الإمام: الشعوب المنتصرة تنسج من جراحها فنّاً ورقيّاً
رانيا مشوّح
من مكان تحدّه الدماء من كافة الجهات، وفي زمان أحاطه المشيب إلى الزمن القادم، تتساقط الاحتمالات العابثة، وتُهدر القيم على أزقة النفوذ والفقر، فكانت الحرب التي لا تبقي على الإنسان ذاته وآدميته، لكن بقي لقاطنيها ميراثاً قدّموا كل ما لديهم للحفاظ عليه، فكانوا حاملي الوصية.
في محاولة لقلب الفاجعة إلى ابتسامة على وجوه أرهقها الظلام لتحفر في ذاكرة الأيام خلوداً وعظمة، افتتح برعاية وزير الثقافة السوري محمد الأحمد عرض مسرحية «الوصية» للمخرج ممدوح الأطرش، حيث تحاكي المسرحية واقع المجزرة التي تعرّضت لها مدينة عدرا العمّالية على يد الإرهاب والظلم الممثّلة بتنظيم «داعش» الإرهابي، والتي خط سطورها أحد شهود المجزرة فيصل الراشد.
حضر العرض عدد من الشخصيات السياسية والثقافية والفنية والإعلامية ووفد من أهالي مدينة عدرا العمّالية. افتتح العرض توفيق الإمام معاون وزير الثقافة، الذي صرّح قائلاً: تم دعم هذه المسرحية من خلال مديرية المسارح والموسيقى ومن وزير الثقافة شخصياً. شاهدنا مشاهد كثيرة تدلّ على عَظمة سورية، فالشعوب التي تؤمن بالفنّ لا بدّ أن تكون شعوباً منتصرة. شاهدنا مشاهد النصر على هؤلاء الإرهابيين الذين حاولوا بكلّ الوسائل تدنيس تاريخ هذا الشعب وحضارة هذا البلد العظيم.
كما تحدث الدكتور فيصل المقداد نائب وزير الخارجية فقال: آلة القتل التي مارسها هؤلاء الإرهابيون ضدّ المدنيين الأبرياء والتدمير الذي نال كل أجزاء سورية يجب أن يكون مدعاة لتوحيد جهودنا من أجل مكافحة الإرهاب وكسب هذه المعركة. وأنا أرى أننا نقترب من الانتصار النهائي بفضل التضحيات التي يقدّمها الجيش السوري، وبفضل الدعم الذي نتلقاه من حلفائنا سواء في روسيا الاتحادية أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو من حزب الله في لبنان أو من الذين يؤمنون بحرّية الإنسان في كل مكان في العالم. نحن مقبلون على النصر وجيشنا يحقّق المزيد من الانتصارات لكي ينتصر لهؤلاء الذين ذهبوا ضحية هذا الإجرام والممارسات الإرهابية في عدرا العمّالية وفي كلّ أنحاء سورية.
بدوره، تحدّث إلى البناء الفنان ممدوح الأطرش مخرج العمل وأحد أبطاله، وقال عن الوصية التي حملها على كاهله والتحدّيات التي تعرض لها وصعوبة نقل الصورة مسرحياً: هذا النوع من العروض المسرحية، يعدّ من أصعب العروض تقديماً على خشبة المسرح، وخاصة إذا كانت الحالة تحمل الوثيقة. الوثيقة التاريخية بإثباتها وواقعيتها وتوثيقها، وتحويل الوثيقة إلى حالة درامية. هذا صعب جداً، إضافة إلى الجديد في العمل وهو توظيف لغة الجسد إضافة إلى لغة الكلمة لإيصال مفهوم محدّد يحمل رسالة ما، بمفهومها العام هي لُحمة هذا الشعب المعطاء رغم انتماءاته الفكرية والثقافية والاجتماعية الكثيرة والمتعدّدة. رغم طوائفه المتعدّدة، دائماً هذا الشعب تجمعه المصيبة ويلتحم وينسى كل الخلافات ويوحد نفسه ليشكل جبهة صامدة ضد كل معتدي يحاول غزو هذه الأرض وأعتقد أن سرّ صمود سورية حتى هذه اللحظة هي لمة ووحدة هذا الشعب.
ورغم تعرّضه لوعكة صحية هدّدت ظهور العمل إلى النور قال الأطرش: أثناء التمرينات، وكان وقت العرض قريباً، أصبت في عيني بانفصال شبكية، ما استدعى إجراء عمل جراحيّ فوريّ وسريع. استغرقت العملية ما يقارب ست ساعات، لكنني تابعت عملي بعد ثلاثة أيام واستأنفت البروفات لأنه لا مجال إلا لنقل الأمانة الى الجمهور. هذا حسّ الفنان مع الناس، لذا يجب أن يهتم بفكرهم وألا يخذلهم، وأن يوصل إليهم الصورة بشكلها الصحيح.
دارت أحداث المسرحية حول عدد من الشخصيات البطولية التي قاست مرارة الحصار والموت وشهدت أبشع أساليب التعذيب. ومن هذه الشخصيات شخصية المهندس حسين غنوم مدير وحدة تصنيع المخابز والمطاحن الآلية والذي كان يشغل وقتها مدير عام الشركة العامة للمخابز، حيث كان مطلوباً من قبَل عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي.
وعن واقع المجزرة ومدى قدرة العمل على إيصال جزء من المعاناة الحقيقية تحدّث المهندس حسين غنوم، البطل الحقيقي، إلى «البناء» قائلاً: أوصل العمل الكثير من المعاناة والدلالة على وحدة سورية وشعبها، لكن المعاناة الحقيقية لا يستطيع أن ينقلها أيّ كان. رسالتنا سابقاً ولاحقاً هي أن كل مسؤوليات الأرض تحت أقدام الناس، لكن الدولة فوق الرأس، ورسالتي لكلّ سوري ولكلّ عربيّ اعمل لبلدك تعيش أنت وولدك، اعمل لنفسك تموت أنت ونفسك لنا الفخر كسوريين بأننا هزمنا بقيادتنا وشعبنا وجيشنا أعتى هجمة بربرية عرفها التاريخ الحديث والقديم، لأنهم فَجَرة وكَفَرة لا يشبهون حتى الحيوانات، أنا لم ألقاهم لكنني سمعت أصواتهم ورأيتهم لحظة خروجي عندما أخفتني نساء سورية وخلّصنني من أيدي هؤلاء الكَفَرة وأوصلنني إلى برّ الأمان.
كما قال الكاتب أحمد سلامة صاحب السيناريو والحوار عن محاولاته في إيصال الصورة المؤلمة بقالب مسرحي ساخر: اعتمدت على قالب واحد في كتابة المسرحية، وهو قالب الإقناع والإمتاع، حيث أوصلنا صورة ما حدث في مدينة عدرا العمّالية من أحداث جمعناها من أشخاص عاشوا بالمعاناة، وعن خونة سمعنا عنهم وجسّدنا خيانتهم ووثّقنا كل ما كان. وقالب الإقناع كان في شخصية «خلف» كما كانت فعلاً كوميدية في الواقع. النصّ المسرحي نصّ مباشر بين الممثل والجمهور ومدى إمتاعه أكبر. كما أن الممثل يستمد المعنويات من الجمهور، والجمهور ببقائه حتى نهاية العرض دليل متعته في العرض.
كما أكدت مزنة الأطرش المنسّقة الإعلامية للعرض، أن سورية مستمرة في الإبداع رغم ما تمر به، فقالت: سورية منذ بداية العدوان عليها وحتى الآن مستمرّة في تقديم الثقافة والفنون بمختلف أنواعها رسالة المسرحية أن الشعب السوري لم ولن يتنازل عن شبر واحد من أرض سورية. ونحن نحارب الإرهاب بالكلمة والفنّ النبيل والإرث الحقيقي الذي تربّينا عليه.
في حين تحدث إلى «البناء» الفنان أكرم الحلبي بطل العمل، عن العرض وعن الاستهلاك النفسي الذي يتعرّض له الممثل الناقل رسالة وطنية غير مألوفة، ودور الفنان الذي يلامس الحرب بكامل تفاصيلها يومياً: الجميع اهتموا بالسؤال عن الشخصية التي جسّدتها في العمل، لكننا كفنانين أمام هذا الوضع في البلد عشنا أزمة رهيبة تعرفونها، والمقولات التي قيلت عن الفنانين الذين بقيوا والذين هاجروا. لا لم تكن القصة هكذا، نحن كأيّ مواطن سوري يعيش في سورية عانى من هذه الأزمة، هناك ظروف أجبرته على الخروج وهناك آخرون قرّروا البقاء وأنا منهم. الجانب الثاني من حياتنا كفنانين عاشوا الأزمة أن نتمكن من تقديم رسالة من خلال وظيفتنا الفنية، حاولنا كثيراً من خلال التلفزيون لكن الأعمال لم ترتقِ إلى حالة البلد والناس. المسرح أقوى بكثير لنقل الحالة وخصوصاً من خلال الشخصية التي جسّدتها. صنعنا منولوجات وتحدّثنا عن كل وجع الناس الأطفال والأمهات والشهداء والوطن. المسرح هو أبو الفنون وإله الفنون، أحمد الله أننا قدّمنا هذه الرسالة من خلال وجودنا في هذا البلد.
أما محمد شما أحد أبطال العرض فقد تحدّث إلى «البناء» عن العمل وعن دور «أبي القعقاع» الأمير «الداعشي» الذي جسده حيث قال: هذا العمل هو وصية، كاتب العمل كان أحد المحاصرين داخل قبو وله صديق هو ممدوح الأطرش فشعر أن منيته حانت بسبب هذا الفكر الظلامي الوهابي فكتب هذه الأحداث، والحمدلله أنه نجا من بين براثنهم، وحضر العرض معنا.
وأضاف: هؤلاء «الداعشيون» لا أفكار ولا دين لهم، هم أدوات عميلة لدول. باتت الصورة واضحة وجليّة لكل إنسان. هم أحجار دينامو كما قال الرئيس بشار الأسد. حاولنا نقل الوصية والحالة المكتوبة إضافة إلى حالة الرقص والاختلاجات الروحية التي كانت تعبّر عن السجين ولوحة الحريق. للأسف جمهور المسرح ضعيف، لكنني كنت سعيداً اليوم بهذا الحضور الكبير ونتمنّى عودة المسرح الذي فنى أناس كثيرون أعمارهم في سبيل علوّه ونشأته.
وعن دوره في العمل صرّح الفنان فادي الحموي: هذه وثيقة تاريخية نقدّمها عن شخصيات حقيقية، مهما قدمت لا أستطيع مساواة البطل الحقيقي للقصة، ماهر جرير هو خريج معهد موسيقي وهو موجود حالياً في ألمانيا، اضطر لإعلان إسلامه حتى لا يُقتل لأنهم وصلوا إلى مدينة عدرا مع قوائم للأشخاص الذين سيقتلونهم. حادثة عدرا هي واحدة من ضمن آلاف الحوادث التي حدثت في سورية. ما يميّز هذه المسرحية هو الكاتب فيصل الراشد الشاهد على المجزرة وموثّق المجزرة، وهو من أخفى حسين غنوم لمدة عشرين يوماً خلف البراد حتى لا يقتل. نحن ما زلنا نعاني من الحرب، هناك قصص كثيرة ستظهر للعلن بعد الحرب بقساوتها، وبدورنا اليوم حاولنا نقل الصورة بواقعيتها ونقل حالة حقيقية عن الأشخاص الذين عاشوها.