غياب الرحمة وطغيان الظلم في «أحرف العلّة وعلل أخرى» لرسلان عودة

وليدة عنتابي

صدرت حديثاً عن «دال للنشر والتوزيع» ـ دمشق، مجموعة قصصية بعنوان «أحرف العلّة وعللٌ أخرى»، للأديب رسلان عودة. وتقع المجموعة في تسع وخمسين ومئة صفحة من القطع الوسط. يضمّها غلاف مائيّ الصورة رشق فيه مكعّب دمويّ بكرياته البيضاء والحمراء، ليتشظّى جسد الماء من حوله مُحدثاً تحته ركاماً قاتماً أشبه بالظلّ، ما يشي بركود دمويّ لزمن يتفسّخ إنسانياً في طرق غير قابلة للاستئناف.

تضمّ المجموعة أربع عشرة قصة مشغولة بخيوط الوجع في غياب الوجدان وطغيان التعدين. واستهلّ الكاتب مجموعته بالقصة الأولى «اللآلئ»، حيث يتعرض الراوي في تلك القصّة إلى طقوس تفتيشية ما تلبث أن تنقلب إلى معضلة مقلقة تتفشّى فيها الحيرة والحرج ونفاذ الصبر، حين ينطلق صفير خفيف من ممرّ الكشف عن الممنوعات لدى عبوره خلاله، فيعاد تفتيشه ويخضع لعمليات متعدّدة من الفحوصات والتقنيات البحثية، إلى أن يكتشف في النهاية أنه خضع لعمل جراحيّ استؤصل فيه عدد من الشظايا الصغيرة بقنابل من حرب كان فيها، لتنتهي القصّة بتخلّي الراوي عن جواز سفره وهويته، محتفظاً بكيس الشظايا التي أطلق عليها اسم «لآلئه»، حيث يخرج عارياً إلى فضاء عالمه الذي استلب منه ليستردّه مجدّداً. وهو خروج يركّز فيه الكاتب على لا معقولية زمن طغت فيه الآلية على الطبيعية.

وفي قصّته الثانية «الوسام»، يعتمد الكاتب تقنية فنية عالية بتداخل الأحداث في تقابل، بربط ما بينها بما يثيره التداعي الحرّ للأفكار من ذكريات ومحدثات بين ماضٍ مدمّى وحاضر أكثر ضراوة ووحشية. إسقاط مرعب لجلافة الجلاد وجبروته على رقّة الضحية وضعفها، وامتطاء غير بشريّ لأسباب لا تؤدّي أبداً إلا إلى نتائج وهمية من صنع خيال مريض لشخصية سوداوية وسادية في الوقت ذاته، إنها إسقاط لما تعانيه في جلد الذات على الآخر.

وتحكي قصّة «أهل الكهف» ظلمات النفوس المعتلة بما يشبه الذئبية المصابة بسعار الحواس، في حيّز زمانيّ مكانيّ تنتفي فيه إنسانية الإنسان، لينطلق فحيح الغابة من صدور أثقلها صخر اللامبالاة وتحجّر الروح، حين يكون التعدّي والظلم والجور نواميس البطلان.

تتآمر أحرف العلّة على روح «مسعود» في القصة التي تحمل عنوان المجموعة، لتنخر فيها كل ما هو جميل وعفوي، فيتأزم الكائن البشري تحت ضغط القهر والغضب والحرب، في زمن فقدت فيه فلسطين عذرية الانتماء، لتسقط سبية بين براثن غيلان المكر والخديعة، حيث يأسين الماء ويتعطّن الهواء وتبطل الأشياء. ويفقد البيض صلاحيته حين يعتلّ الدجاج… دجاج الحاضر بوباء القادم، ويتكلّس معه كلّ أمل في الحياة.

في قصّة «لا ظلّ لي»، تنطق المأساة البشرية بلسان الجنين في رحلة النمو والتطوّر داخل الرحم ليتابع في مرحلة الرضيع الذي لا حول له ولا قوة، معضلة وجوده في قسوة الطبيعة حين تحكمها الغفلة، ليختنق بين ضفّتي حنان أبله منقوص الإحساس. رصد مشحون بمصداقية حيّة أثقلته معاناة جارحة، وتقمّص لشخصية الرضيع بدءاً بمرحلته الجنينية، في قمة الإثارة والروعة.

تنقلب الموازين والمعايير في قصة «عبدون»، وتستحيل الحياة في العودة كما كانت قبل بلوغه مرحلة الرجولة، ليكتشف أنه الابن غير الشرعي لأمّه وأبيه وأخواته البنات، فيسقط في بئر مأساته مثخناً بجراح الروح في ظل أحكام جامدة صادمة، تنتفي فيها المشاعر الإنسانية وتحكمها الأعراف البشرية.

«الوحوش في الغابة الأخرى» قصة الوحوش الطبيعية التي استلّ منها البشري وحشيتها واتّخذها سلاح إرهاب وفساد، واستشرى طغيانه حتى بات أشدّ ضراوة من الوحوش ذاتها. وهنا لم يعد الراوي خائفاً من الوحوش بل من أشباهها من البشر التي هجرت إنسانيتها وتحوّلت إلى قطعان إرهاب ودمار لكلّ ما هو خير وجميل.

تتبدّى قصة «غاب نهار آخر» لوحة مقتطعة من جحيم الإرهاب والعدوان، تتفجر شظاياها في أرجاء المكان ووجدان الزمان، لا تفرّق بين طفل وكهل وبين بريء ومُدان. جاءت على شكل يوميات تؤرخ لأحداث وحشية دامية افتعلها مستعمر شرس لا يرحم، ويجسّد ما تقشعر له الأبدان، في ملحمة الدم والنار، حيث تنتهي الأمّ القتيلة وابنها الصبي في حمّالة واحدة إلى جانب الطبيب المصاب.

«دم وزعتر» قصة الفتية الذين لم يستطيعوا حماية وحيد أمه من وحشية غدر متربّص بطفولته، ولفافة الزيت والزعتر التي تخضّبت بدم طازج يانع، وتشهد على استهتار وضراوة ووحشية نفوس غادرت إنسانيتها، وتلوّث ضمائر تعفّنت وتحجر قلوب ليست كالقلوب.

«كان يوماً ماطراً»، تحكي هذه القصة عن التحدّي الأعزل ضدّ تحصينات العدو تحدّ من دون سلاح سوى العزم والتصميم على انتزاع الحقّ من أيدي سالبيه.

إنه فوران الدم المدجّج بصبر طال انتظاره وتجاوز الاحتمال. واجتاح كالسيل كل ما من شأنه أن يمنع حميا تدفقه في سكرات مرارات معتقة بذكرى يوم النكبة الذي تحول إلى انطلاقة ثالثة ممهورة بدم زكي، على الذي طال انتظار تطهره من تدرّن الاحتلال.

«لوسي» تحكي قصة الموت الحقيقي للأب قبل موته الفزيولوجي الذي بدأ لحظة ودع الرجال إلى سفن المنافي، ليدخل في غيبوبة الصاحي، وتنتقل بطلة القصة من خلال تداعياتها السفرية داخل الطائرة المحلقة فوق معالم محفورة في أعماق الوجدان بإزميل الأصالة والعرفان، إلى أن تتساوى في الطائرة و«لوسي»، هرّة جارتها، الهرة التي امتازت بحقوق بشرية وأخوّة إنسانية، حين حصلت على جواز سفر ممهور بختم «لا فضل لإنسان على حيوان».

«نصف ساعة»، إنّها قصة الوجع الواخز حتى العظم، قصّة الغياب الروحي للأب في بيت يتقلّد أعباء المال ذريعة لامتناع الحضر الأبوي وانحسار التواصل والدفء الأسروي في متلازمة مضاربة غير عادلة، تضحي بالحنان والاحتواء لصالح المادة، حيث يتأزم الفتى المتلهف لحضور والده وتواصله معه، ليستقر قراره على أن يدّخر من مصروفه الشخصي ما يساوي نصف ساعة في اعتقاده من وقت والده الثمين ليحظى بلقاء بعد أن أعياه الانتظار، وأضناه الاحتياج الروحي والنفسي لهذا الأب.

«شال ليلى»، تتظاهر الأشياء ضدّ جمودها متقلّدة تمرّدها من خلال انفراج ستارة تفصل بين البيت الزوجي وبين العالم الخارجي. لتنزاح تلك الوصاية القاتلة عن أنفاس أبت أن تزهق داخل شرنقة أحكم حبكها الزوج المتعنّت السجّان. لتخرج من تابوتها إلى فضاء أرحم، معانقة حرّيتها التي التفت بشال بشاراتها على انفطار قلب التمثال القابع في أعماق وجودها والمتجسد في الحديقة المقابلة لمنفذها الوحيد، الممنوع على العالم. ذلك التمثال الذي أثخن بدموع السماء تحت عزيف المطارق والفؤوس.

في مجموعته القصصية «أحرف العلّة وعلل أخرى»، يشخّص لنا الأديب رسلان عودة أوراماً تفشّت في الأرواح، وضاقت بها النفوس، مصوّراً بمخيّلته المتأزمة المشحونة بمشاهد آلام المنكوبين المحرومين المضطهدين المحبطين المستلبين، لصالح الطغيان والاستبداد والبطلان.

من خلال تنوّع في تناول الحدث أسلوباً ولغة وتصويراً، ومن حيث تباين الشخوص في حراكها الزمني ونموّها المضطرد باتجاه التغيّر والتمرّد وتجاوز واقعها، رغم ملاحم الدم والنار.

إنه في تحليله الدقيق وتشخيصه الفاحص المصيب لتلك العلل التي باتت أشبه بأحمال ثقيلة وجب التخلّص منها، ينتقل بنا إلى بؤرة المعاناة، ويضعنا على فوهة بركان قلقنا وفي صميم عرينا الروحي والخلقي.

قصص أشبه بلوحات قدّت من جحيم المعاناة، ورسمت بريشة الحسبان دقة واقتصاداً في تكثيف يشير ويوحي أكثر مما ينبئ ويخبّر، فتلامس في النفس جراحاً تستعصي على الاندمال، وتترك في القلب غصّة مستديمة. إنها حكايات الواقع المرّ في كلّ زمان ومكان.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى