بوتين.. روسيا القرن الـ21
سماهر الخطيب
شكّل يوم السابع من تموز، على الصعيد العالمي، يوماً تاريخياً في اللعبة الدولية التي أظهرت بأنّ القدر لا بدّ أن يعطي كلمته ليسطّرها تاريخ البشرية الحافل بالنزاعات والصراعات، ومَن يمتلك القوة لديه الفرصة السانحة للتأثير في التاريخ، وبالنتائج للبرهنة على عظمته أو محدوديته.
لقد أثار لقاء الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، في قمة العشرين التي عُقدت في هامبورغ بألمانيا، أثار الكثير من التساؤلات ودفع الكثير نحو التحليلات وإطلاق التوقعات ما بين ترامب الذي يطمح إلى العظمة، رغم الانتقادات التي يتعرّض لها داخلياً وخارجياً، وبين العظمة التي يتمتّع بها بوتين، لأنه يحظى بدعم غير محدود في المجتمع الروسي، لا بل والعالمي وهذا يعني أنه يستطيع بثقة متابعة مساره السياسي.
وإذا ما تطرّقنا إلى العلاقات الروسية الأميركية، فإنّ الرئيس بوتين كان قد أعلن منذ توليه السلطة في عام 2000، عن استعداد روسيا للتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في جميع المجالات، لكن بشريطة أن يكون هذا التعاون مفيداً وعادلاً لكلا الطرفين.
بَيْد أن الرفض الأميركي لأفكار التكامل مع روسيا توارثه الرؤساء الأميركيون الواحد تلو الآخر، وأرادوا الولايات المتحدة دولة متميّزة واستثنائية لا بديل عنها، بسياسات انتهازية ونرجسية لم تعد بفوائد كبيرة على الولايات المتحدة فنجدهم قد نشطوا في توسيع الناتو وإسقاط الأنظمة غير المرغوب بها، ودعم الانقلاب في أوكرانيا وغير ذلك من التصرّفات الأخرى غير المسؤولة.
أما آخرُها فكان في عهد ترامب وسياسته الضبابية وخطته «اللا خطط» والمتنافرة مع بعضها والتي عرضت متزعمها ترامب لضغط نفسي هائل من خصومه في الكونغرس ووسائل الإعلام، حتى أن أعضاء فريقه نصحوه بأن يجعل حديثه مع بوتين قاسياً ومحفوفاً بالاتهامات والإنذارات التي يجب تنفيذها. وهذا ما لم يستطع ترامب تنفيذه حتى لا يقف على عتبة وضع خطير ومبهَم التطورات، لاسيما أن أجواء الكراهية التي تسود في واشنطن قد تقود مصادفة إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة والناتو من جهة أخرى، وتكون نتائجها كارثية للعالم.
وفي العودة إلى بوتين صاحب المعادلة الصعبة في لعبة التوازنات الدولية، نذكر هنا أنه وقبل سبعة وثلاثين عاماً كان الاتحاد السوفياتي أقوى اتحاد للدول في العالم وبحلول عام 2000 تنبّأت معظم مراكز الدراسات والصحف العالمية كمجلة الشؤون الخارجية الأميركية ولوموند والأيكونوميت وغيرها، تنبّأت جميعها بأن يتمكّن الاتحاد السوفياتي الممزّق من إزالة الضرر والتعافي للعودة إلى الساحة الدولية من جديد كلاعب قوي نال جرعات العلاج الشافي وإن لم يكن الاتحاد، فلتكن وريثته الدولية «روسيا» في عهد بوتين تحديداً الذي ما أن تسلّم دفة القيادة حتى بدأ العد التنازلي للعودة وتحديث روسيا لمواكبة القرن الجديد.
فمنذ عشر سنوات وتحديداً عام 2007 وصفه فريق مجلة التايمز «رجل العام 2007». وها هو وبعد مرور عشر سنوات يصفه المحللون والخبراء الاستراتيجيون بل والرؤساء حتى «رجل العام 2017». ونذكر هنا عندما قال هنري كيسنجر بأنه «شديد الوعي وفائق الذكاء» لا يتقبّل عدم المبالاة بروسيا والتهجّم عليها. وما فعله طوال تلك السنوات هو فرض الوجود الروسي على الساحة الدولية ليس كما أراده الأميركيون تحصيل حاصل ونائب فاعل، إنما فرض عين لا يمكن تجاوزه ولا يُستثنى فاعله ومفعوله.
كما أكد بوتين في خطابه السنوي أمام الجمعية الفيدرالية الروسية عام 2005، بعد استعادة النمو والاعتراف بروسيا، «أن الحقيقة الواضحة هي أن تفكّك الاتحاد السوفياتي كان الكارثة السياسية الطبيعية الأعظم في القرن العشرين». وقد شكّل هذا التصريح إعلاناً واضحاً عن النية لاستعادة كبرياء الاتحاد الروسي المفقودة.
ونذكر هنا أنّ فترة بوتين بالحكم تلاقت مع فترة جورج دبليو بوش الذي عامل روسيا كأحد مشتقات مقاربة الأميركيين إلى القضايا الأخرى، ولم تكن من أولويات سياستها العامة. وقد واصلت العلاقات الروسية الأميركية تدهورها في عهد بوش، وبدلاً من التقدّم في توسيع المعاهدات النووية والبالستية.. كان إهمال هذه الأمور هو السائد وظلت الولايات المتحدة تنتقد روسيا بسبب استعادة ملكيتها لشركة «يوكس للنفط» وبقي بوش يدفع نحو إنشاء محطات رادار متقدمة في جمهورية تشيكيا لتنبيه بطاريات الصواريخ البالستية المضادة للصواريخ في بولندا على افتراض اعتراض الصواريخ الإيرانية الموجهة ضدّ الولايات المتحدة أو حلفائها الأوروبيين، حينها عرض بوتين إنشاء محطات رادار في روسيا وإقامة تعاون روسي أميركي وجهود مشتركة. وكان بوش متمسكاً برأيه بسبب هذه المسألة وانتقد روسيا لعدم اتخاذها مواقف متشددة في الأمم المتحدة بصدد العقوبات ضدّ إيران.
سئم الروس من بوش وإدارته، وظهر ذلك جلياً عندما تكلم بوتين في ميونخ في شباط 2007 في المؤتمر السنوي للسياسات الأمنية، حيث هاجم السياسة الأميركية بحدّة وكأنه يتكلم اليوم: «إننا نشاهد اليوم استعمالاً للقوة المفرطة غير المضبطة – القوة العسكرية – في العلاقات الدولية. قوة تغرق العالم في جحيم من النزاعات الدائمة. نشاهد ازدراء أعظم للمبادئ الأساسية للقانون الدولي والمعايير القانونية المستقلة أصبحت في الحقيقة أقرب إلى نظام قانون دولة واحدة، وبالتأكيد وبالمقام الأول الولايات المتحدة التي تخطت حدود وطنها في جميع الاتجاهات».
هذا الخطاب وفق برنت سكو كروفت، الجنرال الأميركي المتقاعد، كما ورد في «أميركا والعالم» انتهى بنداء لم يُولَ ما يستحقه من انتباه خاصة عندما وجّه بوتين دعوة للتعاون قائلاً: «الآن هو وقت التعاون. يجب أن نتعاون على الأسلحة النووية ويجب أن نتعاون على عدم انتشارها، ويجب أن نتعاون على الطاقة النووية لكي لا تشعر أي أمة بالحاجة إلى تخصيب الأورانيوم وتخزينه ثم تزويده لتوليد الكهرباء وللأغراض السلمية الأخرى مع ملاحقة وضبط كل التزويدات هو أمر مهم جداً للأمن العالمي».
بحلول عام 2004 كانت ثورة الشيشان، تحت السيطرة وأحوال روسيا المالية في تحسّن مطّرد وشهدت سنوات 2005 و2006 و2007 فورة كبيرة في مداخيل روسيا من تصدير النفط والغاز ومبيعات الأسلحة، بالإضافة إلى تجارة الذهب والماس وتصدير الأخشاب.
كما استعاد الجيش الروسي ثقته وأطلق برنامجاً لتحديث معدّاته ودعم الأبحاث والتجارب الفضائية وتطوير صواريخ الشبح الطويلة المدى ولعب دوراً ريادياً في استعمال تقنية «النانو». وكان تشديد روسيا على تقنية النانو هو دليل على أنّ البلاد استعادت ثقتها في قدراتها العلمية. وحتى الاقتصاد الروسي شهد نمواً مضطرداً وحتى أثناء اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 وضع بوتين روسيا على أقدام ثابتة وزاد الناتج المحلي الإجمالي من 220 مليار دولارعام 1999 إلى 1300 مليار دولار عام 2007 وانخفض التضخم من 89 إلى أقل من 9 والاحتياط الخارجي ما عدا الذهب المنتج في روسيا زاد من 10 مليارات دولار إلى 700 مليار، كما خفضت روسيا موجباتها الدولية من أكثر من 140 مليار دولار إلى أقل من 40 مليار دولار.
كما عمل بوتين بجدّ على عزل آسيا الوسطى من أجل إبقاء الغرب قدر المستطاع خارج هذه المنطقة، حيث تقدمت العلاقات مع الصين وإيران باستمرار إلى أبعد مدى ممكن توّجت هذه العلاقات في ما بعد بمجموعة «بريكس» ومنظمة «شنغهاي» للتعاون ومشروع «طريق الحرير الجديد».
وبين عامَي 2007 حتى 2009 أحرزت روسيا مكاسب تكتيكية واستراتيجية هامة إن كان على المدى القصير أو ذات المدى الطويل، كما دخلت الشركات الروسية إلى قطاعات اقتصادية هامة في الغرب مثل «لوك للنفط» التي تملّكت «فيني أويل» في الولايات المتحدة بجميع أصولها.
كما استحوذت وكالة حكومية روسية 5 من أسهم الشركة الأوروبية للدفاع الجوي والقضاء «أي آي دي أس» المصنعة الأوروبية لطائرات إيرباص وكذلك في 2008 كان استثمار مبلغ 4 مليارات دولار من قبل شركة «إيغراز» الروسية و«تي أم كيو» مدعاة للدهشة، كما تمّ الشراء من شركة «أس أي آي بي» أكبر منتج للفولاذ في السويد. ومن نتائج هذه العمليات بالنسبة إلى الولايات المتحدة أن الشركتين الروسيتين ستصبحان أكبر مزوّد للأنابيب الفولاذية لصناعة الطاقة الأميركية ذات الحساسية السياسية وغيرها الكثير من الإنجازات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتكنولوجية والتي لا تزال في تزايد حتى اليوم.
أما استراتيجياً فكان الإنجاز الروسي الأكبر هو تشويه سمعة السلطات المعنوية الأميركية وإخفاق احتدام النظام الرأسمالي بقيادة أميركا التي امتصّت موارد العالم المالية. هذه الخسارة هي خسارة دائمة، وصياغة ميثاق جديد لتنظيم مالية العالم وتقلبات العملات والتجارة. وأنّ دور أميركا الأولي وتأثير الدولار قد انخفضا بدرجة كبيرة، لا بل حتى دورها السياسي شهد تراجعاً ملموساً.
لم يسترجع الاتحاد الروسي تحت إدارة بوتين فخره واعتزازه فحسب، بل زرع الأمل والثقة بالمستقبل وجعل روسيا، كما وعد أحد أعضاء الدول السبع الكبار بوقت أقصر مما توقعه الآخرون لتغدو رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه رغم العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب مع أميركا بين الحين والآخر.