مواصلة الاستثمار في النزوح السوري في لبنان بطلب إقليمي ودولي!
د. وفيق إبراهيم
تجاوز عدد النازحين السوريين في لبنان أكثر من ثلث السكان المقيمين على أرضه، ما يشكّل ضغطاً اقتصادياً دائماً وكبيراً في بلد مفلس فاقت ديونه المئة مليار دولار، ولديه موازنة سنويّة لا تزيد عن عشرة مليارات، وتضيف بعجزها المتكرّر لائحة إلى الديون القائمة مزيداً منها.
ولا تعادل المساعدات الدولية للنازحين أكثر من ثلاثين في المئة من كلفتهم، يتسرّب نصفها تقريباً إلى جيوب السياسيين والوسطاء والسماسرة المحليين من الذين يشتمون من على شاشات التلفزة النظام السوري ليلاً نهاراً كي يقبضوا أكثر من القوى المعادية لدمشق.
هناك أسباب فاقمت من أزمة اللجوء وتتعلّق بالوضع الأمني في مخيمات النازحين السوريين، التي تحوّلت مراكز لتجنيد إرهابيين للزوم منظمات التكفير وسط غياب «متعمّد» من الدولة اللبنانية المضغوط عليها من سياسات إقليمية ودولية لممارسة سياسات «التعامي» إلى حدود دعم الإرهاب وتسهيل حركته من بعض الفئات المتمسّكة بالدولة.
لكنّ سياقات الحرب ذهبت عكس ما اشتهته الدول الداعمة للإرهاب ومواليهم في لبنان. حرّر الجيش السوري نحو ثلاثين ألف كيلو متر مربّع من بلاده رابطاً بين الشمال قرب حدوده مع تركيا وحتى جنوباً مع حدوده مع كلّ من العراق والأردن وقبالة الجولان السوري المحتلّ. فبدت الفرصة تاريخية لعودة القسم الأكبر من النازحين في لبنان، لأنّ معظمهم تهجّر من هذه المناطق. وتحقيق هذا الأمر يتطلّب القضاء على بؤر إرهابية لتنظيمات تكفيرية سوريّة ترابط في أنحاء من جرود عرسال وبعض الأنحاء السوريّة.
وحدثت المفاجأة من طرف القوى اللبنانية المحسوبة على السعودية وتركيا، وبالتالي الولايات المتحدة الأميركية. لقد رفضت هذه القوى عودة النازحين، لأنّها «بلا كرامة وغير آمنة»، حسب زعمهم. وسجّلوا رفضاً لأيّ تنسيق مع الدولة السوريّة حول هذا الموضوع لأنّهم لا يتفاوضون مع نظام قاتل. وبدا التنسيق في تعابير الشتم الموجّهة إلى الدولة السورية مرتفعاً، ما يدلّ على أنّ الملقّن هو واحد… من سمير جعجع إلى مروان حمادة ومعين المرعبي ورئيس الحكومة سعد الحريري ووزير داخليّته الذي يوزّع صوره على معظم جسور بيروت أبو صالح نهاد المشنوق… كلّهم لجأوا إلى اللغة نفسها التي تعلن رفضاً مطلقاً عودة النازحين رغم شكواهم الدائمة من الانهيار الاقتصادي في لبنان.
مَن هي القوى التي ترفض عودة النازحين؟ وما هي ارتباطاتها العربية والإقليمية والدولية؟
هناك حزب المستقبل السعودي الولاء والطاعة لأصحابه آل الحريري، وحزب القوات اللبنانية الأميركي السعودي، القطري التركي، و»يتفرنس» أحياناً للانسجام مع هدية المؤسّسين التاريخيين للبنان. وكذلك حال الكتائب «الأميركي والسعودي والفرنسي»، ومع مَن يمنحه نفوذاً أكبر لأيّ جهة انتمى. ومعه شبيهه حزب الوطنيين الأحرار الأقلّ نفوذاً، أمّا الحزب التقدّمي الاشتراكي فلديه القائد الذي يوازن حسب اتجاهات الريح، إلى جانب أجنحة يهمس لها القائد ما لا يستطيع قوله علناً، وهذه واحدة من أهميات الوزير مروان حمادة والنائب نعمة طعمة.
إلى جانب هؤلاء، هناك تيارات دينية رسمية وغير رسمية تنجذب إلى تأييد السياسة السعودية بالغريزة المذهبيّة، فتطلق صرخات تعمّق الشرخ المذهبي والطائفي وتؤيّد سعد الحريري مهما قال.
ماذا الآن عن قوى الإسناد الإقليمي التي تتكئ عليها قوى الداخل اللبناني؟ السعودية أولاً ودورها معروف في تجويع النازحين وتقنين مساعداتها إليهم، لدفعهم للانتظام ضمن المنظمات التكفيرية التي تتولّى توزيع المساعدات بشكل حصري. اللوموند ديبلوماتيك 2015 2016 في تقارير ميدانية منشورة أكثر من مرة .
ولا يستهين أحد بدور تركيا رغم أنّها تتولّى النازحين السوريين في أراضيها، والفنون العثمانية في تحويلهم إرهابيين تكفيريين. لكن لأنقرة سبل نفوذ على النازحين من خلال جماعات الإخوان المسلمين في لبنان، التي تتسلّل إليهم من خلال الشعارات الدينية وتحثّهم على الصبر ومقاتلة النظام.
ولا يمكن نسيان الدور القطري الذي استباح سيادة لبنان بالتواصل المباشر مع القوى الإرهابية في جبهة النصرة وإفرازاتها في جرود عرسال والشمال اللبناني والبقاعين الأوسط والغربي، ناثراً الأموال في كلّ جرد ووهدة وقمّة.
ودولياً، هناك الولايات المتحدة الأميركية التي تمتلك اتصالات مباشرة مع جمعيات وأحزاب لبنانية لها عناوين إنسانية، لكنّها تشكّل في العمق أجنحة لقوى التكفير والإرهاب. لذلك تؤثّر واشنطن على القوى الإقليمية والعربية والجمعيات والأحزاب، ومعها بالطبع جوقة العازفين البريطانيين والفرنسيين ومجمل الأوروبيين، ولأنّ الاستثمار الأميركي في القوى الإقليمية والعربية مباشرة وفي الاستثمار بشكل غير مباشر في قوى الإرهاب لم ينجح. لذلك اختارت الذهاب إلى المفاوضات مع الطرف الروسي للاتفاق على مناطق «خفض التوتر» في شمال سورية وجنوبها الغربي ووسطها وشرقها في محاولة «شيطانية» لإعادة «تقويم» مشروعها المتهالك، وذلك بإعادة قسم قليل من النازحين الشبّان إلى هذه المناطق وإعادة تمويلها وتسليحها بالدعم الخليجي، لتكون في مواجهة الدولة السوريّة وتؤمّن استمراراً طويل الأمد لأزمة سورية.
ومع الاقتناع السعودي بهذا المشروع كمحاولة لوقف ارتدادات ما حدث في سورية والعراق من انتصارات لمشروع الدولتين الوطنيّتين على الداخل السعودي وبالتالي الخليجي.
لذلك أوعزت السعودية إلى الأحزاب اللبنانية الموالية لها بمنع عودة النازحين السوريين إلى بلادهم بالوسائل التي يرونها، وكذلك فعلت الإمارات وتركيا والدول الأوروبيّة… والسياسة الأميركية… وهناك أسباب أخرى لمنع عودتهم. ولأنّ الدول قويّة بشعوبها، فإنّ عودة مليون نازح إلى بلدهم سورية يعزّز مناعتها الشعبيّة ويعيد إليها الاستقرار في المساحات التي تديرها، ويخفّف من دور التنظيمات الإرهابية في الاجتماع السياسي السوري، فلا يعود بوسعه اللعب على أوتار الفتن المذهبية والطائفية والكفّار والفرنجة والصليبيين. بدليل أنّ أصواتاً من النازحين بدأت ترتفع بالقول إنّ شعوب الأرض تنوء بصناعة طعامها وبناء اقتصادها وتحقق أُسس التقدّم الدائم «ونحن نتلهّى بالقراءات الإرهابية للدين».. و»نشرّع القتل والسبي والتخلّف والجاهلية». و»لا نسأل عن المستقبل المقلق».
يتبيّن بالاستنتاج أنّ القوى اللبنانية التي ترفع شعار منع عودة النازحين ليست إلأ أدوات لتحسين موقع المفاوض الأميركي مع الروسي والسعودي مع الدولة السوريّة، ولبنان آخر المستفيدين من هذه اللعبة… ومعه أيضاً ملايين النازحين السوريين الذين يريدون العودة إلى ديارهم في الدولة السوريّة التي يرأسها الرئيس السوري بشار الأسد لإعادة بناء بلادهم وعائلاتهم ومستقبل أطفالهم المهدّدين بالجوع والقتل والتحوّل إلى قتلة مجرمين من مقلّدي أسامة بن لادن والجولاني والبغدادي، وموالي بعض اللبنانيين الذين يجهلون أنّ مستقبل بلدهم وإخوانهم السوريين أكثر أهميّة من حفنة من الدولارات وكميات كبيرة من التعصّب الطائفي البغيض الذي لا يبني أوطاناً ولا اُمماً…