أمية درغام لـ«البناء»: الجمهور مثقل بالهموم وليس غبياً… وخشبة الخلاص الوحيدة هي أن نكون نحن
حاورتها عبير حمدان
تمكّنت من تطويع اللغة في إطارها المهني وانغمست في مهنة المتاعب لفترة طويلة. أمية درغام، الصحافية الحائزة على ماجستير في علم التواصل والإعلام، والشاعرة التي رسمت تفاصيل الحياة بالعامية وأصدرتها قرصاً مدمجاً حمل عنوان «كيفني»، وتعمل على كتاب «كما ولادة» الذي سيصدر قريباً ويضمّ خواطر كتبتها على مدى سنوات، عادت اليوم إلى خشبة المسرح بعد عشرين سنة من التحاقها بكلية الفنون، ساعيةً إلى استرداد جزء من ذاتها التي سرقها العمل والسفر.
ترى درغام أن رهبة المسرح أشدّ وطأة من الإعلام حيث تكون تحت الضوء ولا مجال للتراجع أو التنقيح. وحين خطت من الكواليس إلى الخشبة سمعت نبض قلبها وبدأ التحدّي وفعل التواصل المباشر مع المحيط البشري، من دون أيّ تجميل أو إعادة تدقيق في نصّ مكتوب قبيل النشر. هي جزء من كل اختارت أن تشاركهم المغامرة حتى المشهد الأخير حيث تُسدل الستارة، فكان العمل نتاجاً مشتركاً لجهة الكتابة، كلّ مشارك كتب رؤيته في ظل «سيستم» يتحكم بدورة الحياة وتفاصيلها، وجدلية التأقلم مع الروح العالقة بين وهم الحرّية وسطوة القيود.
لا تعترف درغام بمقولة «الفنّ للفنّ». بنظرها، الجمهور ليس غبياً على الإطلاق، إنما هو جمهور متعب ومثقل بالهموم المرهِقة، ولكن كيفية الترفيه عنه يجب ألا تتّسم بالتسطيح، إنما تتطلب من المثقفين والكتّاب تقديم مادة راقية تستحضر الضحكة العميقة لا البلهاء.
كثيرة هي المحاور التي قد نطرحها مع درغام، وقد لا يكفي لقاء صحافي للإضاءة على الواقع الثقافي الفني والمسرحي، وحتى الإعلامي الذي خبرته وبرعت فيه. لكن كان لا بدّ من الوقوفوعند نهاية العرض على تفاصيل التجربة التي خاضتها على مسرح «مونو» ـ الأشرفية في عمل تميّز بروح المشاركة، ما منحه صفة الصدق التي تحثّنا على الأمل الذي يتطلّع إليه الجمهور، كونه جزءاً من مسرح الحياة الكبير، وقد يرى نفسه على خشبة المسرح الصغير. ولو كان «مسرح شغل بيت».
من الإعلام حيث عملت لعشر سنوات في «النهار»، ثم مديرة تحرير لمجلة «الحسناء»، فالسفر للعمل خارجاً والعودة، عشرون سنة فصلتكِ عن المسرح الذي دخلت إليه طالبة في كلّية الفنون، ولكن العمل الإعلامي سرقكِ منه، لماذا العودة إلى الخشبة؟
ـ المسرح عشقي الأول والأخير، ولكنّ رهبته أشدّ وطأة من الإعلام لسبب وهو أنني امتهنت الكتابة في الصحف. وبذلك كان عندي المجال لمراجعة ما كتبت ولتنقيحه وتوضيح جملة وجدتها غامضة بعض الشيء للقارئ، فيما المسرح له إطلالة ليس بالوسع العودة فيها وإليها وتنقيحها. بوسعكِ تلقّي الملاحظات من المخرج وربما مساعد المخرج، ولكن لحظة الإطلالة أنتِ وحيدة أمام الضوء ورهبة الحضور بالشخصية التي تقمّصتها، هي دقائق يرتفع فيها الأدرينالين ربما في الجسد. لقد سمعت صوت نبض قلبي قبل الخروج من الكواليس إلى الخشبة. هي دقائق وتصبحين وحدك أمام التحدّي، أمام الإجادة بالدور وأمام سحر تتّحّين فيه بين الشخصية والحضور، تصبحين وحدك فعلاً وأنتِ الشخصية والحضور عبارة عن أرواح تسكنُكِ وقد يكون هناك من هذه الأرواح من هو متجسّد وحاضر. ولكن هي بمدى سُكنى أفكارك عن هذه الأرواح في داخلك. وبالتالي يبقى المسرح أقوى وسيلة للتواصل المباشر من دون أيّ وسائط.
كيف تقيّمين تجربتك في مسرحية «سيستم» التي عُرضت أخيراً على خشبة مسرح «مونو» ـ الأشرفية؟
ـ هذه التجربة ما كانت لولا الصدفة المقصودة. كنتُ دوماً أتابع الجديد في الدورات التدريبية المسرحية. وهناك أسماء مهمّة جداً مسرحياً كانت تقوم بهذه الدورات من عايدة صبرا وميشال جبر ورويدا الغالي وفايق حميصي وسواهم. غير أن هذه الدورات كانت حينذاك تمتد لعدّة أيام، لأسبوع أو اثنين أو شهر، وكنت بعد هذا الانقطاع عن دراسة التمثيل لسنوات طويلة ـ طبعاً لم يكن انقطاعاً عن متابعة الحركة المسرحية في لبنان ـ أحتاج إلى ما هو أكثر من حيث الوقت. أعرف أنّي بطيئة في أيّ أمر أريد إنجازه، أفضل البطء على السرعة في الإنجاز كي أكون قد استوعبت تماماً ما أقوم به، وصار جزءاً مني، فشاءت الصدف أن رأيت إعلاناً عن دورة تدريبية تمتد لستة أشهر في محترف ناشئ حديثاً هو «مسرح شغل بيت» الذي أسّسه ويديره المخرج شادي الهبر. فاتصلت ووجدتني قد بدأت هذا المشروع الذي ساهمت شخصية الهبر في جذبي إلى متابعته حتى نهاياته.
من هنا، بوسعي تقييم المسرحية بناءً على طبيعتها، هي مسرحية تخرّج بشكلٍ ما، خطوة أولى، وحضورنا كان من الأهل والأقارب والأصحاب المقرّبين وجزء يسير من الصحافيين والإعلاميين. المسرحية عمل مشترك لجهة كتابة النص، كثيرون منّا ـ ونحن كنّا تسعة على المسرح ـ كتبوا بأنفسهم نصوصهم، ومنهم من استعان بزميل معنا كاتب وصحافي لكتابة دوره، وكان لا بدّ من جمع هذه النصوص في فكرة معيّنة فاخترنا لها مجتمعين فكرة النظام الذي يسيّر العالم ويكتب تصرّفات الناس وسلوكياتهم ضمن مسار معيّن، وبالتالي يرسم حياتنا جميعاً ويسيطر عليها. السائد هو أن تستفيقي وتذهبي إلى العمل لتنجزي شيئاً ما أو يتهيّأ لكِ أنّك أنجزتِ شيئاً لتعودي وترتاحي من أجل يومٍ تالٍ، نظام له تعريفة وورقة مالية تُقاس به قيمته، وقيمة عملك فيه باللون الأخضر أي الدولار. وتُختصر قيمة وجودكِ كلّها ضمن هذا النظام «سيستم» بها. فكانت الفكرة أنه ماذا لو «اخترب» هذا النظام المتحكّم بنا، فهل ستتحرّر أرواحنا، هل سنتحرّر، أم أنها حالة «حرّية» موهومة وقيد آخر طالما أننا لسنا أحراراً فعلاً وإننا مقيّدون. كل شخصية على خشبة المسرح عبّرت بطريقتها عن الموضوع قبل أن يعود هذا النظام إلى حاله ونعود إلى السير به ناسين مشاعرنا وأحلامنا وكل شيء.
وماذا عن نصّكِ، ماذا أردتِ القول به أو إيصاله. هل من رسالة ما؟
بدايةً، أنا ضدّ مقولة «الفنّ للفنّ». الفنّ رسالة ووسيلة وغاية، وأعتقد لو سمحت لي بالشرح أن هذه المقولة هي عبارة تبريرية لكل شيء ومنها الأعمال التي لا ينتج عنها إلا بشاعة أو الأعمال التي لا يفهمها أحد حتى صاحبها. النص العبثي لديه رسالة والعزف الموسيقي على الآلات البدائية كالمنشار والملعقة والكؤوس والبراميل له جمالياته. البعض يكتبون ما لا يفهمونه هم ولا يفهمه أحد، أو يعزفون لحناً ليس بلحن، وحين تعترضين يقولون لكِ إنّ العمل هو فنّ للفنّ وأنك أنتِ العاجزة عن فهمه. هي خزعبلات تبريرية برأيي لأن الفنّ كلما كان ملتصقاً بكِ وبفكرة أو أفكار ويقدّم جماليات معيّنة كان حقيقياً أكثر حتى في جزئه العبثي أو المنفلت. أنا نظرت إلى فكرة «السيستم» والتي تبدأ على الخشبة بحركات متكرّرة شبه آلية على موسيقى الوقت لفرقة بينك فلويد إلى كينونتي هنا في هذا الحيّز الزماني والمكاني وإلى الحرية الموهومة المقيّدة بنا نحن، لذا هي عاجزة كمفهوم من إحداث نهضة ما، حركة تقدّمية في مجتمعنا. الشخصية التي رسمتها في نصي هي شخصية امرأة ضائعة بين اقتناعها بضرورة حمل قضية محقّة وبين شعورها بالنقص اجتماعياً في علاقتها مع الرجل. هي مكبّلة بأفكار وحيثيات معيشية تحول دون فهمها للحرية. كما أن وضعها بعد أن «اخترب» النظام واعتقدت أنها تحرّرت وبدأت باكتشاف نفسها يشبه بسوئه وضعها في هذا النظام. هي مكبّلة بعلاقتها غير الواضحة بالرجل ومكبّلة بعدم اتضاح هويتها، فالهوية ملتبسة، هوية تارة مناطقية وتارة دينية وطائفية وتحتار أي دورٍ ستلعب وسط عدم اتضاح الهوية القومية عندها، لنكتشف أن الخيانة على كل الصعد هي المسبّب لضياعها. وكان لي الحظ أن أتدرّب مع «مسرح شغل بيت» لأن المجال كان مفتوحاً على الخشبة للتعبير عن فكرتي. وأكاد أجزم أن هذا ما أتيح للجميع بما أن العمل مجموعة نصوص ومواقف أحبّ الزملاء كل منهم على حدة التعبير عنها.
ماذا عن التسطيح الذي نرتع به في زمننا الحاضر في عددٍ من الفنون؟
لا أدّعي أننا تمكّنا من الدخول بعمق في الأفكار. لأنه كما أشرت هي عبارة عن مسرحية تخرّج جمعت عدداً من الأفكار والمواقف. وبالتالي عليكِ النظر إلى كل نصّ فيها وأداء ممثّل على حدة. ولكن بالنسبة للتسطيح، أشرت سابقاً إلى مقولة «الفنّ للفنّ»، وأين تستخدم ولتبرير ماذا. هناك أيضاً عوامل أخرى ومنها عوامل تجارية بحته، حيث تجدين ربما كثافة في الانتاج المسرحي والتلفزيوني والـ«يوتيوبي»، في جزء منه الغاية الأساسية تحقيق الربح، ولا ضير بذلك فالمخرج والممثل وكل عامل في الحقل الفنّي هو إنسان يريد أن يعيش بكرامته ولكن هناك خطاً فاصلاً يبدو أنه صار رفيعاً جداً فمُيّعت فيه الأمور وصارت التجارة هي الملكة لا الفكرة. ولكن في المقابل، لن يحقق ربحاً من لا يقدّم شيئاً يحبّه الجمهور، والجمهور ليس كما نعتقد، فهو ليس غبياً أبداً، وهو أكثر صراحةً من الصحافيين والإعلاميين والنقّاد الفنيين، فهؤلاء تحكمهم مصلحة ما وعلاقات شخصية مع الذي يقدّم عملاً فنيّاً وبالتالي قد يخجل أن يبوح بصراحة إذا ما لم يعجبه عمل ما. في المقابل، وأمام ما قلنا أنه فعل تسطيح، هناك أعمال مهمة جداً ويستمر عرضها لأشهر، ليس ذلك مقياساً، إنما هناك ما لامس فعلاً هذا الجمهور ليتدافع ويتابع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تجدين أن الناس يميلون أكثر إلى الضحك حتى على المأساة، لأننا جمهور متعب ومثقل بالهموم التي ترهقه وتقلقه، نريد أحياناً أن نرفّه ونرتاح، وهنا يأتي دور المثقفين وماذا سيقدّمون للجمهور، ترفيهاً يستخفّ بالعقول أو ترفيهاً جميلاً راقياً يرتفع بنا إلى الضحكة العميقة غير البلهاء.
هل من مشاريع مقبلة على خشبة المسرح؟
أتمنى ذلك لأن الأمر لا يتعلّق برغبتي الخاصة وجهدي وحسب. هناك عناصر متعدّدة تدخل في الموضوع. لا أزال ممثلة هاوية، وعندي دهشة تغزوني حين أرى أشخاصاً مثل جوليا قصار وندى أبو فرحات وسواهما يلتهمون خشبة المسرح التهاماً بشخصيّات يبرعون بإقناعنا أنها هم، وكذلك أستاذتي في كلية الفنون لسنة وحيدة تابعت فيها دراسة التمثيل والإخراج. عايدة صبرا مثالاً، هي عرفت كيف تذهب بالـ«يوتيوب» إلى منطقتها الإبداعية هي وبشخصية «الستّ نجاح» التي التصقت بنا، لتعبّر في أفلام مدّتها دقائق معدودة عن همومنا بطريقة كوميدية ساخرة. هناك أسماء كثيرة أثبتت لسنوات نفسها وبجهد والتزام فنّيين لافتين، ومنهم رويدا الغالي التي تعلّم أيضاً في كلّية الفنون الرقص التعبيري وهي ملكة حقيقية تأسرنا ولا أزال إلى اليوم كلّما تحرّكت خطوة على المسرح حتى في خيالي تحضُرني صفوفها. ربما يرى مخرج ما وكاتب نصّ مسرحيّ أن بوسعي أداء شخصية ما ضمن عمل عام، وربما لا. فأنا سيئة جداً في العلاقات العامة، لا بل أكثر من ذلك، أهرب من العلاقات العامة. فحين أرى عايدة صبرا أو رويدا الغالي أو سهام ناصر أسرع نحوهن وأقبّلهن لشوقي إليهن ولمدى تأثيرهن في حياتي بالصفوف القليلة التي حضرتها معهنّ ولا يهمّني ربما أن يتذكرنني أو أن يشركنني بعمل ولا أعرض ذلك عليهن. أكتفي بفرحتي بهنّ وبتقديري لهنّ، كتلميذ صفّ ابتدائي التقى بمعلمته التي عشقها. ولكن ـ وضمن عملي الصحافي على مدى 18 سنة ـ كنتُ كلّما حضرت مسرحية أعجبتني تخيّلت نفسي من ضمن فريق الممثلين لا الصحافية التي عليها أن تقدّم العمل كتابة في الصحيفة، وكان هذا الإحساس يتنازعني دوماً. خضت التجربة الآن وبعد كل هذه السنوات. أعود للانصراف إلى الكتابة التي أحبّ مجدّداً في انتظار فرصة سأتعلّم كيف أقتنصها عن جدارة.
هل من أمل في هذا الأفق؟
كلّ الأمل. لولاه لما رأينا كل هؤلاء الذين ذكرتهم وسواهم يقاومون. هم بالفعل يقاومون. إنهم يقاومون التفاهة والسخف ويقاومون المشاريع التجارية التي لا هدف لها سوى الربح بغضّ النظر عن المستوى الفنّي، ويقاومون تياراً قائماً بذاته يركّز على صورة المرأة ـ عارضة الأزياء ـ لا على براعتها في التمثيل، يقاومون نصوصاً تافهة سخيفة، يقاومون أحياناً إعلاماً يتغاضى عن براعتهم ليقدّم وجوهاً لا علاقة لها بالتمثيل والفنّ، يقاومون بكل معنى الكلمة اللافن السائد. في اعتقادي ليست المسألة فناً هابطاً وفنّاً راقياً، فكل ما هو هابط هو ساقط وهو ليس فنّاً، ولا يصلح تسميته فنّاً. وكل فنّ هو فنّ ملتزم أقلّه ملتزم بالجماليات. الأمل يبقى وهو الذي يسيّرنا على الرغم من كل الأهوال التي نعيشها في المنطقة. خشبة الخلاص الوحيدة هي أن نكون نحن لا أن نقلّد ولا أن ننجرّ نحو أفكار لا تشبهنا ولا تعبّر عنّا. كلما التصقنا بحقيقتنا برعنا وأبدعنا. وهذا ما يريده الجمهور الذي هو منّا ونحن منه.
تصوير شادي سالم