ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

ما قبل الثامن من تمّوز … من مرويّات الأمين جبران جريج

مقالات عدّة كُتبت في ذكرى الثامن من تمّوز: عن المؤامرة، على سعاده والحزب التي شارك في تنفيذها حكّام مأجورون في كل من لبنان والشام، عن موقف سعاده التاريخي في المحكمة، حديث الأب برباري الذي عرّفه، وعن وقفة العزّ على رمال بيروت.

أما ما لم يُعرف عنه كثيراً، فهو ما أورده الأمين جبران جريج في الجزء الرابع من سلسلة «مع أنطون سعاده»، وهذا بعض ممّا رواه:

«قرار تاريخي» الصفحات 87-89

«بدأ الزعيم يدرس فكرة القيام بانقلاب اقترحها عليه بعض الضباط الاعضاء في شعبة السلك التي كنتُ أرأسها، خصوصاً من قبل الرفيق معين حمود 1 الذي كان يلحّ ويلح كثيراً.

ولإعطاء فكرة عن قوة هؤلاء الضباط القوميين الاجتماعيين في شعبة السلك، فإني أسمح لنفسي بأن اعلن ان عددهم يتجاوز العشرات من مختلف الرتب، بدءاً من رتبة نفر وعريف صعوداً إلى رتبة عقيد. فلا يُستغرب، وهذا هو الوضع العسكري، أن يبدأ الزعيم بدرس فكرة القيام بانقلاب».

«كانت الخطوة الاولى أن أمرني الزعيم بدعوة بعض الضباط للتعارف، ففعلت ولَكَم كانت دهشتهم كبيرة عندما التقوا في دار الزعيم وبينهم رئيس الشعبة الثانية الحسواني 2 ».

«كانت الخطوة الثانية لقاءات ثنائية بينه وبين اكثر من ضابط في احد المنازل، او في أحد الامكنة.

التقى مثلاً بالعقيد غطاس 3 في منزل فيليب كلاب 4 الذي كان احد المعاونين في شعبة السلك، وقد كانت ثمرة هذا اللقاء إدخال احد الضباط في الحزب وإشراكه في هذه المحادثات، وذلك بناء على ثقة العقيد فيه. والتقى أيضاً في إحدى القرى القريبة من بنت جبيل بأديب الشيشكلي 5 الذي كان على رأس فرقة من المتطوّعين للدفاع عن فلسطين ضدّ اليهود، يعاونه في القيادة شقيقه صلاح 6 ، وأكرم الحوراني 7 . كذلك أرسل في طلب أبو طقة 8 ، للاستشارة».

«كان قد أرسل بواسطتي في طلب أديب الشيشكلي الا انه اعتذر، فذهب إليه، كما أن الضابط نبهان 9 والضابط حمود دخلا في المشاورات.

كانت الخطوة الثالثة استشارات وجس نبض فاستدعى الحسواني، على سبيل المثال، وسأله بصراحة كلّية وثقة تامة فيه: ماذا يكون موقف قائد الجيش في حال القيام بانقلاب ونجاحه؟ فكان الجواب: يؤدّي التحية ويطيع الشرعية الجديدة».

«هذه مقتطفات للخطوات التي أخذتُ علماً بها، وقد تكون هنالك خطوات أخرى لم تصل إلى مسمعي، فلا شك في أنّ ثمة اتصالات وعمليات سبر غور كثيرة، كما أني لست هنا في صدد اعطاء تفاصيل بهذا الشأن، فقد تكون هذه التفاصيل ضمن مواد ستنشر في مكانها في تاريخ الحزب 10 ».

«أما على الصعيد المدني، فسامي الصلح كان المرشح لتأليف حكومة الانقلاب ومعه بعض الشخصيات السياسية الاخرى التي لم اطّلع على أسمائها، ولكن أذكر ان ثمة استشارة مدنية جرت مع المطران بولس الخوري، الصديق، بشأن استلام الحكم فكان جوابه بما معناه: يقول المسيح، قبل أن يعلن ملك حرباً على ملك آخر يجب ان يحصي قوّته وقوّة عدوّه حتى إذا رأى أنه الاقوى، عندئذ يبتّ بأمر الحرب ويعلنها».

«يبدو ان كل شيء كان قد استكمَل دراسته عندما دعاني وأبلغني أني مصادَر إلى أجل غير مسمّى فيجب ان اكون تحت تصرّفه طوال النهار والليل. لا شكّ في أني لبّيتُ غير مستغرب الامر وأنا المطّلع، وإن جزئياً على هذا المشروع».

«دام استنفاري هذا مدة ثلاثة ايام. استدعاني في نهايتها إلى مكتبه وقال لي: يمكنك ان تعود إلى حياتك العادية فقد قررتُ صرف النظر عن المشروع، ولما لاحظ أمارات التساؤل على محياي، أردف قائلاً: قلّبت الموضوع من كل جوانبه وبقطع النظر عن إمكانيات النجاح او الفشل، توصلتُ إلى قناعة أخيرة انه لا يجوز ان يسجل التاريخ ان الحزب السوري القومي الاجتماعي طعن الجيش اللبناني الرابض على الحدود لمحاربة العدو اليهودي طعنة في الظهر. ثمّ أضاف: عند لقائي بأديب الشيشكلي على الحدود، وهو يضع فرقته تحت أمرة الحزب قلت له: قد يكون المانع من تنفيذ هذه الخطة وجود الجيش اللبناني على الحدود متأهباً لقتال اليهود».

«رجحت عنده هذه الفكرة فاتخذ هذا القرار النابع من الوجدان القومي العميق والذي فيه بُعد نظر للمستقبل القريب او البعيد. قلت بيني وبين نفسي حقاً، انه لقرار تاريخي».

ويورد في الصفحة 88: «وتأييداً لما أوردته جاءتني الزهرة سورية الحاج بهذا الكلام عن لسان العقيد في الجيش اللبناني غطاس لبكي الذي كان عضواً سرياً، عن رفض الزعيم للانقلاب عام 1948».

وفي الصفحة 89 يوضح الأمين جريج أنّ سعاده ناقش الضباط القوميين الذين حاولوا إقناعه بأن يوافق على الانقلاب، كون لبنان خالياً من كلّ سلطة والجيش يواجه العدوّ على الحدود، فكان يجابههم بالرفض والحجج العسكرية والروح القومية، وأخيراً أمهلهم قائلاً سأعطيكم الجواب النهائي غداً بعد أن أدرس الموضوع من كل نواحيه العسكرية والسياسية والقومية.

«وفي اليوم الثاني حضروا في الموعد المضروب وكان اعتقاد الضباط انهم تمكّنوا من إقناع الزعيم بإحداث انقلاب، ولكنه واجههم بما عرف عنه من تضحية في سبيل أمّته والذود عن جيش بلاده فقال لهم: إنني لا أودّ أن يسجّل التاريخ عليّ أنني طعنت الجيش اللبناني في ظهره عندما كان يواجه العدو. نحن القوميون الاجتماعيون مع الجيش اللبناني في مواجهة العدوّ».

9 حزيران في الجميزة الصفحات 163-164

«حضرتُ اجتماع مديرية ساقية الجنزير وتوجهت إلى منزل الرفيق جورج ربيز في المزرعة حيث كنت مدعواً لتناول طعام العشاء. كان الاجتماع ناجحاً نجاحاً منقطع النظير، فقد كان الحضور بنسبة 98 في المئة. كنت فرحاً، ولكن ما كدتُ اجلس إلى المائدة وأمدّ يدي إلى الزاد حتى فاجأني دخول احد الرفقاء ليقول لي، بعد تأدية التحية وبلهجة تدلّ على قلق ظاهر: يا حضرة المنفذ العام، يدعوك الزعيم إليه حالاً. لقد وقع حادث اعتداء على المطبعة وهناك عدد مصاب بجراح».

«نهضت فوراً ألبّي الطلب وعلى الطريق أخذ الرفيق يحدثني عمّا سمعه عن الاعتداء: كان الزعيم في المطبعة يحرر مقالة للجريدة وكان ينتظره وفد حزبي من دمشق، وإذ يأتي بعض الرفقاء يبلغونه بأن الفلانج حزب الكتائب يعقدون اجتماعاً في مقهى يقع عند زاوية الطريق المؤدية إلى المطبعة وأنّ الاهتياج يسودهم… وأن الزعيم، بناء على اقتراح الوفد الحزبي باستحسان إجراء اللقاء معه في غير هذه الاجواء، غادر المطبعة».

«هنا برزت ظاهرة الهيبة التي كان يفرضها الزعيم في كل مكان، فقد تقدم الزعيم، بعد استعراضه الجموع، ليستقل السيارة، على مهل وسط تأدية الرفقاء التحية والهتاف بحياته. أما الشباب الكتائبي المحتشد فأذهله ظهور الزعيم ومظاهر التحية والجِدّ والنظام التي صاحبت مغادرته فتجمّد وراقب المشهد من دون حراك».

«وصلت السيارة إلى دار الزعيم المجاور لمستشفى الدكتور خالدي رأس بيروت من دون أيّ حادث، واجتمع بالوفد الحزبي ولكن لم يطل به الوقت حتى تلفن إليه رفقاء جهاز التحرير في الجيل الجديد 11 يعطون انباء الهجوم الغوغائي الطائفي الذي ضمّ عدداً لا يقل عن مئة وخمسين أو مئتي عنصر، وقد جرح ثلاثة رفقاء واستطاع رفيق واحد فقط من الافلات هو الوكيل وديع الاشقر 12 ».

«استقبلني الزعيم على الفور وأطلعني على الاعتداء باختصار وكلّفني بضرورة اتخاذ تدابير استطلاعية لمعرفة ما يجري، إن في المطبعة او حول المطبعة أو في المخفر القريب جداً من مكان الحادث، الذي لم يحرّك ساكناً».

ويورد تحت عنوان «المهمة الثانية» ص 166 ما يلي:

«طلب الزعيم على الاثر ان يتم الاتصال بمن يلزم والقيام بعملية رد فعل فوري لاعتقاده الثابت ان الاعتقال مهزلة من المهازل نظراً للارتباط القائم بين الموقوفين والمحققين. كان الرفيقان المغواران محيي الدين كريدية واحمد حكيم من الرفقاء الاشداء في بيروت موجودين في بيت الزعيم وكذلك كان احد خريجي مدرسة الضباط الحزبية البارزين لم يورد الأمين جريج اسمه فاجتمعتُ بهم وعرضت عليهم فكرة الرد فلقيت قبولاً لديهم.

«وضعوا خطة للتنفيذ. وامتطوا السيارة التي قادها الضابط المذكور متجهين إلى مخفر الجميزة للاستطلاع.

عرجوا على مكتب الحزب في شارع المعرض لسحب بعض الاوراق الحزبية، وأكملوا سيرهم إلى المخفر ليجدوه فارغاً، مطفأ الانوار. كان التحقيق الصوري قد انتهى ـ على ما يبدو ـ في هذه الفترة الوجيزة.

كلّ ما فعلوه انهم قاموا بجولة أو جولتين حول البازنافال 13 ، ولكن من دون جدوى، فعادوا إلى بيت الزعيم وأطلعوه على ما جرى».

المهمة الثالثة ص167- 168

«استأذنتُ الزعيم بالاتصال بالرفيق حسواني، رئيس الشعبة الثانية العسكرية، علّه مطلع على خطة المؤامرة التي تنفّذ بكلّ دقّة فسمح على ألا أغيب طويلاً، لأن الوقت ضيق.

ذهبتُ بمفردي وقمت بالاتصال فوجدته يفتش عن وسيلة للاتصال بي، فلديه معلومات هامة: لقد دعي إلى القصر الجمهوري الذي كان يشهد انعقاد مجلس الوزراء، فرأى رياض الصلح يعربد ويحرّض. هو المحور لكل شيء. وزير الداخلية جبرائيل المرّ، أصفر الوجه، يقاوم ولكن بضعف متناه. يأمر رئيس الوزراء فيعارض بالروح فيما الامر يذهب في مجراه التنفيذي. رئيس الجمهورية شاهد زور، موافقته صامتة».

«قال لي: جئتَ في وقتك. سيداهمون منزل الزعيم، والاوامر في طريقها إلى قيادة بيروت العسكرية لتطويق منطقة رأس بيروت. بالله عليك، اذهب، لا وقت للانتظار».

«كان الليل قد انتصف وبينما انا عائد إلى بيت الزعيم خطر لي أن أمرّ بالرفيق محيي الدين كبي، الموظف في بنك سورية ولبنان المركزي. انه يمضي ليله فيه. في لمح البصر كنت ارنّ الجرس واذ به يحضر إلى الباب المقفل بعدة اقفال. فتح لي، تلفنت، سألت ليطمئنني 14 عن الوضع الذي أقلقني. وقال لي مخاطبِي بالحرف على لسان نافذ من الكتائبيين إنّ هؤلاء القوميين يجب تربيتهم وإذا الحكومة ما بتربّيهم نحنا وحدنا نتكفّل فيهم. على كل حال ستسمع أخبار تعجبك، كل شيء مرتّب ومدروس».

«حملت معي هذه الأخبار الفاضحة خطة التآمر، إلى الزعيم الذي اقتنع بأنه لا بدّ من مغادرة المنزل قبل فوات الأوان. كان ينوي أن يعود الجرحى في المستشفى، فوقف بعض الرفقاء من مسؤولين وسواهم يحولون دون هذه الرغبة. إن سلامة القضية هي في سلامته. يجب تأمينها كيفما كان قبل أن نندم، ولات ساعة الندم».

«في عجلة فائقة، أفرغ جوارير المكاتب من الاوراق الحزبية ووضّبها في شنطة وسلّمها لأحدهم وتمنطق بمسدسه كمن ينوي المقاومة. في هذه الاثناء حضر الرفيق فؤاد نجار 15 الذي كان على اتصال بالشيخ أسعد طوبيا الذي كان ضابط اتصال بين الزعيم وبين رئيس الجمهورية. حضر وهو يحمل أسف رئيس الجمهورية الذي يناشده بالمحافظة على أعصابه وعدم الاقدام على أيّ ردّ ويعِده بالاقتصاص من الفاعلين وبمشاركة الدولة للحزب في استنكارها هذا الاعتداء وعزمها على معاقبة المعتدين».

«كان اللقاء في مدخل البناية المجاورة في جنح الظلام. أخذ علماً بالنصيحة وغادرنا إلى جهة مجهولة بعد أن أجاب على سؤال الأمين قبرصي عن كيفية الاتصال: سأتصل انا بكم وبقدر ما تمدّونني بالمعلومات أمدّكم بالتعليمات. وانصرف وكان ذلك اللقاء آخر لقاء بيني وبينه».

نسخة مصحّحة ومعدّلة عن تلك المعمّمة في 06/07/2015

هوامش:

1 معين حمّود: مراجعة ما نشرناه عنه في قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

2 الحسواني: لا يورد الأمين جبران الاسم الاول. لذا سألت الأمين شوقي خير الله فأفاد أن الاسم هو الياس الحسواني .

3 غطاس: كذلك لا يورد الاسم كاملاً، وإن كنا نرّجح أنه العقيد غطاس لبكي.

4 فيليب كلاب: من منطقة بلاد جبيل. انتمى في سنوات العمل السري، والتقى والدته الرفيقة أدال باسيل كلاب في أحد الاجتماعات الحزبية نرجّح أنه اجتماع أول حزيران 1934 ولم يكن يعرف أحدهما عن انتماء الآخر.

5 أديب الشيشكلي: كان قومياً اجتماعياً وتسلّم الحكم في الشام إثر انقلاب ناجح.

6 صلاح الشيشكلي: شقيق الرفيق أديب. كان من أوائل الذين ساهموا في عملية تدريب القوميين الاجتماعيين. ذكرته أكثر من مرة في نبذات سابقة.

7 أكرم الحوراني: الوزير، والقائد البعثيّ المعروف. كان قد انتمى إلى الحزب وتولّى مسؤولية منفذ عام حماه.

8 أبو طقة: هو النقيب مخايل أبو طقة، وقد ذكره الأمين شوقي خير الله كثيراً في مذكراته، منها في الصفحة 170.

9 النقيب جوزف نبهان: من الضباط القوميين الاجتماعيين الذين ساهموا في تدريب صفّ الضباط.

10 ليس في علمنا أنه تمّ نشرها لاحقاً في أيّ مكان.

11 «الجيل الجديد»: جريدة الحزب التي كانت تُطبع في «مطابع فضّول» في الجمّيزة.

12 وديع الأشقر: مراجعة النبذة المعمّمة عنه على الموقع المشار إليه آنفاً.

13 «البازنافال»: تعني «القاعدة البحرية» التي سلّمتها القوات الفرنسية عند انسحابها، إلى حزب «الكتائب» ليتخذ منها مركزاً له، هو القائم حالياً في منطقة الصيفي.

14 لم يوضح الأمين جريج من هو الشخص الذي اتّصل به هاتفياً.

15 فؤاد نجار: للاطّلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى الموقع المذكور آنفاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى