«ساعة الصفر» لعبد المجيد سباطة… من مساءلة الواقع إلى سؤال التاريخ!
عثمان بوطسان
الإصدار الثاني للكاتب عبد المجيد سباطة، رواية «ساعة الصفر» عن المركز الثقافي العربي 2017 جعل من الوقت والتاريخ فلسفة الواقع. فالواقع أي الحقيقة الأدبية لا يختلف عن الواقع الأصل أي الحقيقة المعيشة التي يعبر عنها الكاتب من خلال رحلة الشخصيات عبر التاريخ. في الرواية تتعدد الحقائق، فكل شخصية تُخفي حقيقة ما، وكل مكان يرتبط بتاريخ وزمان معين. لذا، فالفلسفة التي اعتمدها الكاتب، خلقت رواية بمنظور أدبي جديد، فرواية «ساعة الصفر 00:00» في مجملها حكايات يشد بعضها بأطراف البعض الآخر. وتدور أحداث الرواية حسب الكاتب حول عثور السلطات البوسنية في قرية جبلية منسية على مقبرة جماعية جديدة من مخلفات حرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي، ضمت رفات سبعة أشخاص، وحقيبة جلدية نجت بأعجوبة من التلف، وضم جيبها السري مفاجأة غير متوقعة، ساعة يدوية توقفت عقاربها في ساعة الصفر 00:00، وأوراقاً غامضة مكتوبة باللغة العربية التي لا يتقنها إلا عدد قليل من البوسنيين.
والوقوف عند العناصر المشكلة للخطاب الروائي الذي تتميز به رواية «ساعة الصفر 00:00» يتم على منهجين: المنهج الاول، اعتمد فيه الكاتب تقنية التفكيك الكلي الرواية إلى الجزئي الزمان والمكان والأحداث والشخصيات . أما المنهج الثاني، فقد اعتمد الكاتب على رمزية الخطاب السردي وجعل من الوقت شيفرة يصعب فهمها، لأنه فكك كل العناصر ووسع رقعة الزمان والمكان، متجنباً بذلك السقوط في رتابة الحكي ومتجاوزاً النظرية التقليدية للرواية. كما أن الكاتب ابتعد عن المعنى التراتبي للأحداث وخَلقَ شخصية بفلسفة روائية جديدة، مبتعداً بذلك عن البطل النموذجي باعتماده لشخصية مجهولة.
عبد المجيد سباطة، كاتب ومدون مغربي من مواليد مدينة الرباط عام 1989، حاصل على شهادة الماجستير في الهندسة المدنية في كلية العلوم والتقنيات جامعة عبد المالك السعدي في مدينة طنجة صدرت له روايتان، الأولى «خلف جدار العشق» عن دار «نوفا بلس» الكويتية 2015 ، والثانية بعنوان «ساعة الصفر 00:00»
ما هي العلاقة التي تربطك بالأدب؟
ـ كنت في الخامسة من عمري عندما أهداني والدي قصة مصورة موجهة للأطفال، وطلب مني قراءتها، ولأنني نشأت وحيد أبوي، فقد توطدت علاقتي بالكتاب منذ نعومة أظفاري، مستفيداً من تشجيع ودعم أبي وأمي. الكتاب اعتبرته بالفعل أفضل صديق لي، صحيح أن ظروف الدراسة أجبرتني على اتباع مسلك بعيد كل البعد عن الأدب، إلا أن ذلك لم يمنعني من التمسك بعشقي لسحر الكلمة والحرف، واستمر ذلك حتى بعد حصولي على الماستر، أنا أعتبرها علاقة حب، والعاشق الحقيقي لا يتخلى عن معشوقه مهما باعدت بينهما الظروف والأزمان.
روايتك الجديدة «ساعة الصفر 00:00» إنتاج أدبي مُتخيل أم اقتباس عن الواقع؟
ـ تشق رواية «ساعة الصفر 00:00» طريقها الخاص بين جموح الخيال وسطوة الواقع، ما يصعب معه تصنيفها ضمن اتجاه معين، حكاية الراوي مجهول الاسم الذي تم العثور على مذكراته في مقبرة منسية في البوسنة والهرسك، هو الباحث عن حقيقة ماضيه بين ثنايا حاضره، مستعيناً باعترافات أمه الراحلة، تتداخل مع وقائع تاريخية تنطلق من مجزرة وهران التي سبقت الإعلان عن استقلال الجزائر في ستينيات القرن الماضي، مروراً بمعاناة المهاجرين العرب في مرسيليا، وواقع المغرب في بداية التسعينيات قبيل الإعلان عن وقف إطلاق النار بين القوات المسلحة الملكية المغربية وجبهة البوليساريو في الصحراء، وصولاً إلى مأساة البوسنة والهرسك في حرب البلقان، في النصف الأول من العقد الأخير في القرن العشرين.
ما هي الرسائل التي يحاول عبد المجيد سباطة تمريرها من خلال هذه الرواية؟
ـ تنتهي مهمة الكاتب بعد إتمامه لعمله، وعلى القارئ فك رموز الرواية ومحاولة تبين الرسائل الممررة بين سطورها بنفسه، يمكن القول إن «ساعة الصفر 00:00» تحث القارئ على متابعة دورة التاريخ بتمعن وحيادية، ليفهم حقيقة ما يحصل في الحاضر، ما دام هذا الأخير مرتبطاً بالماضي وربما المستقبل أيضاً بشكل وثيق للغاية، وهذا ما قد ترمز له الساعة اليدوية المتوقفة، لم يتم اختيار البوسنة والهرسك كساحة أساسية للعمل بشكل اعتباطي، فنحن هنا أمام انهيار دولة تبعه صراع قومي وسياسي تم إلباسه رداء الدين لتأجيجه أكثر، لتظهر مع مرور الوقت فظاعة الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان باسم معتقداته البريئة أصلاً من وحشيته، تخاطب «ساعة الصفر 00:00» الإنسان كيفما كان، بغض النظر عن اسمه ومعتقده وطائفته، منذ صرخة ولادته الأولى إلى ساعة موته، وما يعيشه بينهما من ضياع وتيه وبحث مستمر عن إجابة شافية لأسئلة قد لا تكفي سنوات عمرنا القصير لفك ألغازها، قد يولد الحب في ظروف غريبة ومفاجئة، لكنه سيذبل ويموت إن لم يعش في المكان والزمان المناسبين، للمكان دلالة واضحة أيضاً في «ساعة الصفر 00:00»، فرغم تعدد الأمكنة وهران- مرسيليا- الرباط عين اللوح- تندوف- سراييفو- الريف البوسني- موستار إلا أن حضورها وتأثيرها على العمل ظاهر للعيان، من خلال حمولتها النفسية والوجدانية والروحية، هذه رسائل ضمن أخرى أترك للقارئ مهمة اكتشافها بعد قراءة الرواية.
ما موقفك من الساحة الأدبية المغربية؟
ـ تشهد الساحة الأدبية المغربية دينامية لا تغفلها العين، ويمكن القول بأن الرواية المغربية بخير، وربما تعيش أفضل فتراتها، كما أن مجموعة من الإصدارات الشعرية والقصصية والروائية نالت جوائز، أو وصلت إلى القوائم الطويلة والقصيرة لجوائز عربية وعالمية مرموقة، والإقبال الكبير عليها من قبل القراء المهتمين ملحوظ، ما يثبت أن الأديب المغربي لا يقل في شيء عن نظيره المشرقي، وقد يتفوق عليه في أحيان كثيرة، الأدباء الشباب قادرون على حمل مشعل الأدب المغربي الحديث، بأفكارهم الجديدة وأساليبهم المختلفة الناجمة عن تأثرهم بالتيارات الأدبية العالمية، فقط وجب كسر جبل الجليد بينهم وبين نظرائهم المخضرمين، فالثقافة في نهاية المطاف ليست حكراً على أحد، ولا وجود في الأصل لما يصطلح عليه بالأسماء كبيرة ما دام النقاش في النهاية يتجه صوب تفرد العمل الأدبي وتميزه، لا اسم أو شهرة صاحبه.
ما هو الأدب العالمي الذي انفتحت عليه كثيراً وهل هو حاضر في روايتك؟
ـ كما أشرت إلى ذلك في إجابتي عن طبيعة علاقتي بالأدب، ارتبطت بالقراءة منذ سن مبكرة، وحرصت على التنويع في مطالعاتي، بين الأدب العربي الكلاسيكي والحديث، روائع الكلاسيكيات الفرنسية، سحر الأدب الألماني، تفرد الأدب الروسي، عجائبية الأدب اللاتيني وجمالية الأدب الأميركي، أنا مؤمن بأن الاحتكاك بهذه الأساليب المختلفة سيمكن الكاتب المجتهد من خلق أسلوب متفرد خاص به، مستفيداً من نقاط قوة هذه الأساليب ومتحاشياً نقاط ضعفها، بالتأكيد تأثرت بكل التيارات الأدبية التي ذكرتها خلال كتابتي لرواية «ساعة الصفر 00:00»، في بناء الشخصيات وصياغة الأحداث وخلق الحبكة المتماسكة القوية واللغة الرشيقة السلسلة المناسبة، لكنني أؤكد دائماً على الفصل بين التأثر والتقليد، فالفرق شاسع بينهما.
لماذا مفهوم الوقت؟ هل هي فلسفة أم تجربة حياة أم انعكاس للحياة الأدبية في الفضاء الروائي؟
ـ شهدت الأحداث تكرار سؤال معين على لسان عدد من الشخصيات التي خاطبت الراوي المجهول قائلة: «لماذا تضحي بنفسك لإنقاذ طفلة لا تربطك بها أي علاقة ؟» ومع ذلك كانت إجابة الراوي تختلف عن سابقتها، قال في البداية إنه ينفذ وصية والدتها الراحلة، ثم أجاب مرة ثانية بأنه لا يقوم سوى بواجبه في زمن أصبح فيه القيام بالواجب عملاً بطولياً، ورد على الاستفسار في النهاية بأنه رأى في الطفلة نور مستقبله هو، وخشي أن يتكرر معها ما حصل له من عذاب، وكل هذا بسبب تدرج علاقته المضطربة مع الزمن، الذي جسدته ساعته اليدوية المتوقفة في ساعة الصفر، عندما قال غنه ينفذ وصية أميرة كان كيانه أسير الماضي الذي كبله بأغلاله، وعندما تكلم عن القيام بالواجب حاول بذلك معايشة حاضره، ثم انتقل إلى الحديث عن الخوف من تكرار مصيره هو مع الطفلة بسبب تخوفه المبهم من المستقبل المجهول، إنها علاقة الإنسان الطبيعية مع الزمن بكل أسراره وتقلباته، بين سطوة الماضي وعجلة الحاضر ورعب المستقبل، كما أن الساعة المشيرة إلى 00:00 تشير بالفعل إلى توقف الزمن وعجز أبطال العمل عن القيام بالخطوة المناسبة نحو الأمام، أو حتى العودة إلى الوراء، بشكل تتماهى فيه الدلالة مع ضبابية بداية النهاية أو نهاية البداية، وصولاً إلى مشهد الختام والمفاجأة التي خلفها، ما سيمنح المسألة بعداً ودلالة أخرى سأترك للقارئ مهمة اكتشافها بنفسه.
يُلاحظ أنك تشتغل كثيراً على اللغة، ما هو السبب؟
ـ الرواية كما نعلم فن سردي يقوم على السرد، واللغة عماد السرد، وإن كانت مفاهيمهما مختلفة تماماً، اللغة «وحدها» قد تصنع موضوعاً إنشائياً أو بعض الخواطر، لكن استخدامها بالطريقة المناسبة هو الذي يصنع سرداً متماسكاً، والروائي المتمكن هو الذي يحسن توظيف لغته ويضبط إيقاعها بالمقادير الملائمة خدمة للسرد، وعندما نتحدث عن التجارب أو المدارس السردية فنحن أمام تجارب واضحة، إما سرد لغة أقرب للشعر، أو سرد يبسط اللغة حتى تصبح قريبة من الاستعمال اليومي، أو ما بينهما. اعتمدت رواية «ساعة الصفر 00:00» على لغة يسميها الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف باللغة الوسطى، فلا هي مغرقة في المحسنات والزخارف والبهرجة، ولا هي مطابقة للعامية أو اللغة المستعملة بشكل يومي، وقد يتماهى ذلك مع طبيعة الرواية نفسها، نحن هنا أمام راو عاش في مرسيليا ثلاثين سنة، تعلم العربية في سن متأخرة كلغة ثانية على يد بريجيت نوسي، والدته الراحلة التي نشأت في مدينة وهران الجزائرية، طبيعي إذن أن يكتب مذكراته بلغة متوازنة سلسة لا هي ترتفع إلى مرتبة الشعرية المطلقة، ولا هي تنزل إلى مستوى اللغة اليومية التي يستخدمها من يتحدث بهذه اللغة منذ سنوات طفولته الأولى.
هل تعتقد أنك أنتجت عملاً أدبياً كما كنت تطمح له وهل أنت راض عنه؟
ـ أعتبر أن مهمتي ككاتب قد انتهت بعد وضعي نقطة نهاية العمل، والقول الفصل الآن للقراء والنقاد القادرين على إبداء رأيهم حول تفاصيل الرواية وشخوصها ومتانة حبكتها، أنا مؤمن بمقولة أن أفضل رواية للكاتب هي التي لم يكتبها بعد، نعم، ارتبطت كتابة «ساعة الصفر 00:00» بظروف خاصة، وتم الاشتغال عليها بعناية كبيرة، لكنني لا أعتبرها أقصى ما يمكنني تقديمه للرواية المغربية والعربية، أعمل باستمرار على تطوير نقاط قوتي ومعالجة أوجه ضعفي في الكتابة، وأواصل تنويع قراءاتي وأتعرف على أساليب وتقنيات روائية جديدة، في أفق الاشتغال على أفكار ومشاريع جديدة أرجو وأطمح إلى أن تشكل إضافة نوعية للأدب المغربي والأدب العربي.
كاتب وناقد مغربيّ