لماذا يندثر العرب تحت أنقاض قضاياهم ومشاكلهم؟
د. لبيب قمحاوي
الدافع إلى الكتابة يعود في العادة إلى وجود قضية أو فكرة أو معلومة تتطلب العرض أو التحليل ومشاركة الآخرين سواء بأفكارهم وآرائهم أو بأفعالهم. ولكن عندما تصبح الكتابة هدفاً بحدّ ذاته، فإنها قد تتحوّل إلى طاقة تائهة ذات مفعول سلبي في الغالب، ما قد يبعث على الملل وحتى الرفض من قبل الآخرين.
العديد من القضايا والمشاكل العربية قيد البحث والنقاش والاهتمام العام قد أثبتت قدرة فائقة على البقاء والاستمرار العنيد مثل قضية الاحتلال الصهيوني لفلسطين وقضايا استفحال الفساد وغياب الديمقراطية والاقتتال الأهلي وقضية الإرهاب إلخ… إنّ الاستمرار في الكتابة في هذه المواضيع قد أصبح بالنسبة إلى البعض أمراً مُستهلكاً أو مُكرّراً بشكل يبعث على الملل.
ما العمل إذا كان أصحاب الرأي الآخر أو الموقف الآخر أكثر نفوذاً وقوة وقدرة على استعمال كافة الموارد بما فيها موارد الدولة لصالحهم ولصالح سياساتهم وممارساتهم التي يرفضها الكثيرون بل وتبعث على غضبهم؟
هل التوقف عن الكتابة هو الحلّ؟ أم الصمت والانسحاب إلى صفوف الأغلبية الصامتة؟ أم الاستسلام لإرادة القوي وبالتالي التسليم بكلّ ما يصدر عنه؟
ماذا نقول لأنفسنا وماذا نقول لغيرنا؟ ماذا نقول لأبنائنا وماذا سنقول لأحفادنا؟ هل الفشل هو إرادة ذاتية أم واقع عام تفرضه لامبالاة الكثيرين وعدم رغبتهم بالتضحية سواء بالنفس أو بالوقت أو بالجهد أوبالمال؟
يفتقر العرب إلى الحكمة في أسلوب تعاملهم العام مع مشاكلهم وقضاياهم العديدة كونهم يقفزون بينها من قضية لم يتمّ حلها أو تفكيك عُقدِها إلى قضية أخرى مُسْتعْصية أو مُسْتحدثة! فالعرب في العادة يَملّون من قضاياهم المتقادِمة ومن فشلهم في حلها أو فكّ عُقَدِها لينتقلوا إلى قضايا أخرى تنتهي أيضاً بفشلهم وعجزهم وهكذا دواليك، وإلى الحدّ الذي تتراكم فيه القضايا وتنمو وتتعقد لتصبح جزءاً من الصورة العربية المقيتة والواقع العربي السيّئ.
هل العرب أمة واحدة؟ وإذا كانوا كذلك فهل هم أمة حَيَّة أم أمة فاشلة؟ هل العرب سادة أقدارهم أم عبيد لتلك الأقدار؟ أسئلة عديدة هامة تصبّ في واقع العرب ومستقبلهم والإجابات عليها ولو باختصار قد تشكل المدخل الواقعي إلى استيعاب طبيعة مشاكل العرب وقضاياهم وأبعادها.
لعلّ قضية فلسطين هي من أهمّ وأعقد القضايا التي يجابهها العرب. ومع أنّ من الصحيح القول مثلاً إنّ إنشاء دولة «إسرائيل» على الأرض الفلسطينية كان نتيجة تآمر دولي، إلا أنّ الأكثر صحة هو الاعتراف بأنّ انتصارات «إسرائيل» العسكرية المتعاقبة كانت نتيجة هزيمة العرب لأنفسهم في الدرجة الأولى وتآمر حكامهم المتخاذلين. وهكذا فإنّ العقدة النفسية العربية تجاه عدم إمكانية إحراز نصر عسكري على «إسرائيل» هي عقدة وهمية تتجاهل حقيقة أنّ انتصارات «إسرائيل» جاءت نتيجة الضعف العربي أكثر منها نتيجة القوة «الإسرائيلية». والاستسلام الطوعي العربي والفلسطيني لِوَهْم «السلام مع إسرائيل» كحلّ وحيد في ظلّ استفحال وَهْم عدم إمكانية الحلّ العسكري، إنما يعكس تدهور الحال العربي العام وانحطاط وضع العرب النفسي وتآكل منظومة القيم الوطنية لديهم وغياب الاستعداد الحقيقي للتضحية بعكس باقي الشعوب الحية. فغياب الحرب لا يعني بالضرورة وجود السلام، وافتراض ذلك من قبل البعض يجعل من شعار السلام وسيلة للاستسلام كما هو عليه الحال الآن، وطريقاً يتمّ فتحها أمام الآخرين للولوج فيها تحت شعار السلام الزائف، في حين أنّ المقصود فعلاً هو القفز فوق عقدة عدم إمكانية الانتصار العسكري على «إسرائيل» وبالتالي القفز إلى أحضان الجانب الآخر وهو «إسرائيل» على حساب الفلسطينيين وحقوقهم. وفي كلّ الأحوال، علينا الإقرار أيضاً بأنّ شهوة الحكم لدى القيادات الفلسطينية فاقت هدف التحرير، ما قضى بالنتيجة على مسيرة الكفاح والنضال الفلسطيني وحَوَّلَ الثورة الفلسطينية إلى رماد كثيف يغطي ذنوب وخطايا وخيانات بعض قادتها.
«الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً» جملة لم تأتِ من فراغ. فالعرب ومنهم الأَعراب يفتعلون الأزمات في ما بينهم، وَهُمْ في العادة أقسى على أنفسهم وأبناء جلدتهم من قسوة الغرباء عليهم. والحروب الأهلية والأزمات العربية في لبنان ثم العراق وليبيا وسورية واليمن مثال على تلك القسوة الدموية. وافتعال الأزمات بين الكيانات العربية لأسباب شخصية أو عشائرية أو قبَلية أو ذاتية، وتحويلها إلى قضايا عامة تمسّ شعوباً وأوطاناً بأكملها قد أصبحت ممارسة عربية عادية تعكس تفاقم حالة الانحلال العربي والتدهور في منظومة القيم وما ترَتبَهُ الرابطة القومية من التزامات على الشعوب العربية. وما يسمّى الآن مثلاً بأزمة الخليج والمتمثلة في الخلاف بين قطر من جهة وأربع دول عربية من جهة أخرى إنما هي مثال مؤلم على ذلك وترجمة لواقع الحال العربي السائد حالياً والذي يسمح لآخرين باستعمال العرب واستغلال خلافاتهم المحلية كمدخل إلى تنفيذ سياسات إقليمية مقبلة من جهات غير عربية، قد تكون لها آثار سلبية أو مُدَمّرَة على العالم العربي أو، في أحسن الأحوال، على بعض الدول العربية. أمَّا العيب فهو أن تتطوّر الأمور إلى حدّ استعانة بعض العرب بقوات أجنبية ضدّ إخوتهم من العرب، أو أن تتوسّط دول أجنبية لإصلاح ذات البين بين العرب المتخاصمين من دون أيّ اعتبار للحقيقة المرّة وهي أنّ هذه الدول تعمل في نهاية المطاف لحماية مصالحها من دون أيّ اعتبار لمصالح الآخرين.
تكتسب قيَمْ الاعتدال معناها الحقيقي عند مقارنتها بِقيَمْ التشدُّد والتزمُّت والتطرف. وهي بذلك تكون في أصولها قيَماً نسبية وليست مُطلقة. ولكن علينا الاعتراف بأنّ قيم التشدُّد والتزمُّت والتطرف تنبع من داخلنا أيضاً ومن رحم الأمة وهي غالباً ما تكون إما نتيجةً للجهل، أو ردّ فعل لحالات متفاقمة من الظلم والاستبداد. وفي العادة تتمّ تغذية تلك القيم من قبل الأنظمة الحاكمة، خصوصاً قيم التزمت والتشدُّد المستندة إلى الجهل، كوسيلة لتقوية سلطة الحاكم الظالم وتسلطه، ومن الأمثلة على ذلك الحركة الوهّابية في السعودية وبعض تفرُّعات حركة الإخوان المسلمين. والدول الغربية الاستعمارية غالباً ما استُعملت وتستعمل تلك الحركات المتزمتة لدعم مصالحها كما حصل في حقبة الحرب الباردة عندما استُعْمِلَ الإسلام السياسي المتشدّد والمتزمِّت مثل حركة القاعدة والإخوان المسلمين لقتال الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفياتي. ولكن عندما انتقل الخطر ليهدّد مصالح العالم الغربي تحوّلت تلك التنظيمات نفسها من حليف إلى عدو، وأصبح العمل ضدّها وضدّ قيم التزمت والتشدّد مطلباً دولياً حتى ولو استعْمل ذلك كمدخل إلى الإخلال بمصالح بعض الدول العربية.
الإرهاب ليس مشكلة عربية أو اختراعاً إسلامياً. فالعرب والمسلمون، كانوا أدوات تمّ تسخيرها واستعمالها من قبل الآخرين في سعيهم إلى تكريس ظاهرة الإرهاب وخطرها على السلم الدولي. والإرهاب في أصوله اصطلاح غربي مَعْناه ما زال غامضاً وأبْعَاده مُفصَّلة تفصيلاً على مقاس العرب والمسلمين بهدف ابتزازهم من جهة واستعمالهم كأدوات لتدمير دولهم أو دول عربية أخرى أو بعضهم البعض من جهة ثانية تحت ستار «الحرب على الإرهاب». وبعد أن تمّ تدمير دول عربية عديدة، يبدو أنّ الدور الآن على أهمّ دولتين إسلاميتين في الإقليم وهما تركيا وإيران حيث تشير العديد من الشواخص إلى نوايا أميركا والغرب لتقسيم الدولتين المذكورتين وتمزيق وتشتيت الدول الإسلامية الكبيرة بشكل عام وشرذمتها إلى دويلات متنافرة وتشجيع الولاءات المذهبية أو العرقية الفرعية لتسهيل تلك المهمة. ناهيك عما يجري الآن من محاولات جادة ومستمرة لتمزيق مصر من خلال اختلاق صراع طائفي لا أُسُسْ حقيقية له ويتمّ افتعاله من خلال عمليات إجرامية يومية باسم الإسلام ضدّ المواطنين المصريين المسيحيين.
ويبقى السؤال الأساس ما إذا كانت الحرب على الإرهاب هي قضية عسكرية حصراً أم أنّ لها أوجهاً عديدة أخرى قد تكون في نفس أهمية الحلّ العسكري، هذا إنْ لم تفُقه أهمية؟
الحلّ العسكري هو ما تريده أميركا والغرب كونه يشكل الأداة والمدخل إلى تنفيذ مخططاتها. وهذا يفسّر لماذا تمتنع الأطراف المنادية بالحرب على الإرهاب، العربية منها وغير العربية، عن التفكير في أيّ وسيلة أخرى للتصدّي للإرهاب ووضع حَدّ له واقتصار الأمر على الخيار العسكري. كما أنه يفسّر أيضاً إصرار كافة الأطراف المعنية على تجاهل الأسباب الحقيقية المؤدّية إلى الإرهاب مثل الفقر والبطالة والظلم والفساد والقهر والاحتلال التي تؤدّي إما إلى الغضب والثورة أو إلى اختيار مسار التزمُّت والعنف والاعتكاف الديني أو المذهبي. فالهدف من رفع شعار «الحرب على الإرهاب» ليس إصلاح الخلل القائم في الدول المعنية، بل تدمير تلك الدول وتمزيقها كما يحصل الآن في العراق وسورية وليبيا واليمن.
قضايا العرب ومشاكلهم سواء أكانت من صنع غيرهم أم من صنع أياديهم لم تكن لولا أنّ حكامهم قد رغبوا بذلك وساهموا فيه والشعوب سمحت لهم بفعل ما يريدون إما خوفاً أو جهلاً. والتاريخ سوف يكون قاسياً في حكمه على العرب لأنهم فرَّطوا وما زالوا بأنفسهم وثرواتهم وكرامتهم لإرضاء حُكّامهم بكلّ نزواتهم وشذوذهم السياسي واستعدادهم للانحناء أمام جبروت ورغبات الأجنبي.
lkamhawi cessco.com.jo
مفكر وسياسي