مسار المفاوضات؟
عباس الجمعة
بعد انقطاع المفاوضات الثنائية برعاية أميركية لسنوات، تعود اللغة والحديث عن المفاوضات. وهنا السؤال لمصلحة مَن العودة الى هذا المسار؟ فهل كان طرح خيار الدولة المستقلة حقيقة قابلة للتحقق أم وهماً؟ وهل ما أسفرت عنه زيارة ترامب ومبعوثيه إلى المنطقة أدّت إلى هذه المتغيّرات، وخاصة بعد أن قبض ثمن ما يجري آلاف المليارات من الدولارت، وبعد أن أصاب العمى النظام العربي نتيجة المزيد من تبعيته وخضوعه وارتهانه؟
هل يبدو الوضع الفلسطيني غير قادر على استمرار مسيرة النضال، حيث يبدو أنّ المقرّر الخارجي، وأقصد بذلك القوى الامبريالية والصهيونية هي التي باتت تحدّد ما يُسمّى بعملية السلام؟ وهل تحليل جوهر الصراع بيننا وبين الاحتلال «الإسرائيلي» كصراع عربي «إسرائيلي» إلى جانب الوضعية الرئيسية لدولة الاحتلال «الإسرائيلي» التي تحوّلت اليوم إلى حالة إمبريالية صغرى عزّزت دورها ووظيفتها في تكريس أدوات ومظاهر التبعية والتخلف واستمرار احتجاز التطوّر في العالم العربي، بما يضمن حماية وتكريس مصالح القوى الامبريالية والاستعمارية، وبالتالي لم يكن مستغرباً في مثل هذه الأوضاع تمسك التصوّر الصهيوني بلاءاته الخمسة: لا انسحاب من القدس، لا انسحاب من وادي الأردن، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة للاجئين، لا لدولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة.
أمام كلّ ذلك لم يعد مفهوماً الحديث عن حلول مرحلية، وقد عزّز هذا الاستنتاج الفشل الذريع للمفاوضات على مدار 24 عاماً، استخدمها الاحتلال لمزيد من خلق الوقائع وتقادم الأمر الواقع، كي تتحوّل المرحلية إلى نهائية في الأذهان، وتصبح الأجزاء المرحلية هي إنجازات موهومة، والأهمّ من كلّ هذا أنّ الاحتلال بات في موقع إعادة رسم معالم الصراع، بإيجاد الحلّ النهائي له وفق رؤيته…
الحلّ الصهيوني إذن، هو الدولة الصهيونية على كامل الأرض الفلسطينية، وليواجه مستقبل تجنيب «دولته» خطراً ديموغرافياً يضرب نقاوتها اليهودية، تكون الكانتونات الفلسطينية في التجمّعات الكبرى عبارة عن حكم محلي معزول أو حكم ذاتي شكلاني موسّع يمكن أن يُطلق عليه صفة «دولة»، ولكن لا حق وطني جامع له، بل كانتونات تتمّ تغذيتها بمخدّر إغاثي تحت مسمّى الرفاه والنماء، وما أطلق عليه نتنياهو مؤخراً تسمية «السلام الاقتصادي»، حيث يتحوّل البحث عن الغذاء كغاية، وعن غاية البقاء الإنساني عند اللاجئين في مخيمات المنافي بإعادة تأهيلها وليس عودتهم.
وفي ظلّ كلّ النتائج الكارثية التي نعيشها اليوم، هناك نخب فلسطينية تجد مصالحها الضيقة باسترضاء التحالف الأميركي – الصهيوني، عبر المزيد من الهبوط والتنازلات والاستسلام للوعود التخديرية لرؤساء الولايات المتحدة وصولاً إلى ترامب، التي تراكمت وتشابكت وتكرّرت بصور ممسوخة من دون جدوى في مسار المفاوضات، التي أوصلت معظم أبناء شعبنا إلى حالة من الاقتناع بأنّ شعار الدولتين وفق أوسلو والرؤية الإسرائيلية الأميركية مدخل كاذب لحلّ كاذب، خاصة لحق العودة والسيادة على الأرض والموارد.
ولذلك نقول على القوى الوطنية والسياسية بمختلف أطيافها أن تسعى إلى حماية الإنجازات التي تحققت والحفاظ على المشروع الوطني والتمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية والعمل على تطوير وتفعيل مؤسساتها، ودعم انتفاضة ونضال الشعب الفلسطيني الذي يحافظ على الاشتباك مع الاحتلال بوتائر تتناسب مع إمكانياته ومتطلبات النضال الطويل الأمد، ورفض أيّ حلول تنتقص من الأهداف الوطنية المشروعة.
إنّ الوضع الفلسطيني الآن يفرض علينا المراجعة الجدية الهادئة والمعمّقة لكافة الأفكار التي طرحت خلال العقود الماضية، بعد أن بات الحلّ المطروح والقائم على أساس الدولة المستقلة، أسيراً للشروط الأميركية «الإسرائيلية»، وبعد أن تحوّل النظام العربي إلى حالة غير مسبوقة – من العجز والتخاذل نتيجة سياسة التطبيع مع كيان الاحتلال، والتخلّي عن عناصر القوة والمقاومة والبعد العربي، ودعم تكريس الانقسام المؤسسي والجغرافي بين الضفة والقطاع، وما جرى من حصيلة أفقدت الواقع الفلسطيني أسلحته المعنوية.
هنا نتساءل ما هي تلك الغنيمة الهائلة التي يتنازع عليها أصحاب هذا النهج، لا شيءَ سوى مزيد من التفكك والانهيارات والهزائم، فالانقسام لن يحقق نصراً للفلسطينيين، وهذا الاستنتاج الواقع الراهن الذي يعيشه أبناء شعبنا في الوطن والشتات.
لذلك نرى أنه أصبح على شعبنا الفلسطيني وقواه السياسية والمجتمعية في الضفة والقطاع وكلّ مخيمات المنافي واللجوء أن يتوقفوا عن صمتهم وأن يبادروا إلى ممارسة الضغط الشعبي الجماهيري عبر الاعتصامات والمظاهرات بشعارٍ موحّدٍ هو «إنهاءُ الانقسام» والعودة الى الاحتكام للشعب والانتخابات الديمقراطية من أجل تكريس الوحدة الوطنية أساساً وحيداً لصمود شعبنا والارتقاء بنضاله السياسي والكفاحي من أجل أهدافه وثوابته الوطنية في التحرير والعودة وتقرير المصير، لأنه لا معنى ولا قيمة أو مصداقية لأيّ نضال وطني سياسي أو كفاحي في ظلّ الانقسام والصراع والمصالح التي تريدها حركة حماس، أيضاً لا معنى أو مصداقية أو إمكانية لتحقيق أي هدفٍ وطني فلسطيني من دون الخلاص من هذه الحالة الانقسامية التي كرّست عوامل القلقِ والإحباط واليأس في صفوف أبناءِ شعبنا في كلّ أماكن تواجدهم مع تزايد عدوانية الاحتلال، حيث يعيش شعبنا الفلسطيني اليوم في مواجهة خريطة سياسية جديدة، مما يستدعي الانطلاق إلى رحاب الجماهير الشعبية والتوسّع في صفوفها لكي يستعيد شعبنا من جديد، فعالياته النضالية وأفكاره وقيمه الوطنية والديمقراطية والاجتماعية التوحيدية، ويطرد قيم الانتهازية المذلة التي لن تحقق سوى المزيد من التفكك وانسداد الآفاق.