المؤسسات الدستوريّة ليست أحزاباً: تعلّموا من الرئيس برّي
د. وفيق إبراهيم
رئيس الحكومة وكوكبة وزراء ورؤساء أحزاب من نهج سياسي متشابه… أطلقوا منذ أيام عدة رمياً عشوائياً حادّاً أصاب خمس دول مع حزب الله…
التهمة كالعادة حاضرة، وهي الإرهاب والتدمير والقتل، مع إضافة منع النازحين السوريين من العودة إلى بلادهم بكرامة، حسب ما ورد في «إبداعات» المهاجمين. ولأنّ الهجوم على سورية وإيران والعراق أصبح روتيناً ممجوجاً، أُضيفت أفغانستان لأنّ ميليشيات منها تقاتل في سورية. ولبنان لا يمنع حزب الله من القتال في الإقليم حسب مزاعمهم، فعل يحق لهؤلاء السياسيين الإساءة إلى بلدان مجاورة لها علاقات دبلوماسية وتاريخية مع لبنان؟ وهل يجوز لهم تبنّي سياسات فئوية داخلية، تؤدّي إلى تصدّع نظام مركّب بطريقة طائفية ومذهبية؟ وما مدى انسجام سياساتهم الفئوية مع المؤسسات الدستورية والسياسية التي يترأّسونها؟
بداية، لا بأس من الإشارة إلى الفارق الكبير بين المؤسسة الدستورية والحزب السياسي. فالأولى هي محصلة إجماع تاريخي تعبّر عن القواسم الاجتماعية المشتركة ومصالح الدولة العليا، فلا تنحو مناحي فئوية أو تتبيّن سياسات تعطّل علاقات بلادها بالخارج أو تفجّر الوضع في الداخل. والمؤسسات الدستورية الأساسية في لبنان هي الرئاسات الثلاث الجمهورية ومجلس النوّاب والحكومة مع وزرائها…
وهناك متفرّعات دستورية ترتبط بهذه الرئاسات في الجيش والقضاء والتعليم والدبلوماسية. وهذه تعمل وفق نصوص الدستور والتوجيهات الرسمية.
بالنسبة إلى النوّاب، فهؤلاء ممثلون لتيارات شعبية وأحزاب سياسية، ولهم الحق بإبداء الآراء التي ينتمون إليها لأنّهم لا يعبّرون عن مواقف بلدانهم أمام الخارج، وإنّما أمام الشعب. لذلك لا يمكن لمن يتولّى موقعاً دستورياً أساسياً أن يتسبّب بتوتير علاقات بلده مع الخارج، وأن ينفّذ سياسات تخدم محاور خارجية ضدّ محاور خارجية أخرى.. وعليه بالتالي أن لا يستغلّ المنبر الدستوري الذي يترأسه لتوتير الوضع الداخلي.
وهذا يكشف عن الفارق القانوني بين تصريحات رئيس الحكومة سعد الحريري ومعه الوزراء المشنوق والمرعبي وحمادة من جهة، وتصريحات رؤساء أحزاب القوات سمير جعجع والكتائب سامي الجميّل والاشتراكي وليد جنبلاط والمستقبلي أحمد الحريري.
أمّا السيد حسن نصرالله، فهو قائد حزب إقليمي له فروعه «الأصلية» في أكثر من بلد، ويتمتّع بدور تاريخي ذي وضعية قانونية مذكورة في كلّ من مقدمة الدستور، إلى جانب حراب مقاتليه الذين يدافعون عن المنطقة في وجه «الإرهاب المعولم».
تكشف نتائج هذه المقارنة عن الأخطاء الدستورية الكبيرة التي يقترفها يومياً الرئيس الحريري ووزراؤه في حق الدستور اللبناني أولاً واللبنانيين ثانياً، باعتبار أنّ المؤسسات الدستورية ليست أحزاباً وتحالفات يملكها كلّ مَن يرأسها، بل عليه أن يطبّق سياسات المصالح العليا للدولة التي هي بالنتيجة مصالح اللبنانيين بأجمعهم، فيوازن في العلاقات بين الدول القريبة والبعيدة… ومواقف الرئيس الحريري تشجّع وزراءه على التصعيد الخطير. وتكفي هنا العودة إلى الشتائم التي أطلقها وزير النازحين معين المرعبي بحق السوريين والعراقيين واللبنانيين، مصرّاً على منع النازحين السوريين من العودة إلى بلادهم لأنّهم لن يكونوا آمنين كما زعم… أتراهم كان يجب أن يعودوا في زمن «داعش» و«النصرة» فيحوّلون نساءهم سبايا ورجالهم إرهابيين؟
أما الوزير مروان حمادة، فبدا في تصريحه كمن يعلن حرباً على إيران وسورية والحشد الشعبي الذي يشكّل جزءاً من الجيش العراقي، وليس جيش طوائف القرون الوسطى. فهل هناك اتفاق حكومي على هذه التصريحات؟
لا شكّ في أنّ هناك خللاً كبيراً في مفهوم تولّي المؤسسات الدستوريّة التي لا يمكن مطلقاً أن تصبح من أملاك السياسيين فيجولون فيها حسب علاقاتهم الإقليمية.
من هنا، يتوجّب على القوى السياسية المؤيّدة للمقاومة رفع الصوت عالياً في وجه هذا الخلل الدستوري الخطير المهدّد بالتفاقم إلى ما لا يُحمد عقباه. وإذا كان رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون وجد فائدة في الاعتراف بالرئيس السوري بشار الأسد، فهل للأسد مصلحة في أن يعترف به أمثال الذين يهاجمونه في لبنان؟ ومَن بحاجة إلى الآخر لبنان أم سورية؟
اسألوا التاريخ القريب، فالأزمات لا تدوم، وليست السعودية مَن تستطيع فتح الحدود السورية مع لبنان، إذا قرّرت دمشق إقفالها ردّاً على مهاجمتها. أمّا مسألة أن ننساق لتطبيق السياسات السعودية في لبنان عبر حزب المستقبل وحلفائه، فهذا أمر لن تقبله القوى السياسية الأخرى التي لها أيضاً تحالفاتها الإقليمية.. الأمر الذي يؤكّد أنّ تحويل المؤسسات الدستورية أحزاباً سياسية في خدمة السياسات الإقليمية أمر مرفوض وخطير… والانحياز الدستوري لتأمين أموال دعم من السعودية إلى حلفائها اللبنانيين لن يمرّ مرور الكرام.
لجهة قادة الأحزاب من جعجع إلى أحمد الحريري وسامي الجميّل وجنبلاط، فهؤلاء لهم ملء الحق بتنظيم هجمات إعلامية على قوى في الإقليم، شرط أن لا تدرك حدود الشحن المذهبي والطائفي، كما يفعلون دائماً، لكنّ القانون لا يحاسبهم لأنّهم ليسوا قادة دستوريين، وحسابهم هو مع جمهورهم صاحب الحق في التعامل معهم.
وباعتبار أنّ تجربة الرئيس ميشال عون جديدة، وتؤشّر تدريجياً إلى ممارسة صحيحة للأداء الدستوري النظيف الموازن في العلاقات الخارجية والداخلية، فإنّ استقراء تجربة رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي ذات فائدة قصوى لعراقتها الزمنيّة.
الرئيس برّي موجود في العمل السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي… قاد تنظيماً مقاوماً هو حركة أمل التي جابهت «إسرائيل»، وتواصل قتالها حالياً ضدّ الإرهاب. لقد اتّسم أداء الرئيس بري بنموذجين: مرحلة قيادته لحركة أمل وتجربته التاريخية في رئاسة المجلس النيابي.
إبّان مرحلة القيادة الشعبية، كان يجاهر باصطفافه إلى جانب المحور السوري الإيراني، ويعمل من أجل تهيئة الدروب لمجابهة «إسرائيل» وحلفائها. وكان قائداً فذّاً محاوراً لم يقطع مرة واحدة مع أيّ من التنظيمات اللبنانية، مهما اختلف معها. لذلك تميّز بمرونة تعكس صلابة وإيماناً بموقف لا يتزعزع.
ومنذ تولّيه رئاسة المجلس، بقي الرئيس برّي على قناعاته الإيديولوجية والسياسية، لكن سُبُل التعبير عنها اختلفت حرصاً منه على حيادية الرئاسة الدستورية التي يتولاها في بلد «كثير المصائب» والتوجّهات.
ولا يزال يرعى الوجهة المقاومة لحركة أمل، مع تشدّده في إظهار حيادية في العلاقات مع الدول العربية والإقليمية، فيستقبل الإيراني والسعودي والقطري والسوري والأميركي بالحفاوة والترحاب نفسيهما، من دون أن يقدّم تنازلات سياسية لأحد… يتناقش معهم عاكساً المصالح العليا للدولة، وإذا سألوه عن موقف حركة «أمل»، فإنّه يحيلهم إلى القيادات العاملة فيها حالياً، التي تعكس في النهاية وجهة نظره… لذلك لا يفرّ الرئيس برّي إذا أراد عدم مصافحة سفير، كما فعل البعض مع السفير السوري الذي كان يتقدّم بالتهنئة للرئيس ميشال عون، ولا يشتم الفريق السعودي أو الأميركي… مكتفياً فقط بالتحذير من التعامل مع «إسرائيل» أو التحالف معها.
وأخيراً… تعلّموا من «أبي مصطفى» فنون الحرص على الوحدة الوطنية الداخلية، فهو مدرسة متكاملة في فنون التعبير عن السياسات العليا للدولة، والتمسّك بحركة التاريخ.